لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» وقفات تدبرية عند أواخر سورة التكوير «الحلقة الثامنة والعشرون»
لمّا بَيَّن الله تعالى أن هذه الأشياء - التي لولاها لما طاب لهم عيش ولا تهنؤوا بحياة، وهي من الفضل بحيث لا يعلمه إلا خالقها، تصغر عن أن يُقسَمَ بها على شيء من فضائل القرآن لِما له من عظيم الشأن الذي لا يُطيقُ التعبيرَ عنه البيانُ، ويتضاءل دونه اللسان -، قال مجيباً لذلك إخباراً عما هو محقق في نفسه الأمر أعظم من تحقق هذه الأشياء المقسم بها، هادٍ إلى مصالح الدارين أكثر من هدايتها، مبيناً للسفيرين به الملكي والبشري عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام، مؤكداً لما يستحقه السياق كما يستحقه مع ما لهم من الإنكار تنبيهاً على ضعف عقولهم وعظيم سفههم بعد أن أقسم بثلاثة أقسام، فإن نفي الإقسام بها بما ذكر من نقائصها - كالإقسام - بها مع بيان أن المقسم عليه أعظم منها بما لا يقايس[1] فقال تعالى: « إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين» [التكوير: 19-20-21] وقوله: «إنه لقول رسول كريم» أي؛ إن القرآن الذي يتلوه محمد على قومه، ويقول لهم: إنه كتاب يتنزل عليه من عند الله، هو قول يتلقاه محمد سماعا قوليا جليا من رسول كريم، يقوله حرفا فحرفا، وكلمة فكلمة، وهو جبريل عليه السلام، فالضمير في «إنَّهُ» يراد منه القرآن، بدليل الحال، ودليل كونه قولا يتلى[2]، والعدول إلى الإضمار من غير ذكر للقرآن الكريم في «إنَّه» للإشعار بنباهة شأنه وعِظم منزلته وكونه محفورا في العقول، إضافة إلى أنه معلوم من المقام في سياق الإخبار بوقوع البعث، فإنه مما أخبرهم به القرآن وكَذَّبوا بالقرآن لأجل ذلك [3]، والجملة «إنه لقول رسول كريم» لا محل لها لأنها جواب القسم، وإن واسمها، واللام المزحلقة، و«قول» خبرها، و«رسول» مضاف إليه، و«كريم» نعت [4]. ومجيء المقسم عليه الذي هو القرآن بعد القسم بقوله تعالى: «وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ» نمط بياني بالغ الدقة فكأن الله يريد أن يقول: القرآن في هدايته للناس كالصُّبح في إشراقه وبَثِّ الحياة في الكائنات بعد سكون وظلام [5]، ومن هنا تظهر علاقة التناسب بين المُقسم به والمقسم عليه الذي يقول عنه محمد أبو موسى: وإذا كشفت غلالة ثانية عن هذا القسم وجوابه وجدت صورة الظلام الهارب الماثل في الخُنَّس والجواري الكُنَّس، والليل الذي انجاب وعسعس، ومن وراء هذا الظلام الهارب صبح يتنفس، وما أشبه ذلك بالكتاب الذي نزل به رسول كريم على نبي أمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.[6]
وإضافة «قول» إلى «رسول» لأدنى ملابسة بأن جبريل يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحكيها كما أمره الله تعالى فهو قائلها، أي صادرة منه ألفاظها، وفي التعبير عن جبريل بوصف «رسول» إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي، فإجراء أوصاف الثناء على «رسول» للتنويه به أيضا، وللكناية على أن ما نزل به من صدق لأن كمال القائل يدل على صدق القول[7]، و «الرسول الكريم» في قول جمهور المتأولين كما قال ابن عطية هو جبريل عليه السلام، وقال آخرون: هو محمد عليه السلام في الآية، والقول الأول أصح [8]، وفي هذا الشأن تكون نسبة القول إلى الرسول جبريل مجازا لأنه قول الله تعالى وكلامه بّلَّغه جبريل عن ربه وحَمَله إلى رسوله؛ يقول القاضي عَبد الجبار في هذه المسألة: وربما قيل في قوله تعالى "إنه لقولُ رَسولٍ كريم" يعني جبريلَ عليه السلام، كيف يصح إضافة القرآن إليه وهو كلام الله؟ وجوابنا: أنه المُظهِر لذلك حتى لولاه لما عُرِف فَصَحَّت إضافتُه إليه، وقد يضاف كلام الغير إلى من تَحَمَّلَه، وذلك كثير في اللغة[9]. فكما أضيف القرآنُ إلى جبريلَ عليه السلام أضيف كذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى في سورة الحاقة: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» [الحاقة: 40] فأضَافَهُ إلى الرسول المَلَكِي تارةً، وإلى البَشَرِيِّ تارةً، وإضافتُهُ إلى كل واحدٍ من الرسولَين إضافة تبليغٍ لا إضافة إنشاءٍ من عنده، وإلا تناقضت النِّسْبَتان.[10]
وفي الآية لم يذكر الله تعالى اسم الملك جبريل أمين الوحي عليه السلام، إنما ذكر بصفات تُعيِّنُه وتُميِّزُه فوصف عليه السلام بصفات شريفة إعلاء لمكانته وشأنه عند ربه، وتشريفا وتعظيما لمنزلته، ودلالة على شرف القرآن الكريم بأن نزل به هذا الملك العظيم.
الصفات التي وُصف بها جبريل في سورة التكوير:
- فهو رسول من الملائكة يرسله الله لتبليغ ما يريد أن يوحي إلى رسله من البشر، فوظيفته القيام بتأدية الرسالة التي يكلفه الله أن يؤديها، دون أن يتصرف بشيء من عنده[11]، والرَّسُولُ يقال تارة للقول المتحمّل كقول الشاعر:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولاً
وتارة لمتحمّل القول والرِّسَالَةِ، والرَّسُولُ يقال للواحد والجمع، قال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»[التوبة: 128]، وللجمع: «فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»[الشعراء:16][12]، وقال الشاعر: [13]
أَلِكْنِي إليها وَخَيْرُ الرَّسُو /// لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الخَبَرْ
- وهو كريم: والكريم هو الذي يترفع عن النقائص والدنايا، وهو المحمود بالصفات الرفيعة النفيسة، والجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، والمكرِّم في جنسه أو نوعه، أو بيان نظرائه أو قومه.
- وهو ذو قوة: أي: ذو قوة عظيمة دل على عظمتها التنكير، فلو أمره الله عز وجل بأن ينسف الجبال و البحار، ويرفع المدن ويقلبها، ويزلزل الأرض وما عليها، لقدر على ذلك، فقد أعطاه جل جلاله قوة عظيمة.
- وهو عند العرش مكين: أي وهو عند الله الذي هو ذو العرش مجيد مكين. والمكين: أي متمكن ذي قدر ومنزلة.[14]
- وهو مطاع بين الملائكة العالين: قال تعالى: «مُطَاعٍ ثَمَّ» كلمة «ثَمَّ» بفتح الثاء اسم يشار به إلى المكان البعيد، وهو بمعنى هنالك، فهو مطاع هنالك، أي: بين الملائكة العالين عند رب العالمين، فله عليهم رياسة، يأمرهم بإذن الله فيطيعونه.
- وهو أمين: أي: وهو أمين على وحي الله، وأمين على رسالاته، فلا ينقص منها شيئا، ولا يزيد فيها شيئا، بل يبلغها أو يؤديها كما أوحى الله إليه بدقة تامة، وفي هذا تعبير عن سلامة القرآن المبلغ إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من أي تغيير عما أنزل الله [15]، ونجد في لفظتي أَمِينٍ ومَكِينٍ بينهما جناس ناقص غير تام.
وقوله: «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»فـ «ذِي قُوَّةٍ» صفة ثانية لرسول، و«عِنْدَ ذِي العَرْشِ» حال من مكين لأنه كان في الأصل صفة له فلما قدم نصب حالا، و«مَكِينٍ» صفة ثالثة، و«مُطَاعٍ» صفة رابعة، و«ثَمَّ» ظرف بمعنى هناك متعلق بـ«مطاع»، و«أمين» صفة خامسة[16]، وتطلق القوة مجازا على ثبات النفس على مرادها والإقدام ورباطة الجأش، قال تعالى: «يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ»[مريم: 12] وقال: «خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ» [البقرة: 63]، فوصف جبريل بـ « ذي قوة» يجوز أن يكون شدة المقدرة كما وصف بذلك في قوله تعالى: « ذُو مِرَّةٍ » [ النجم: 6]، ويجوز أن يكون في القوة المجازية وهي الثبات في أداء ما أرسل به كقوله تعالى: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»[النجم: 5] لأنّ المناسب للتعليم هو قوة النفس، وأما إذا كان المراد محمد صلى الله عليه وسلم فوصفه بــ « ذي قوة عند ذي العرش» يراد بها المعنى المجازي وهو الكرامة والاستجابة له[17]. فليس ذا قوة فحسب وإنما ذو قوة عند صاحب الهيمنة والسلطان ولهذا ذكر ذا العرش ولم يقل عند الله[18]، وتوسيط قوله : «عند ذي العرش» بين «ذي قوة» و «مكين» ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز، أي هو ذو قوة عند الله، أي جعل الله مقدرة جبريل تخوِّله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى، والعندية عندية تعظيم وعناية، فــ « عند» للمكان المجازي الذي هو بمعنى الاختصاص والزُّلفى، وعُدل عن اسم الجلالة إلى «ذي العرش» بالنسبة إلى جبريل لتمثيل حال جبريل ومكانته عند الله بحالة الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك وهو بمحل الكرامة لديه، وأما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فللإِشارة إلى عظيم شأنه إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأناً.
و « ثَمَّ» بفتح الثاء اسم إشارة إلى المكان، والمشار إليه هو المكان المجازي الذي دلّ عليه قوله: « عند ذي العرش» فيجوز تعلق الظرف بـ «مطاع» وهو أنسب لإجراء الوصف على جبريل، أي مطاع في الملأ الأعلى فيما يأمر به الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم مطاعٌ في العالم العلوي، أي مقرَّر عند الله أن يطاع فيما يأمر به، ويجوز أن يتعلق بـ « أمين»، وتقديمه على متعلَّقه للاهتمام بذلك المكان، فوصف جبريل به ظاهر أيضاً ، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم به لأنه مقررةٌ أمانته في الملأ الأعلى [19].
ولما وصفه السّفير الملكي وهو جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات التي أزالت عن القرآن كل لبس، وكان وصفه بها إنما هو لأجل إثبات شرف الرسول البشري الذي هو بين الحق وعامة الخلق، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ما يقوله كلام الله حقاً، وكانوا يصفونه بما هو في غاية النزاهة عنه وهم يعلمون ذلك، أبطله مبكتاً لهم بالكذب وموبخاً بالبلادة بقوله زيادة في شرفه حيث كان هو المدافع عنه: « وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِين وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِين » [التكوير: 22-23-24] وقد نفى الله عن رسوله ثلاثة من افتراءات كفار مكة كانوا يتقولونها فجاء نفيها في إيقاعات عنيفة:
نفي صفات عن الرسول صلى الله عليه وسلم في سورة التكوير:
1- نفي صفة الجنون وهي قوله تعالى: « وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ»[التكوير: 22] والصَّاحِبُ: الملازم إنسانا كان أو حيوانا، أو مكانا، أو زمانا، ولا فرق بين أن تكون مُصَاحَبَتُهُ بالبدن- وهو الأصل والأكثر-، أو بالعناية والهمّة، وعلى هذا قال:
لَئِنْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي
لَمَا غِبْتَ عَنْ قَلْبِي
ولا يقال في العرف إلّا لمن كثرت ملازمته، ويقال للمالك للشيء: هو صاحبه، وكذلك لمن يملك التّصرّف فيه. قال تعالى: «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ» [التوبة: 40]، «قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ» [الكهف: 34]، «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ» [الكهف: 9] والْمُصَاحَبَةُ والِاصْطِحَابُ أبلغ من الاجتماع، لأجل أنّ المصاحبة تقتضي طول لبثه، فكلّ اصْطِحَابٍ اجتماع، وليس كلّ اجتماع اصطحابا، وقوله: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» [القلم: 48]، وقوله:« ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» [سبأ: 46]، وقد سمّي النبيّ عليه السلام صاحبهم تنبيها أنّكم صحبتموه، وجرّبتموه وعرفتموه ظاهره وباطنه، ولم تجدوا به خبلا وجنّة، وكذلك قوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] [20]؛ ومعنى ذلك أن الرسول الذي أرسل إليكم فهو مصاحبكم وملازم لكم في دعوته إياكم إلى دين الله، وفي تبليغكم رسالات الله للناس بمجنون، كما يزعم من اتهمه بالجنون منكم[21]، والواو في قوله: «وما صاحبكم» عاطفة، والجملة عطف على «إنه لقول رسول كريم» و«ما» نافية حجازية، و«صاحبكم» اسمها، و«الباء» حرف جر زائد، و«مجنون» مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر «ما»[22] ، وقد سبق في سورة القلم أن شهد الله لرسوله ليُسَلِّيه ويَشُدَّ عزيمته بأنه غير مجنون، فقال له فيها: « مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون » «القلم: 2»، أما هنا في سورة التكوير فقد وجه الله عز وجل الخطاب للذين كذبوه، فقال لهم: «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» [23] .
وبعد نفي الجنون عنه بدليل مصاحبتهم له أبان الله لهم أن صلته بجبريل أمين الوحي الرباني لم تقتصر على وحي غيبي أو قلبي غير مشهود ببصر ولا سمع، بل رأى محمد جبريل رؤيا عين وهو بالأفق المبين، فقال تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِين»[التكوير: 23] والأفق خط دائري في الجو يرى فيه المشاهد السماء كأنها ملتقية بالأرض، والمُبين أي: الظاهر الواضح[24]، يقال لغة: بانَ الشيءُ بَياناً: اتَّضَح، فهو بَيِّنٌ، والجمع أَبْيِناءُ، مثل هَيِّنٍ وأَهْيِناء، وكذلك أَبانَ الشيء فَهُوَ مُبينٌ[25]؛ قَالَ الشَّاعِرُ:[26]
لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فوقَ ضاحِي جلدِها، /// لأَبانَ مِنْ آثارِهِنَّ حُدورُ
وأَبَنْتُه أَنا أَي أَوْضَحْتُه، واستَبانَ الشيءُ: ظهَر، واستَبَنْتُه أَنا: عرَفتُه، وتَبَيَّنَ الشيءُ: ظَهَر[27]، فدلّت هذه الآية على أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد رأى أمين الوحي جبريل عليه السلام رؤيا بصرية واضحة بالأفق الواضح المشرق الذي لا ظلمة فيه ولا غبش، فالرؤية إذ ذاك لا شبهة فيها، ويكون هذا في النهار صباحا أو مساء أو ما بينهما، لا بعد الغروب ولا قبل الفجر[28]. وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام الملك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كرسي جالس بين السماء والأرض، ولهذا تكرر ذكر ظهور الملك بالأفق في سورة النجم في قوله تعالى: « عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى»[النجم: الآيات: 5-6-7-8-9] إلى أن قال: « أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى»[النجم: الآيات: 12-13-14-15-16] [29]، والآية عطف على قوله: «إنه لقول» فهو داخل في حيز المقسم به، و«اللام» جواب للقسم المحذوف، و«قد» حرف تحقيق، و«رآه» فعل ماض، وفاعل مستتر، و«بالأفق» متعلقان برآه، و«المبين» نعت للأفق[30]
2 – نفي صفة البخل عن الرسول صلى الله عليه وسلم تجلى ذلك في قوله تعالى: « وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِين»[التكوير: 24] فالله عز وجل يشهد لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بأنه على ما يطلع عليه من الغيب، ومنه ما ينزل عليه من أقوال وبيانات ربانية، ليس بخيلا كاتما ما يؤمر بتبليغه أو يوذن له به، وليس متهما بالتحريف أو الزيادة أو النقص، بل هو صادق أمين لا يألو جهدا في تعليم الناس وإرشادهم إلى كل ما فيه خيرهم وسعادتهم من أمور دنياهم وآخرتهم[31]، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس بظنين بالظاء، والضنين البخيل في اللغة، يقال لغة: ضنن: الضِّنَّة والضِّنُّ والمَضَنَّة والمَضِنَّة، كلّ ذلك من الإمساك والبُخْل، ورَجُلٌ ضَنينٌ. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: «وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ»، قال ابْنُ سِيدَهْ: ضَنِنْتُ بِالشَّيْءِ أَضَنُّ، وهي اللّغة العَالِيَة، وضَنَنْتُ أَضِنُّ ضَنّاً وضِنّاً وضِنَّةً ومَضَنَّة ومَضِنَّة وضَنانة بَخِلْت بِهِ، وهو ضَنين به. وقال الزَّجّاج: ما هو على الغَيْبِ ببَخِيل أَي؛ هو صلّى اللَّه عليه وسلّم، يُؤَدِّي عن اللَّهِ ويُعَلِّم كتاب اللَّه أَي ما هو ببخِيل كَتُوم لِما أُوحي إِليه [32]، وقرئَ: بظَنينٍ؛ والظَّنِينُ: المُتَّهم الّذي تُظَنُّ به التُّهْمَة، ومصدره الظِّنَّة، والجمع الظِّنَنُ؛ يقال منه: اظَّنَّه واطَّنَّه، بِالطَّاءِ وَالظَّاءِ، إذا اتَّهَمَه، ورَجُل ظَنِين: مُتَّهم منْ قَوْم أَظِنَّاء بَيِّنِي الظِّنَّة والظِّنَانَةِ[33]، وتعدد القراءات للفظ الواحد بحيث يكون لكل قراءة معنى من وجوه إعجاز القرآن الكريم وإيجازه، وهذا نوع عظيم من البلاغة؛ أن يكون اللفظ الواحد بجوهره يقرأ على وجهين، فيفيد بهذا الاعتبار معنيين[34]. والضمير في الآية عائد إلى «صاحبكم» كما يقتضيه السياق، فإن المشركين لم يدعوا أن جبريل ضنين على الغيب، وإنما ادعوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ظلما وزورا، ولقرب المعاد[35]، و«ما» نافية حجازية، و«هو» اسمها، و«على الغيب» متعلقان بــ«ضنين»، و«الباء» حرف جر زائد، و«ضنين» مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر «ما»، و«على» بمعنى الباء، أي: فلا يبخل به عليكم بل يخبركم به.[36]
3- نفي صفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن، فإنهم كانوا يزعمون إن الكهان تأتيهم الشياطين بأخبار الغيب[37]، وفي ذلك يقول عز وجل: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم»[التكوير: 25] أي وما القرآن الذي يتلوه محمد ويبلغه للناس بقول شيطان رجيم يوحي به إليه، فالقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما يشتمل عليه من هداية وعلم شاهد على أنه تنزيل من عليم حكيم، وليس بقول بشر، ولا بقول شيطان رجيم[38]، والآية عطف على «إنه لقول رسول كريم»، وهذا رجوع ما أقسم عليه من أن القرآن قول رسول كريم، بعد أن استطرد بينهما بتلك المستطردات الدالة على زيادة كمال هذا القول بقدسية مصدره ومكانة حامله عند الله وصدق متلقيه منه عن رؤيا محقة لا تخيل فيها، فكان التخلص إلى العود لتنزيه القرآن بمناسبة ذكر الغيب في قوله تعالى: «وما هو على الغيب بضنين»[39]، والمتعن في السياق القرآني للآيات الثلاثة يلحظ أن تفكيك هذه التهم عن الرسول الأكرم جاء مؤكدا بالجملة الإسمية الخبرية المنفية الدالة على ثبوت هذا النفي وتحققه وديمومته، ومؤكدا بحرف الصلة الباء في مقام الجحد والإنكار في قوله: بمجنون، بضنين، بقول شيطان، وذلك مواءمة لحال هؤلاء المنكرين المعاندين من كفار قريش، فهل يكون من المناسب مع عدو لدود معاند متكبر، يرسل الكلام كما يرسل قوته على عواهنه دون تحفظ، الحديث معه بأسلوب لين هادئ، بعد أن ضاعت معه أساليب المنطق الهادئة؟ لا فكلما كان الموقف يحتاج إلى حسم وشدة وتخويف وتهديد وزجر، كانت الفقرات القصيرة والكلمات المعبرة الشديدة الوقع أشد مناسبة لهذا الموقف، وهكذا كان القرآن وهو في الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة ومراعاة مقتضى الحال، فإذا وجدت آيات أو سورا قصيرة، وأسلوبا يزمجر ويهدر ويقسو ويشتد، يرد هجوما على رسول الله ويهدد المعتدين، فاعلم أن هذه الآيات مكية.[40]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] نظم الدررفي تناسب الآيات والسور، البقاعي، 8/ 341-342.
[2] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/ 423.
[3] التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، 30/ 154.
[4] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 8/ 237.
[5] خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، ص: 213، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى: 1413هـ/1992م.
[6] دلالات التراكيب: دراسة بلاغية، محمد محمد أبو موسى، ص: 221، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية: 1408هـ/1987م.
[7] التحرير والتنوير، 30/ 155.
[8] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، 5/ 444، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى - 1422 هـ.
[9] تنزيه القرآن عن المطاعن، للقاضي عبد الجبار، تحقيق وتقديم: أحمد عبد الرحيم السايح، وتوفيق علي وهبة، ص: 457، الطبعة الأولى: 2006.
[10] التبيان في أيمان القرآن، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن سالم البطاطي، ص: 191-192، دار عالم الفوائد - مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1429 هـ.
[11] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 424.
[12] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، راجعه وقدم له: وائل أحمد عبد الرحمن، ص: 201، المكتبة التوفيقية، القاهرة-مصر.
[13] ديوان الهذليين، الشعراء الهذليون، ترتيب وتعليق: محمّد محمود الشنقيطي، 1/ 146، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة - جمهورية مصر العربية، عام النشر: 1385 هـ - 1965م.
[14] المفردات في غريب القرآن، ص: 474.
[15] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 424-425.
[16] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/ 237.
[17] التحرير والتنوير، 30/ 155.
[18] دلالات التراكيب، محمد محمد أبو موسى، ص: 221.
[19] التحرير والتنوير، 30/ 156.
[20] المفردات في غريب القرآن، ص: 278.
[21] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 425 .
[22] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/ 237.
[23] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 426.
[24] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 426.
[25] لسان العرب، جمال الدين ابن منظور، 13/ 67. دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ.
[26] ديوان عمر بن أبي ربيعة، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه: د. فايز محمد، ص: 143، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الثانية: 1416هـ/1996م.
[27] لسان العرب، جمال الدين ابن منظور، 13/ 67.
[28] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 427.
[29] التحرير والتنوير، 30/ 160.
[30] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/ 237.
[31] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 427.
[32] لسان العرب، 13/ 261.
[33] لسان العرب، 13/ 273.
[34] قطف الأزهار في كشف الأسرار، للإمام جلال الدين السيوطي، تحقيق ودراسة: د. أحمد بن محمد الخالدي، 1/ 97، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر، الطبعة الأولى: 1414هـ/ 1494م.
[35] التحرير والتنوير، 30/ 160.
[36] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/ 237-238.
[37] التحرير والتنوير، 30/ 164.
[38] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 429.
[39] التحرير والتنوير، 30/ 163.
[40] علوم القرآن الكريم، د. عبد المنعم النمر، ص: 61، دار الكتاب المصري- القاهرى، دار الكتاب اللبناني-بيروت، الطبعة الأولى: 1399هـ/1979م.