مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

مذهب الباطنية في القيامة والمعاد

   اتفق الباطنية عن آخرهم على إنكار القيامة وأن هذا النظام المشاهد في الدنيا من تعاقب الليل والنهار وحصول الإنسان من نطفة، والنطفة من إنسان، وتولد النبات وتولد الحيوانات لا يتصرم أبد الدهر، وأن السموات والأرض لا يتصور انعدام أجسامهم، وأولوا القيامة وقالوا إنها رمز إلى خروج الإمام وقيام قائم الزمان وهو السابع الناسخ للشرع المغير للأمر، وربما قال بعضهم إن للفلك أدوارا كلية تتبدل أحوال العالم تبدلا كليا بطوفان عام، أو سبب من الأسباب، فمعنى القيامة انقضاء دورنا الذي نحن فيه.
   وأما المعاد، فأنكروا ما ورد به الأنبياء، ولم يثبتوا الحشر والنشر للأجساد ولا الجنة والنار، ولكن قالوا معنى المعاد عود كل شيء إلى أصله، والإنسان متركب من العالم الروحاني الجسماني، أما الجسماني منه وهو جسده فمتركب من الأخلاط الأربعة: الصفراء والسوداء والبلغم والدم، فينحل الجسد ويعود كل خلط إلى الطبيعة العالية، أما الصفراء فتصير نارا وتصير السوداء ترابا ويصير الدم هواء ويصير البلغم ماء، وذلك هو معاد الجسد. وأما الروحاني وهو النفس المدركة العاقلة من الإنسان، فإنها إن صفيت بالمواظبة على العبادات، وزكيت بمجانبة الهوى والشهوات، وغذيت بغذاء العلوم والمعارف المتلقاة من الأئمة الهداة، اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحاني الذي منه انفصالها، وتسعد بالعود إلى وطنها الأصلي، ولذلك سمي رجوعا فقيل ارجعي إلى ربك راضية مرضية وهي الجنة، وإليه وقع الرمز بقصة آدم وكونه في الجنة ثم انفصاله عنها ونزوله إلى العالم السفلاني ثم عوده إليها بالآخرة، وزعموا أن كمال النفس بموتها، إذ به خلاصها من ضيق الجسد والعالم الجسماني، كما أن النطفة في الخلاص من ظلمات الرحم والخروج إلى فضاء العالم، والإنسان كالنطفة والعالم كالرحم والمعرفة كالغذاء، فإذا نفذت فيه صارت بالحقيقة كاملة وتخلصت، فإذا استعدت لفيض العلوم الروحانية باكتساب العلوم من الأئمة وسلوك طرقها المفيدة بإرشادهم استكملت عند مفارقة الجسد وظهر لها ما لم يظهر، ولذلك قال عليه السلام: “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”، وكلما ازدادت النفس عن عالم الحسيات بعدا ازدادت للعلوم الروحانية استعدادا، وكذلك إذا ركدت الحواس بالنوم اطلعت على عالم الغيب واستشعرت ما سيظهر في المستقبل إما بعينه فيغنى عن المعبر، أو بمثال فيحتاج إلى التعبير، فالنوم أخو الموت وفيه يظهر علم ما لم يكن في اليقظة، فكذا الموت تنكشف أمور لم تخطر على قلب بشر في الحياة، وهذا للنفوس التي قدستها الرياضة العملية والعلمية. فأما النفوس المنكوسة المغمورة في عالم الطبيعة المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين فإنها تبقى أبد الدهر في النار على معنى أنها تبقى في العالم الجسماني تتناسخها الأبدان، فلا تزال تتعرض فيها للألم والأسقام فلا تفارق جسدا إلا ويتلقاها آخر، ولذلك قال تعالى: “كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب”، فهذا مذهبهم في المعاد وهو بعينه مذهب الفلاسفة وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة، فكل واحد نصر مذهبهم طمعا في أموالهم وخلعهم واستظهارا باتباعهم لما كان قد ألفه في مذهبه فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة في الباطن، وللروافض والشيعة في الظاهر، وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة عن نفوس الخلق حتى تبطل به الرغبة والرهبة، ثم ما أوهموه وهذوا به لا يفهم في نفسه ولا يؤثر في ترغيب وترهيب…

المصدر: فضائح الباطنية: لأبي حامد الغزالي. تحقيق: عبد الرحمن بدوي.

مؤسسة دار الكتب الثقافية – الكويت. ص: 44.

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق