ليلة النصف من شعبان : الجائز والممنوع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بارئ الإنسان، مبدع الأكوان، خالق الشهور والأزمان، ميز شهر شعبان بمزيد فضل وإحسان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنام، وعلى زوجاته وآله بدور التمام ، وصحبه سادات الإسلام، ما دام الليل والنهار، وما غردت الأيك على الأشجار.
وبعد؛ فإن شهر شعبان من الأشهر المباركة، التي تلتمس فيه النفحات، وتعمر فيه الأوقات بالعبادات؛ بيد أنه على المسلم المُتبع أن يلتمس المسنون والمشروع في عبادة ربه؛ لأن الله تبارك وتعالى يحب أن يُعبد بما شرع في كتابه الكريم، وسنة بنيه الأمين، لا بما يشرع الناس لأنفسهم دون دليل، قال تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)[1]، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)[2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"[3].
ولما لشعبان من خصوصية في حياة المسلم الراغب في الخيرات؛ خصوصا ليلة النصف منه، فقد ارتأيت أن أخصها بهذا المقال الذي سأتناول فيه الآتي:
المطلب الأول: الجائز في ليلة النصف من شعبان من العبادات والأعمال.
المطلب الثاني:الممنوع غير المشروع في ليلة النصف من شعبان من العبادات والعادات والبدع.
وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:
المطلب الأول: الجائز في ليلة النصف من شعبان من العبادات والأعمال:
إن ليلة النصف من شعبان يشرع فيها ما يشرع في باقي أيام شهر شعبان، من صيام نهارها، وإعمار أوقاتها بالطاعات المختلفة من ذكر، وقيام، وصلاة، وصدقة، وإحسان، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ... الخ. ولا يجب تخصيصها وإفرادها وحدها دون سائر شعبان، فهذا لم يثبت فيه دليل، أما الصيام فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأنه أفضل شهر للصيام بعد رمضان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: شعبان لتعظيم رمضان "[4] .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الإكثار من صيام شهر شعبان كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان"[5] .
أما تخصيص ليلة النصف من شعبان بنوع خاص من أنواع العبادات فليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت ذلك لاستفاض وداع مثلما هو ثابت في ليلة القدر، وصيام يوم عرفة، ... الخ؛ وإنما الجائز هو أن يعتبر المسلم ليلة النصف كغيرها من ليالي شعبان وأيامه يصومها كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه يصوم أكثر شعبان كما تقدم، ويصله برمضان كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان"[6].
هكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم، وأما إذا كان الإنسان ممن لا يصوم شعبان ولا يقوم لياليه، وانتظر حتى انتصف شعبان، ثم بادر لتخصيص ليله تلك بالقيام ونهارها بالصيام، فهذا الأمر ليس من الهدي النبوي في شيء.
المطلب الثاني: الممنوع غير المشروع في ليلة النصف من شعبان.
لقد اعتاد بعض العامة ممن ليس لهم أثرة من علم على تخصيص ليلة النصف من شعبان بعبادات كالقيام، وصلاة الرغائب .. الخ. وبعضهم من الجهلة زاد على ذلك اختلاق بدع وحوادث ما أنزل الله بها من سلطان كإيقاد النيران في هذه الليلة، وإتلاف الزيت فيها... الخ، وقد نبه علماؤنا الأثبات من السادة المالكية وغيرهم على هذه الحوادث والبدع وأنها من محدثات الدين التي لا يقوم عليها دليل.
ومن هذه المحدثات:
1-صلاة الرغائب:
أو الصلاة الألفية حيث يجتمع بعض العامة في المساجد ليلة النصف من شعبان بعد صلاة المغرب، فيقوم قائمهم بعد الصلاة ما يسمى: ب (صلاة الرغائب) يصلون مائة ركعة، وكل ركعة بسورة الإخلاص عشرا عشرا، فهذه ألف، فهي صلاة ألفية، وليس لها أصل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يستندون إلى حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا علي من صلى مئة ركعة في ليلة النصف من شعبان، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، و(قل هو الله أحد)[7] عشر مرات ..."[8] ، في حديث طويل.
قال ابن وضاح القرطبي المالكي (286هـ): "نا هارون بن سعيد، قال: نا ابن وهب، قال: نا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: لم أدرك أحدا من مشيختنا، ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحدا منهم يذكر حديث مكحول ولا يرى لها فضلا على ما سواها من الليالي "[9].
وقال ابن دحية السبتي (633هـ): "وقد روى الناس الأغفال في صلاة ليلة النصف من شعبان أحاديث موضوعة، كلفوا عباد الله بالأحاديث الموضوعة فوق طاقتهم من صلاة مائة ركعة، وفي كل ركعة الحمد مرة، و(قل هو الله أحد) [10] عشر مرات، فينصرفون وقد غلبهم النوم، فتفوتهم صلاة الصبح التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله[11] "[12].
وقال ابن دحية أيضا : "قال أهل التعديل والتجريح : وليس في حديث ليلة النصف من شعبان حديث يصح؛ فتحفظوا عباد الله من مفتر يروي لكم حديثا يسوقه في معرض الخير، واستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعا من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإذا صح أنه كذب خرج من المشروعية، وكان مستعمله من خدمة الشيطان؛ لاستعماله حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل الله به من سلطان"[13].
2-تخصيص ليلة النص من شعبان بالقيام، ونهارها بالصيام:
قد تقدم أن ليلة النصف من شعبان تعتبر كغيرها من ليالي شعبان لا تخصص بعبادة دون غيرها من الليالي؛ لكن بعض الناس من العوام خصصوا هذه الليلة بالقيام، ونهارها بالصيام؛ مستندين في ذلك إلى حديث لا يصح: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها"[14]مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي سنده ابن أبي سبرة المدني اتهمه أحمد بالوضع[15].
"أما إحياء الإنسان لهذه الليلة وحده بالعبادة المطلقة- في جملة ما يسر له إحياؤه من ليال- رجاء أن يكون لها في استجابة الدعاء وقبول العبادة المزية التي وردت في أحاديث فضلها، فليس فيه من بأس، وهذه الأحاديث تكفي داعيا للإقبال فيها على العبادة، وتنفي أن يكون قيام الرجل فيها بشيء من العبادة المطلقة عن التقييد بعدد معين، أو هيئة مخصوصة بدعة، وإن لم تبلغ هذه الأحاديث درجة الصحيح "[16].
3-إيقاد النار وإتلاف الزيت، وإحراق الكبريت في هذه الليلة:
ومن البدع والحوادث التي يقوم بها بعض الجهلاء والرعاع من العامة في ليلة النصف من شعبان؛ إيقاد النار، وإنارة السرج، وإتلاف الزيت ، وإحراق الكبريت.
ففي مساجلة علمية بين الإمامين العز بن عبد السلام، والإمام ابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة ما نصه: "وأما إيقاد النار، وإتلاف الزيت الكثير فيه –أي : في ليلة النصف من شعبان – على الوجه المعتاد فمن المنكرات والقبائح المحرمات، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن إضاعة المال، ومعناه: إخراجه في غير وجهه المأذون فيه، من ذلك: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)[17] أعاذنا الله من المبتدعات، وحمانا من ارتكاب المخالفات، والله أعلم"[18].
وفي فتوى للعلامة الأمير صديق حسن خان القنوجي الهندي: "وكذلك وردت أحاديث في قيام ليلة النصف من شعبان، وصيام يومها، وما ثبت فيها من الأدعية والأذكار، وأما ما تعارف الناس في أكثر بلاد الهند من إيقاد السرج ووضعها على البيوت والجدران، وإحراق الكبريت إنه من البدع الشنيعة، ومما لا أصل له من الكتب المعتبرة، ولم يرد فيها حديث ضعيف ولا موضوع، ولا يعتاد ذلك في غير بلاد الهنود من الديار العربية والعجمية؛ بل عسى أن يكون ذلك وهو الظن الغالب إتخاذا من رسوم الهنود الدوالى، وأول حدوث الوقيد من البرامكة، وكانوا عبدة النار "[19].
الخاتمة:
وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:
1-ليلة النصف من شعبان يشرع فيها ما يشرع في باقي أيام شهر شعبان، من صيام نهارها، وإعمار أوقاتها بالطاعات المختلفة؛ من ذكر، وقيام، وصلاة، وصدقة، وإحسان، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر... الخ. دون نية تخصيصها بذلك.
2-ليلة النصف من شعبان لا يجب إفرادها وتخصيصها وحدها دون سائر أيام شعبان بفضل أو ميزة.
3- من هديه صلى الله عليه وسلم في شعبان –وفيه ليلة النصف طبعا- الصيام الذي كان يكثر منه في هذا الشهر الفضيل.
4-لو ثبت تخصيص ليلة النصف من شعبان بشيء من العبادات الخاصة لجاءت الآثار والأحاديث في ذلك كما ورد في بعض فضائل الأوقات كليلة القدر، وصيام يوم عرفة... الخ.
5-من البدع والحوادث التي أحدثت في ليلة النصف من شعبان.
أ-صلاة الرغائب، أو الصلاة الألفية.
ب-تخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام، ونهارها بالصيام.
ت-إيقاد النار وإتلاف الزيت، وإحراق الكبريت في ليلة النصف من شعبان.
*********************
هوامش المقال:
[1] - آل عمران (132).
[2] - النساء (59).
[3] - أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 821)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور برقم: (1718).
[4] - أخرجه الترمذي في سننه (ص: 167)، في كتاب: أبواب الزكاة، باب: ما جاء في فضل الصدقة، برقم: (663).
[5] - أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 473)، في كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان، برقم: (1969).
[6] - أخرجه أبو داود في سننه (ص: 410)، في كتاب: الصوم، باب: فيمن يصل شعبان برمضان، برقم: (2336).
[7] - الإخلاص : (1).
[8] - أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (44012) (1010).
[9] - البدع والنهي عنها (ص: 92).
[10] - الإخلاص : (1).
[11] - أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 294)، كتاب: المساجد، باب: فضل صلاة العشاء برقم: (656).
[12] - العلم المشهور (2 /569).
[13] - العلم المشهور (2 /575).
[14] - أخرجه ابن ماجه ي سننه (ص: 247)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في ليلة النصف من شعبان برقم: (1388)
[15] - ميزان الاعتدال (6 /177).
[16] - الصراط المستقيم (ص: 64).
[17] - سورة النور (63).
[18] - هداية الحيران (ص: 73-74).
[19] - الموعظة الحسنة (ص: 254-255).
**********************
لائحة المصادر والمراجع:
البدع والنهي عنها. لمحمد بن وضاح القرطبي. ت: عمرو عبد المنعم سليم. مكتبة ابن تيمية. القاهرة. ط1/ 1416هـ.
سنن ابن ماجه. حكم على أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به : مشهور آل سلمان. مكتبة المعارف الرياض. ط1/(د.ت).
سنن الترمذي. حكم على أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به أبو عبيدة مشهور آل سلمان. مكتبة المعارف . الرياض. ط1 (د.ت).
صحيح البخاري. دار ابن كثير. دمشق. ط1/ 1423هـ- 2002مـ.
صحيح مسلم بن الحجاج. ت: نظر الفاريابي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ- 2006مـ
الطراط المستقيم رسالة فيما قرره الثقات الأثبات في ليلة النصف من شعبان. لجماعة من علماء الأزهر. خرج أحاديثها: محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى بها: محسن بن عوض بن شلبي. الربانيون، ط1/ 1432هـ- 2011مـ.
العلم المشهور في فوائد فضل الأيام والشهور. لابن دحية السبتي. ت: طارق طاطمي. بوشعيب شبون. غزلان بنتوزر. نجاة زنيزن. إشراف: د عبد اللطيف الجيلاني. وطارق طاطمي. ضبط وتصحيح: د أنس وكاك وعبد اللطيف الجيلاني. تقديم: د أحمد عبادي. دار الأمان. الرباط . ط1 1441هـ- 2020مـ.
كتاب الموضوعات من الأحاديث المرفوعات. لابن الجوزي. ت: د نور الدين بن شكري بوياجيلار. أضواء السلف. الرياض. ط1/ 1418هـ- 1997مـ.
الموعظة الحسنة بما يخطب في شهور السنة. لصديق حسن خان. وزارة الأوقاف . قطر ط1/ 1428 هـ- 2007مـ.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال. للذهبي. ت: علي البجاوي. وفتحية البجاوي. دار الفكر العربي، (د.ت).
هداية الحيران إلى حكم ليلة النصف من شعبان. د محمد بن موسى آل نصر. ط2/ 1426هـ- 2005مـ.
*راجعت المقال الباحث: خديجة ابوري