مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «مَعارج التَّفكُّر ودَقائق التَّدبُّر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «في رحاب سورة المُزَّمِّل» «الحلقة الثامنة»

3- الصبر على أذى المشركين وتوعدهم بالعذاب المهين وتكفُّل الله للرسول بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله: وتجلى ذلك في قوله تعالى:

«وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً».[المزمل: 9-14]

فبعد إعداد النفس عن طريق مجاهدتها بالعبادات، وأثناء القيام بجهاد الدعوة، تأتي الوصية بالأخذ بفضيلة الصبر على ما يقول الكافرون المكذبون، فقال عز من قائل: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً » وأشار إلى عظمة الصبر بتعديته بحرف الاستعلاء فقال: «على ما» وخفف الأمر بالإشارة إلى أنهم لا يصلون إلى غير الأذى بالقول، وعظمه باستمرارهم عليه فقال: «يقولون» أي المخالفون المفهومون من الوكالة من مدافعتهم الحق بالباطل في حق الله وحقك [1]، و«اصبر» فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: هو، و«على ما»: متعلقان بـ «اصبر»، وجملة «يقولون» صلة ما، و«اهجرهم» عطف على «اصبر»، و«هجرا» مفعول مطلق، و«جميلا» نعت.[2]

وقد جاء الفعل صبر متعديا بحرف الجر «على» في مواضع من القرآن الكريم نذكر منها:

«اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّاب» [ص: 17]، وفي قوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى» [طه: 130]، وقوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوب» [ق: 39]، وقوله جل وعز: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً »[المزمل: 10].

فما السر في هذا والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم؟

في هذا الخضم يقول الشيخ حبنكة الميداني: «ونستطيع بالتأمل أن نفهم أن خطاب الرسول في هذا هو خطاب لكل الدعاة إلى دين الله من أمته، فإذا كانوا في مرحلة من مراحل دعوتهم للناس مماثلة للمرحلة التي نزلت فيها سورة المزمل فالمطلوب منهم أن يصبروا على ما يقول فيهم رافِضو دعوتهم، وأن يهجروهم هجرا جميلا، وأن يتركوا لربهم المعرضين عنهم من كبراء قومهم المترفين أولي النعمة، وأن يمهلوهم».[3]

ومن الأساليب البلاغية في هذه الآية نجد جناس الاشتقاق في لفظتي واهجرهم هجرا. وهو تأكيد للهجر بالصبر، والهجر الجميل هو الهجر الذي لم يقترن بغضب ولا مخاصمة ولا عتاب، فهو هجر الراغب في العودة إلى المهجورين، الحريص على خيرهم ونجاتهم وسعادتهم، ودخول في عباد الله الصالحين [ 4]. ولما كان في أمره هذا بما يفعل ما يشق جدا بما فيه من احتمال علوهم، أعلم بقرب فرجه بتهديدهم بأخذهم سريعا فقال: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا» سبق نظير هذا التعبير التهديدي في سورة المدثر بشأن الوليد بن المغيرة  في قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا» [المدثر: 11]، و«ذرني» فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، و«المكذبين» مفعول معه، أو عطف على المفعول به، والمعنى: أنا أكفيك أمرهم، فلا تأس، ولا تحزن، و«أولي النعمة»: نعت للمكذبين، و«مهّلهم» فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، و«قليلا» نعت لمصدر محذوف، أو ظرف، أي: قليلا من الزمن.[5]

ومن أوجه البلاغة في الآية الكريمة الإظهار في موضع الإضمار في قوله: «وذرني والمكذبين» وأظهر في موضع الإضمار تعليقا للحكم بالوصف وتعميما فقال: و«المكذبين» أي: العريقين في التكذيب فإني قادر على رحمتهم وتعذيبهم.[6] والنَّعمة بفتح النون هي الترفه وزيادة الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا ووسائلها [7]، وهي اسم مَرَّة، قال الراغب: وبناء النَّعمة بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة، ومعنى كونها اسم مرة: أنها توحي كأن النعمة لم تصب صاحبها إلا مرة واحدة، وتوحي بقصر مدتها وسرعة زوالها.[8]

فما هو السياق التي وردت فيه النَّعمة؟

إنه سياق التقليل للنعم على الكفار، وبيان سرعة انقضائها وزوالها، فالآيات تتحدث عن عذاب المكذبين المترفين يوم القيامة، وتعرض من خلاله قيمة تنعمهم بالنعم الكثيرة في الدنيا، ذلك التنعم الذي استمر عشرات السنين، فماذا يساوي بالقياس إلى عذابهم الأبدي الدائم الخالد في جهنم؟

لهذا ناسب أن تأتي النَّعمة بالفتح، وأن يضافوا إليها أولي النعمة لتفيد معنى المرة الواحدة، كأنهم لم يتنعموا في حياتهم الدنيوية إلا بنعمة واحدة، مرة واحدة، للحظة واحدة. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، وأشار إلى أن الكافر يوم القيامة يغمس غمسة في النار، ثم يسأل عن تنعمه في الدنيا، فيجيب بأنه لم يذقه قط.[9] ونص ذلك: عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يُؤتَى بِأَنْعَمِ أهل الدُّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيُصْبَغُ في النار صَبْغَةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مَرَّ بك نَعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشدِّ الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قَطُّ؟ هل مر بك شدة قَطُّ؟ فيقولُ: لَا، والله يا ربِّ ما مر بي بُؤسٌ قَطُّ، ولا رَأَيتُ شِدَّةً قَطُّ ».[10]

وإن القارئ لكتاب الله تعالى ليلحظ أن لفظة نَعمة بالفتح وردت في سورة الدخان قال تعالى عن فرعون وجنوده بعدما أغرقهم في البحر: «كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُون وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيم وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِين» [الدخان: 25-28].

ولما كان هذا منادياً بعذابهم، وكان وصفهم بالنعمة مفهماً لأنهم معتادون بالمآكل الطيبة، وكان منع اللذيذ من المآكل لمن اعتاده لا يبلغ في نكاية النفس بحد نكاية البدن إلاّ بعد تقدم إهانة، استأنف قوله بياناً لنوع ما أفهمه التهديد من مطلق العذاب، وأكد لأجل تكذيبهم[11] حيث قال عز وجل: «إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا» فالمقابلة هنا بين صورة أولي النعمة الحاضرة، وصورة الطعام ذي الغصة المتخيلة، لها قيمتها الفنية بجانب قيمتها الدينية.[12]

 فـ «إن» حرف مشبّه بالفعل، و«لدينا» ظرف متعلق بمحذوف خبرها المقدم، و«أنكالا» اسمها المؤخر، و«جحيما» عطف على «أنكالا»، «وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» عطف على «أنكالا»، و«ذا غصة» نعت وهو الزقوم أو الضريع يغصّ به في الحلق، و«عذابا» عطف أيضا.[13]

ومن الأساليب البلاغية في هذه الآيات السجع المرصع في قوله تعالى:«إنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، وَعَذاباً أَلِيماً،  يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً» وذلك في ألفاظ:جحيما/ أليما/ مهيلا، وهذه العبارة «إنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً» جيء بها على سبيل الكناية عن العقاب، إذ الأنكال والجحيم من وسائل عقاب الله للمجرمين يوم الدين، ولَوَّح النص بها تلويحا تهديديا للمكذبين، أي: فالذي أعد القيود ونار التعذيب إنما أعدها للمجرمين الذين يستحقون العقاب بالعدل، والمكذبون بما جاء عن ربهم هم مجرمون لا محالة.[14]

ولما ذكر هذا العذاب ذكر ظرفه فقال: «يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً» في هذه الآية تقديم لقطة بيانية تصور مشهدا من بدايات أحداث اليوم الآخر، الذي ستكون فيه الإدانة والجزاء، وسيتحقق فيه الوعيد الذي ألمحت إليه الآيتان السابقتان.

والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لدينا، ولك أن تعلقه بمحذوف نعت لعذابا، أي: عذابا واقعا يوم ترجف، وجملة «ترجف الأرض» في محل جر بإضافة الظرف إليها، والواو حرف عطف، و«كانت الجبال»: كان واسمها، و«كثيبا» خبرها، و«مهيلا» نعت لكثيبا[15]، والكثيب الرمل المستطيل المحدودب، وكل مجمع من الرمل مرتفع محدودب، والمهيل الذي ينصب انصبابا متتابعا مندفعا دون تعثر، بسبب نعومته وجفافه، فيكون مشابها للماء إذا سال.[16]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في الآية التشبيه فقد شبه الله عز وجل حالة الجبال بعد تحطيمها وتفتيتها بالزلزال العظيم بكثيب من الرمل دفعته قوة فصار ينهال منصبا، وهو من التشبيه البليغ الذي حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه.

وقوله وكانت: أي وستكون، وقد جاء التعبير بالفعل الماضي بدل الفعل المضارع للدلالة على تحقق الوقوع مستقبلا، حتى كأنه قد وقع، فهو أمر بمثابة الحاصل المشهود، وهذا من الأساليب البلاغية البديعة.[17]

4موقف المشركين من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءهم بالهدى ووعظهم مما حلّ بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم: وتضمن ذلك قوله تعالى في الآيات التالية: «إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً» [المزمل: 15-19]

ولما ذكر العذاب ووقته وقدمهما ليكون السامع أقبل لما يطلب منه، أتبعهما السبب فيه مشيرا إلى ما به إصلاح أمر الآخرة التي فيها المعاد وإليها المنتهى والمآب، فقال مؤكدا لأجل تكذيبهم: «إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً» ومن هؤلاء المكذبين المهلكين فرعون مصر وأنصاره وجنوده، فمن الخير والرشد لكم أن تتعظوا بهم، وقد جاء التعبير بضمير المتكلم العظيم: «إنا أرسلنا» مراعاة لمقام الربوبية العظيمة الجليلة، واستثارة للرهبة والمهابة، وتذكيرا بسلطان الرب، خالق السماوات والأرض، والمهيمن على كل شيء بربوبيته، القدير على إهلاك المكذبين وكل جبار مجرم[18]، وهو كلام مستأنف، مسوق لخطاب أهل مكة على طريق الالتفات من الغيبة في قوله: «واصبر على ما يقولون»، وقوله: «والمكذبين»، وإن واسمها، وجملة «أرسلنا» خبرها، و«إليكم» متعلقان بـ «أرسلنا»، و«رسولا» مفعول به، و«شاهدا» نعت لرسولا، و«عليكم» متعلقان بشاهدا، و«كما» نعت لمصدر محذوف أي: إرسالا كإرسالنا إلى فرعون رسولا، و«ما» مصدرية، وجملة «أرسلنا» لا محل لها، و«إلى فرعون» متعلقان بأرسلنا، و«رسولا» مفعول به، وإنما خصّ موسى وفرعون بالذكر؛ لأن أخبارهما كانت منتشرة بمكة، وقوله: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» الفاء هنا عاطفة، و«عصى فرعون الرسول» فعل ماض وفاعل ومفعول به؛ وإنما عرف الرسول؛ لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت مُعرَّفَة بأل العهدية، والعرب إذا قدّمت اسما ثم حكت عنه ثانيا، أتوا به معرّفا بأل، وأتوا بضميره، لئلا يلتبس بغيره، نحو: «رأيت رجلا فأكرمت الرجل»، ولو قلت: فأكرمت رجلا لتوهم أنه غير الأول، وعبارة أبي البقاء: «إنما أعاده بالألف واللام ليعلم أنه الأول، فكأنه قال: «فعصاه فرعون»، فـ «أخذناه» عطف على فعصى، وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به، و«أخذا» مفعول مطلق، و«وبيلا» نعت.[19]

ومن الأساليب البلاغية في هذه الآيات نجد جناس الاشتقاق في قوله «أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا» وتجلى ذلك: في أرسلنا /رسولا، بالإضافة إلى أسلوب  الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتقريع والتوبيخ على عدم الإيمان، والأصل أن يقال: إنا أرسلنا إليهم.

 ومن جناس الاشتقاق كذلك قوله تعالى: «فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» وتمثل ذلك في أخذناه أخذا وهو تأكيد الفعل بالمصدر.[20]

والأخذ مستعمل في الإِهلاك مجازاً لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئاً من موضعه وجعله عنده، والوبيل: فعيل صفة مشبهة من وبُل المكان، إذا وَخِم هواؤه أو مَرعَى كَلَئِه، وقال زهير:[21]

إلى كَلإٍ، مُسْتَوبَلٍ، مُتَوَخّمِ

وهو هنا مستعار لسَيّىءِ العاقبة شديدَ السوء، وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه.[22]

بعد هذا وجه الله الخطاب لمكذبي الرسول محمد من قومه وعشيرته الأقربين، فقال لهم بأسلوب الاستفهام التعجيبي من إصرارهم على التكذيب: «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً» وليس في هذه السورة إلا استفهام واحد، في قوله تعالى: «فكيف تتقون»، وفي هذا الاستفهام يقول الإمام الزمخشري رحمه الله: ويجوز أن يكون ظرفا، أى: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا. ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أى فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء: لأن تقوى الله خوف عقابه يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال. والأصل فيه: أنّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب[23]. قال أبو الطيب:[24]

والهَمُّ يَخْتَرِمُ الجَسيمَ نَحَافَةً /// ويُشيبُ نَاصِيَةَ الصّبيّ ويُهْرِمُ

ويرى الإمام الطاهر بن عاشور أن الاستفهام بــ « كيف» مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلاّ المؤاخذة بما شهد به، وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدّنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة، وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتِّعاظ وخوف من الوعيد بما حلّ بأمثالهم مما شأنُه أن يثير فيهم تفكيراً من النجاة من الوقوع فيما هُدِّدوا به، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدّنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة، فدلّت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى.[25]

فهو استفهام إنكاري، ومعنى هذا الاستفهام بلاغيا هو الإنكار والتهديد، وقد توصل النظم الحكيم إلى الإنكار عن طريق الكناية؛ لأن الإنكار بـ «كيف» مسلط على الحال، وكل موجود لا بد له من حال يكون عليه ضرورة ومحال أن يكون شيء ما موجودا وليس له حال، فكما أنكرت «كيف» حال الاتقاء اقتضى ذلك الإنكار إنكار وجود الاتقاء نفسه، الذي هو صاحب الحال المنفية بـ «كيف» وهذا أبلغ مما لو قيل: لن تستطيعوا وقاية أنفسكم من عذاب يوم القيامة، لما هو معلوم بلاغة أن الكناية أبلغ من التصريح لأن دليل الدعوى مقرون بها في الأساليب الكنائية[26]. فالآيات احتوت بدائع في صور بلاغية متنوعة حسب المقام والسياق فجاءت فريدة متسلسلة محكمة المغزى في السورة، فقوله تعالى: «يوماً»  منصوب على المفعول به لـ « تتقون»،  واتقاء اليوم باتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر .

ووصف اليوم بأنه «يجعل الولدان شيباً» وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصف همّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده، وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن، وإسناد «يجعل الولدان شيباً»  إلى «اليوم» مجاز عقلي بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمَن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال، والأهوال سبب للشيب عرفاً، والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله : «يجعل الولدان شيباً» وعلاقة هذا المجاز هي السببية، لأن الأهوال سبب في الإشابة وليست فاعلا لها. ولما كان هذا أمرا عظيما صور بعض أهواله زيادة في عِظَمه فقال: «السماء منفطر به» فجملة «السماء منفطر به» صفة ثانية، والبَاء بمعنى « في » وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هولاً ورعباً مما كني عنه بجملة « يجعل الولدان شيباً»؛ أي السماء عَلى عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه .[27]

والسماء منفطر أي السماء منفطرة متشققة في ذلك اليوم، وجاء وصف السماء بلفظ مذكر وهو منفطر لأن لفظ السماء اسم جنس يجوز فيه التأنيث والتذكير، ونظيره: [جراد منتشر- من الشجر الأخضر- أعجاز نخل منقعر][28]، وجملة « كان وعده مفعولاً » صفة أخرى لـ « يوماً»،  وهذا الوصف إدماج للتصريح بتحقيق وقوع ذلك اليوم بعد الإِنذار به الذي هو مقتض لوقوعه بطريق الكناية استقصاء في إبلاغ ذلك إلى علمهم وفي قطع معذرتهم، وضمير «وعده»  عائد إلى  «يوماً»  الموصوف، وإضافة  «وعد»  إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع، أي الوعد به، أي بوقوعه .[29]

ولما كان هذا عظيما، استأنف بيان هوانه بالنسبة إلى عظمته سبحانه وتعالى فقال: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً»والإِشارة بــ « هذه»  إلى الآيات المتقدمة من قوله: «إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم» [ المزمل : 15 ]،  وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجَهين به ابتداءً هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدًى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى الصبر عليها قال تعالى : « واصبر على ما يقولون» [ المزمل: 10][30]، والتذكرة ما يستذكر به الشيء المطلوب تذكره [31]، وهي الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض،  وفرع على هذا التحريض التعريضيَّ تحريضٌ صريح بقوله : « فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً » أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربّه سبيلاً فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تَبق للمتغافل معذرة، والإِتيان بموصول « من شاء»  من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصل إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلاّ مشيئته، لأن قوله : « إن هذه تذكرة » قرينة على ذلك. ومن هذا القبيل قوله تعالى : «وقل الحقُ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».[الكهف: 29 ]. ويضيف الشيخ الطاهر بن عاشور أن ذلك ليس إباحةً للإِيمان والكفر ولكنه تحريض على الإِيمان، وما بعده تحذير من الكفر، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط [32]،  ولذلك قال ابن عطية: «فَمَنْ شاءَ ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد، والسبيل هنا: سبيل الخير والطاعة.[33]

5– التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من قيام الليل  بالاكتفاء بقيام بعضه رعياً للأعذار الملازمة والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبُّره: ونلمسه في قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم».[المزمل: 20]

وقد شهد الله  لرسوله في هذه الآية وشهد لطائفة من الذين معه، بأنهم واظبوا على قيام الليل وفق ما طلب الله من رسوله في أوائل السورة طوال المدة منذ نزول أوائل سورة المزمل حتى نزول الآية العشرين منها.[34]

وافتتاح الكلام بــ «إن ربك يعلم أنك تقوم» يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أُمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدرِ المعين فيه النصفِ أو أنقصَ منه قليلاً أو زائدٍ عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثُلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  في قوله تعالى: « فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ » [القصص: 29] أنه قضى أقصَى الأجلين وهو العشر السنون، وتأكيد الخبر بـ  «إِنَّ»  للاهتمام به، وهو كناية عن أنه أرضى ربّه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله: «فتاب عليكم»  ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد .[35]

وإيثار المضارع في قوله: «يعلم»  للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده وذلك إيذان بأنه بمحل الرضى منه، وفي ضده قوله: « قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ » [ الأحزاب: 18] لأنه في معرض التوبيخ، أي لم يزل عالماً بذلك حيناً فحيناً لا يخفى عليه منه حصة.

و  «أدْنى» أصله أقرب من الدنُوّ ، استعير للأَقَلّ لأن المسافة التي بين الشيء والأدنى منه قليلة، وكذلك يستعار الأبعد للأكثر، وهو منصوب على الظرفيّة لفعل«تقوم»، أي تقوم في زمان يقدر أقل من ثلثي الليل وذلك ما يزيد على نصف الليل وهو ما اقتضاه قوله تعالى: «أو زد عليه» [المزمل: 4] [36]، ومن أوجه البلاغة ذكر مراتب القيام في قوله تعالى «أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» أي زمانا أقل منهما، استعمل فيه الأدنى، وهو اسم تفضيل من دنا إذا قرب، لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز، فهو فيه مجاز مرسل، لأن القرب يقتضي قلة الأحياز بين الشيئين، فاستعمل في لازمه، أو في مطلق القلة، ويجوز اعتبار التشبيه بين القرب والقلة، ليكون هناك استعارة، والإرسال أقرب.[37]

ولما كان الليل يزيد وينقص بحسب اختلاف الفصول والأيام، وكانت دقائق النصف والثلث والثلثين مختلفة في الليالي، وكان كل ذلك بتقدير الله عز وجل، قال الله عز وجل في الآية: «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ»، فجملة: «والله يقدر الليل والنهار» معترضة بين جملتي: «إن ربّك يعلم أنك تقوم»، وجملة: «علم أن لن تحصوه» يجوز أن تكون خبراً ثانياً عن «إنَّ»  بعد الخبر في قوله: «يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل».

وأبان الله عز وجل حكمة تخفيف حكم قيام الليل عن الرسول، وعن الطائفة الذين كانوا يقومون مثل قيامه من أصحابه الحريصين على أن يعملوا مثل عمله، فقال تعالى لهم:  «عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ»، والإِحصاء حقيقته: معرفة عدد شيء معدود مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدّوا شيئاً كثيراً جعلوا لكل واحد حصاة وهو هنا مستعار للإِطاقة، شُبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل  بالأشياء المعدودة[38]، وفرع على ذلك  بقوله: «فتاب عليكم» ومن أوجه البلاغة في قوله هذا أنها استعارة حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة، وفعل «تاب» مستعار لعدم المؤاخذة قبل حصول التقصير لأن التقصير متوقع فشابه الحاصل فعبر عن عدم التكليف بما يتوقع التقصير فيه  بفعل « تاب»  المفيد رفع المؤاخذة بالذنب بعد حصوله.[39]

وأبان الله عز وجل البديل المطلوب المخفف وهو الاكتفاء لمن شاء بقراءة ما تيسر من القرآن، فقال الله عز وجل: « فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » فالمراد من قراءة ما تيسر من القرآن قيام الليل بصلاة ما فيها، وهذا القيام بالنسبة إلى الرسول واجب، وبالنسبة إلى  الطائفة التي كانت تقوم معه نافلة، كحالهم التي كانوا عليها في حكم الند، وكحال سائر المسلمين.[40] وهو من المجاز المرسل، أراد به الصلاة من إطلاق الجزء وهو القراءة على الكل وهو الصلاة. ويذكر الشيخ الطاهر بن عاشور: وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإِيجاز.[41]

وقد نسخت هذه الآية تحديدَ مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل من ثلثه، وأصحاب التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضبط.

وخص النص بقية المسلمين ببيان قال لهم فيه: «عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا» وهذه حكمة أخرى لنسخ تحديد الوقت في قيام الليل وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإِسلامية، وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار:

– الضرب الأول: أعذار اختلال الصحة وقد شملها قوله: « أن سيكون منكم مرضى».

– الضرب الثاني: الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش من تجارة وصناعة وحراثة وغير ذلك، وقد أشار إليها قوله: «وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله» وفضل الله هو الرزق .

– الضرب الثالث: أعمال لمصالح الأمة وأشار إليها قوله: «وآخرون يقاتلون في سبيل الله» ودخل في ذلك حراسة الثغور والرِباط بها، وتدبير الجيوش، وما يرجع إلى نشر دعوة الإِسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء، وهذا كله من شؤون الأمة على الإِجمال فيدخل في بعضها النبي صلى الله عليه وسلم  كما في القتال في سبيل الله والمرض ففي الحديث: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين [42] ، ولما كان المراد الواجب المعروف، أتبعه سائر الإنفاقات المفروضة والمندوبة، فقال: «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا» وفيها شبه التصدق على المحتاجين بإقراض الله تعالى لأنه هو الذي يعطي الثواب المقابل، على سبيل الاستعارة التبعية.

وبعد بيان هذه الوصايا لجميع المسلمين ذكر الله لهم وعدا ترغيبا بأجر عظيم عنده، على ما يقدمونه لأنفسهم من خير يبتغون به مرضاة ربهم وثوابه[43] فقال الله عز جل في الآية: «وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا» ونجد في الآية فنا بلاغيا ألا وهو الإطناب فقد ذكر العام بعد الخاص، إذ عمم بعد ذكر الصلاة والزكاة والإنفاق، ليشمل جميع أعمال الخير والصلاح.

وقوله: «وما تقدموا» ما شرطية في محل نصب مفعول مقدم لتقدموا، و«تقدموا» فعل الشرط، و«لأنفسكم» متعلقان بتقدموا، و«من خير» حال، و«تجدوه» جواب الشرط، و«عند الله» ظرف لتجدوه وهو ضمير فصل أو تأكيد للضمير، و«خيرا» مفعول به ثان لتجدوه، و«أعظم» عطف على خيرا، و«أجرا» تمييز[44]،  وقد كررت لفظة خير للتأكيد والمبالغة.

ولما كان كل بني آدم خطائين كانوا بحاجة إلى وسيلة يمحون بها خطاياهم، وقد تفضل الله على عباده فجعل من وسائل محو الخطايا التي تكون بين العبد وربه وليس فيها حقوق للعباد، أن يستغفر المذنب من ذنوبه، أي: أن يطلب من الله جل جلاله أن يغفرها له، أي: يسترها ويغطيها ولا يحاسبه عليها، فقال الله عز وجل في آخر الآية مطمعا بالغفران: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم»، وغفر الذنب كناية عن عدم المؤاخذة عليه، مع عدم فضيحة المذنب بين الخلائق، وجملة إن الله غفور رحيم بمثابة التعليل للأمر بالاستغفار، مع الإطماع بأن من استغفر الله غفر له.[45] وهو ختم كما ذكر الصابوني في تفسيره يتناسق مع موضوع الإِنفاق، فسبحان منزل القرآن بأوضح بيان.[46]

أما هذه الآية فذات نسق خاص، فهي طويلة وإيقاعها متموج عريض، وفيها هدوء واستقرار، وفاصلة تناسب هذا الاستقرار، وهي الميم وقبلها مد الياء «غفور رحيم».

ولقد رجع آخر السورة – بالترغيب في العمل وذكر جزائه – على أولها الأمر بالقيام بين يديه وبإشارة الاستغفار إلى عظم المقام وإن جل العمل ودام وإن كان بالقيام في ظلام الليالي والناس نيام، فسبحانه من له هذا الكلام المعجز لسائر الأنام لإحاطته بالجلال والإكرام، فسبحانه من إله جابر القلوب المنكسرة.[47]

وقد دلت هذه الدروس على عبر وعظات في نسق محكم وسياق مرسل وأساليب فيها من بديع الكلام ما تصبو إليه السورة؛ ففي طياتها توجيه ووعد ووعيد، وأوامر ووصايا ورسائل تذكير، وأساليب بليغة دقيقة ومعاني جليلة تنم عن إعجاز هذا الكتاب الكريم من لدن حكيم خبير.

الفَواصلُ في سورة المزمل:

الفواصل القرآنية مظهر من مظاهر إعجاز القرآن الكريم، وأثر من آثار نظمه ووصفه، وأبرز ما يكون هذا التجلي في ذلك التناسق والتناغم الصوتي المذهل، وفي ذلك الإيقاع اللغوي الآسر، الذي بزّ كل أساليب أساطين البيان، وجعلهم حيارى لا مرام لهم ولا مطمع في أن يقاربوا أو يدانوا بيان القرآن الكريم ونظمه ولغته [48]. وللفاصلة القرآنية دور مهم في إبراز المعنى وكذا جمالها بين الآيات فهي كما يقول الباقلاني: «حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني وفيها بلاغة» [49] ، وقد جاءت في سورة المزمل كما يلي:

– الفاصلة المتماثلة: هي ما تماثلت حروفها في المقاطع[50]، ورد ذلك في قوله تعالى:  «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً». [ المزمل: 5-6-7] وقد جاءت ألفاظ «ثقيلا» و«طويلا» على نفس الوزن فعيلا، وجاءت فواصل الآيات على حرف اللام.

– الفاصلة المتقاربة: وهي مَا تقاربت حروفها في المقاطع ولم تتماثل [51] ، ومنه قوله تعالى: « وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا».[المزمل: 11-12]  فصوت اللام في لفظة «قليلا»، وصوت الميم في لفظة «جحيما» من الأصوات المتقاربة في المخرج والصفة.

– الفاصلة المتوازية: وهوأن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف السجع [52]، وورد ذلك في قوله تعالى: « رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً».[المزمل: 9-10] فنجد كل من «وكيلا» و«جميلا» على وزن فعيلا وفاصلتهما هي اللام والألف الممدودة.

– والفاصلة المُطرَّفة: وهي أن يتفقا في حروف السجع  لا في الوزن [53]، كقوله تعالى: «ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّل قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ». [المزمل: 1-2].فنجد لفظتي «المزمل» و«قليلا» جاءتا على نفس الحرف وهو اللام لكن اختلفتا في الوزن.

– والفاصلة المتوازنة: وهي أن يراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط [54] كقوله تعالى: «وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً».[المزمل: 13-14] فنجد لفظة «أليما» و«كثيبا» على نفس الوزن لكن  اختلفتا في الحرف الأخير.

ونجد أن علاقة الفواصل القرآنية تكمن في التصدير: وهو أن تكون الفاصلة ذاتها متقدمة في الآية، وعلى هذا فدلالة التصدير دلالة لفظية [55]، ومن أقسام التصدير موافقة آخر الفاصلة بعض كلمات الصدر[56]، وهو ما نستحضره في قوله تعالى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4]  وكذا في قوله عز وجل: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً» [المزمل:8] فنجد كلا من الفاصلتين: «ترتيلا وتبتيلا» ذكرتا في الصدر.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الفواصل القرآنية المتوازية والمتوازنة والمطرفة استخدمت كثيرا في السور المكية، ولعل مرد ذلك أن الخطاب في هذه المرحلة المبكرة إنما كان لأهل مكة أهل الفصاحة واللَّسن، ولذا كانت هذه الفواصل البديعة إمتاعا للشعور والعاطفة، وخطابا للعقل، وإثراء وتفننا فيما لم يألفه العرب في خطابهم.[57]

وختاما فالفاصلة القرآنية مرتبطة بسياق الكلام ارتباطا محكما، بل هي مفصحة عن معانٍ زائدة مُرادة، يفتقر السياق إليها ويتطلبها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامـــــــش:

[1] نطم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي،21/18.

[2] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين درويش، 8/112.

[3] معارج التفكر ودقائق التدبر، الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/172.

[4] نفسه، 1/174.

[5] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/112-113.

[6] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 21/18.

[7] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/175.

[8] لطائف قرآنية، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص: 178.

[9] نفسه، ص: 180.

[10] صحيح مسلم، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، 4/2162، دار إحياء التراث العربي بيروت.

[11] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 21/20.

[12] التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، ص:99.

[13] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/113.

[14] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/177.

[15] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/113.

[16] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/180.

[17] نفسه، 1/180.

[18] نفسه، 1/181.

[19] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/117.

[20] التفسير المنير، وهبة بن مصطفى الزحيلي، 29/202.

[21] شعر زهير بن أبي سلمى صنعة الأعلم الشنتمري، تحقيق فخر الدين قباوة، ص: 23، وصدر البيت:

فَقَضَّوْا مَنايا، بَينَهم، ثُمَّ أصدَرُوا

[22] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، 29/274.

[23] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، 4/641.

[24] ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح عبد الرحمن البرقوقي، 2/460.

[25] التحرير والتنوير، 29/274.

[26] التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الحكيم، عبد العظيم إبراهيم المطعني، 4/307-308.مكتبة وهبة.

[27] التحرير والتنوير، 29/275.

[28] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/185.

[29] التحرير والتنوير، 29/277.

[30] نفسه، 29/277.

[31] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/186.

[32] التحرير والتنوير، 29/277-278.

[33] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، 5/390، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى: 1422 هـــ.

[34] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/188.

[35] التحرير والتنوير، 29/280.

[36] نفسه، 29/281.

[37] الجدول في إعراب القرآن الكريم، محمود بن عبد الرحيم صافي ، 29/145، دار الرشيد، دمشق مؤسسة الإيمان، بيروت، الطبعة: الرابعة، 1418 هـ.

[38] التحرير والتنوير، 29/282-283.

[39] نفسه، 29/283

[40] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/190.

[41] التحرير والتنوير، 29/284.

[42] نفسه، 29/285.

[43] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/191.

[44] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/120.

[45] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/192.

[46] صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، 3/446، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، الطبعة: الأولى، 1417 هـ – 1997م.

[47] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 21/38.

[48] معجم علوم القرآن، إبراهيم محمد الجرمي، ص: 209، دار القلم دمشق، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م.

[49] إعجاز القرآن، الباقلاني، ص: 270 تحقيق: السيد أحمد صقر،  دار المعارف مصر، الطبعة: الخامسة، 1997م.

[50] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، 1/72.

[51] نفسه، 1/72.

[52] نفسه، 1/75.

[53] نفسه، 1/76.

[54] نفسه، 1/76.

[55] معجم علوم القرآن، إبراهيم محمد الجرمي، ص: 210، دار القلم دمشق، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م.

[56] نفسه، ص: 210.

[57] نفسه، ص: 209.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق