لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» وقفات تدبرية عند سورة التكوير «الحلقة الخامسة والعشرون»
سورة التكوير من السور المكية التي تتحدث عن أجواء يوم القيامة وما يجري فيه من أحداث كونية تكون بمثابة علامات وآيات تدل عليه، كتكوّر الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وتعطل العشار، وحَشْر الوحوش، وتسجّر البحار... وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده، الكون المنسق الجميل، الموزون الحركة، المضبوط النسبة، المتين الصنعة، المبني بأيد وإحكام؛ أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه، وتتناثر أجزاؤه، وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها، وينتهي إلى أجله المقدر، حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائيا في هذا الكون المعهود. [1]
وفي هذه الحلقة نستأنفُ ما بدأناه في سورة التكوير من أحداث يوم القيامة وسنقف عند الحدث الرابع والخامس والسادس في السورة.
الحدث الرابع: تعطيل العشار:
فلما ذكر أعلام الجماد، أتبعه أعلام الحيوان النافع الذي هو أعز أموال العرب وأغلبها على وجه دل على عظم الهول[2]، فقال تعالى: « وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ» والعشار هي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، والواحدة عُشَرَاء، وإنما قيل لها: عشار لأنها إذا أتت عليها عَشَرة أشهر - وهي تضع إذا وضعت لتمام في سنة – فهي عُشَراء، أحسن ما يكون في الحمل، فليس يعطلها أهلها إلا في حال القيامة، وخوطبت العرب بأمر العِشار لأن مالها وعَيْشَها أكثرهُ من الإبل[3]. وقرأ الجمهور: «عُطِّلَتْ» بالتشديد [4]، وقال الإمام الزمخشري رحمه الله وقرئ: «عُطِلَتْ»، بالتخفيف[5] وعُطِّلَتْ؛ أي خُلِّيَتْ وأُهْملت بلا راعٍ يرعاها وتُرِكت سَائبة لا حاميَ لها ولا حارسَ يَحْرُسُها[6]، والتعبير بتعطيل العشار كناية عن ذهول الناس يومئذ عن أكرم أموالهم[7]؛ فالنوق العشار وهي أكرم الأموال لدى العرب وأعزها عندهم تُهْمَل في ذلك اليوم ولا يُعْتنى بشأنها لاشتداد الخطب وفداحة الهول، واختيار لفظة «العشار» رمز للنفاسة وغلاء الثمن دون غيرها من الأموال، وفي ذلك ملائمة من القرآن الكريم لأحوال المخاطبين، يقول الأعشى مادحا: [8]
هُوَ الواهِبُ المائةَ المصطفا /// ةَ، إِمَّا مِخَاضًا وإِمَّا عِشَارَا
والمخاض: هي النوق التي أتى على حملها عشرة أشهر فدنت ولادتها. وعشار: الحوامل. فإنه يهب المئة من الإبل المختارة المنتقاة التي لقحت أو التي تتهيأ للولادة.
ويرى بعضهم أن هذه الآية من الإستعارة التمثيلية؛ لأن في القيامة لا تكون ناقَةً عُشَرَاء، ولكنْ أراد به المَثَل، أن هول يوم القيامة بحَالٍ لو كان للرَّجُل ناقَةٌ عُشَرَاءُ لَعَطَّلَهَا واشتغل بنفسه وقيل: إنَّهم إذا قاموا مِنْ قبورهم، وشاهد بَعْضُهم بعضا، ورأوا الوحوش والدَّوابّ مَحْشُورَةً، وفيها عِشَارُهُم الّتي كانت أَنْفَس أموالهِم، لَم يَعبئوا بها، ولَم يَهُمُّهُم أَمْرُها [9]، ويرى الشيخ الطاهر بن عاشور أنه يجوز أن تكون العِشار مستعارة للأسحبة المحملة بالمطر، شبهت بالناقة العشراء، وهذا غير بعيد من الاستعمال، فهم يطلقون مثل هذه الاستعارة للسحاب[10]، كما أطلقوا على السحابة اسم بكر في قول عنترة: [11]
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ /// فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
فأطلق على السحابة الكثيرة الماء اسم البِكر الحرة، أي الأصيلة من النُّوق وهي في حملها الأول.
ومعنى تعطيل الأسحبة أن يعرض لها ما يحبس مطرها عن النزول، أو معناه أن الأسحبة الثقال لا تتجمع ولا تحمل ماء، فمعنى تعطيلها تكونها، فيتوالى القحط على الأرض فيهلك الناس والأنعام، وعلى هذا الوجه فذلك من أشراط الساعة العلوية فيناسب تكوير الشمس وانكدار النجوم.[12]
وكانت العشار أكرم الأموال عند العرب، يبالغون في رعايتها والاعتناء بها، أما تعطيلها وإهمالها فلا يكون إلا في حالة فزع كبير، أو ذهول بأحداث جسام، فتعطيل العشار مظهر من مظاهر ذهول الناس بأحداث الكون الجسام قبيل قيام الساعة، مندهشين بالتغيرات العظمى الكونية.[13]
الحدث الخامس: حشر الوحوش:
ولما ذكر المقرعات الدالات على إرادة أمر عظيم، قرب ذلك الأمر بإفهام أنه الحشر، ودل على عمومه بذكر ما يظن إهماله[14] فقال عز وجل: « وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» وحَشَرَهُم يَحْشُرُهم ويَحْشِرُهم حَشْراً: جَمَعَهُمْ؛ ومنه يوم المَحْشَرِ. والحَشْرُ: جَمْعُ النّاس يومَ القِيامَة. والحَشْرُ: حَشْرُ يَومِ القيامَة. والمَحْشَرُ: المَجْمَعُ الّذي يُحْشَرُ إليه القَوم، وكذلك إذا حُشِرُوا إلى بَلَد أو مُعَسكَر أو نحوه؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا»[15]، والحَشْرُ: إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، وروي: «النّساء لا يُحْشَرن» أي: لا يُخْرَجْن إلى الغزو، ويقال ذلك في الإنسان وفي غيره، يقال:حَشَرَتِ السَّنَةُ مالَ بني فلان، أي: أَزَالَتْهُ عنهم، ولا يقال الحشر إلا في الجماعة، قال الله تعالى: «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» [الشعراء: 36]، وقال تعالى: «وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً» [ص: 19]، وقال عزّ وجلّ: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» [التكوير: 5]، وقال: «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا» [الحشر: 2]، «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» [النمل: 17] ، وقال في صفة القيامة: «وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً »[الأحقاف: 6]، و«سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً» [النساء: 172]، «وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» [الكهف:47]، وسمي يوم القيامة يوم الحَشْرِ كما سمّي يوم البعث والنشر، ورجلٌ حَشْرُ الأذنين، أي: في أذنيه انتشار وحِدَّة.[16]
والوحوش من الأحياء الموزعة في الجبال، والوديان، والمغارات، والصحاري، تفرمن مواطنها فزعا من الأحداث الكونية، وتتجمع بتلقائية طلبا للأمن بالتجمع، وهو كناية عن شدة الهول العام الذي يعم الأرض وأجواءها.[17]
وعلى هذا يكون الحشر هنا كناية عن هول ذلك الحدث العظيم؛ لأن هلاكها وموتها يكون من شدة الفزع الذي تشاهده، وعظيم مبلغ الهول الذي تراه، وكلتاهما كناية عن صفة؛ لأن الموصوف قد ذكر ونسبت إليه صفة لم ترد هي بعينها، وإنما أريد لازمها، وقد عبرت كلتا الكنايتين عن المعنى ولازمه في صورة حية محسوسة مشاهدة رسمتها الكلمات، فأبرزت المعنى مصحوبا بدليله. والقرآن الكريم في هذه الآيات المباركات، قد جمع أشتاتا وعوالم كثيرة، وكائنات متعددة للتعبير عن دقائق التغيير الكوني والجمع الكلي لحيثيات متنوعة في يوم واحد، وهو يوم القيامة الذي يضم موضوعا واحدا وهو يحشر الخلائق على صعيد واحد.[18]
الحدث السادس: تسجير البحار:
ولما أفهم هذا الحشر، ذكر ما يدل على ما ينال أهل الموقف من الشدائد من شدة الحر فقال: « وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت» بالتثقيل، ويقرأ «سُجِرَتْ» بالتّخفيف[19]، والسَّجْرُ تَهْيِيج النار، يُقال سَجَرْتُ التَّنُّور، ومنه: «والبَحْرِ المَسْجُورِ»[الطور: 6]، قال الشاعر: [20]
إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُـــــــــــورَةً
تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والسَّاسَمَا
وقوله: « وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت» أي أُضْرِمَتْ نارًا عن الحسَنِ، وقيل غِيضَت مِياهُها وإنّما يكون كذلك لتَسْجِير النار فيه: «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» نحو: «وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ». وسَجَرَتِ الناقةُ استعارة لالتِهابها في العَدْو نحو اشْتَعَلَت النَّاقة، والسَّجِيرُ الخليلُ الذي يُسْجَرُ في مَودَّة خَلِيله كقولهم فُلانٌ مُحْرَقٌ في مَودَّة فُلان، قال الشاعر: [21]
سَجْرَاءُ نفسي غَيرُ جَمْعِ إشَابَةٍ
ويأتي السَّجر بمعنى الملء، ويأتي بمعنى التفريغ، فالمعاني اللغوية للكلمة ثلاثة:
- أما التسجير بمعنى الملء فيكون بضم البحار بعضها إلى بعض حتى تكون بحرا واحدا، وبتذويب تجمعات الثلوج وضمها إلى هذا البحر الواحد العظيم.
- وأما التسجير بمعنى التفريغ فيكون بتبخير مياهها بالحرارة، أو ابتلاع باطن الأرض لها.
- وأما التسجير بمعنى الإيقاد والإحماء، فيكون بتفجير مواد مشتعلة من باطن الأرض كنفط وغازات وبراكين، وبهذا تتبخر مياه البحار.
وبكل هذه المعاني قال أهل التأويل، وفي هذا الشأن يقول الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: وربما تكون كل هذه المعاني مرادة، فيكون ملؤها بضم بعضها إلى بعض أولا، ثم تتفجر المواد المشتعلة تحتها فتتبخر مياهها بالحرارة العالية، فتصير فارغة، فتكون كلمة «سُجِّرَتْ» مستعملة للدلالة على المعاني الثلاثة إيجازا بديعا. وقراءة «سُجِرَتْ» تدل على حالات يكون فيها السجر حركة غير شديدة، وقراءة «سُجِّرَتْ» تدل على حالات يكون فيها التسجير شديدا، وكلا الأمرين يحصلان يومئذ.[22]
وفي التعبير هنا عن حال البحار بالتسجير غرض بلاغي يقتضيه ملائمة سياق آيات السورة وتناسبها، وذلك ظاهر من التأمل في هذه الآية مع نظيرتها في قوله تعالى في سورة الانفطار: «وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت»[الانفطار: 3]، فإنه عبر في التكوير بتسجير البحار وهو اشتعالها نارا كما يسجر التنور، وهذا المعنى مناسب وموافق للوعيد بتسعير الجحيم المتوعد به في آيات بعدها في نفس السورة في قوله تعالى: «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَت»[التكوير: 12]، فالبحار تُسجَّر فتصير نارا فتُسَجَّر بها جهنم. [23]
ويسوق ابن الزبير الغرناطي وجها آخر للتناسب مفاده أن تسجير البحار هنا بمعنى امتلائها واجتماع مياهها من قولك سجرت التنور إذا ملأته بالحطب، وذلك مناسب للآية التي قبلها والآية التي بعدها في قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَت» [الآيات: 5-6-7] وحشر الوحوش وتزويج النفوس، وتسجير البحار، هذا كله اجتماع وائتلاف يناسب بعضه بعضاً، فالتحام هذه الجمل في السورة أبين التحام وأوضحه ملاءمة وتناسباً.[24]
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] في ظلال القرآن القرآن، سيد قطب، المجلد: 6، الجزء:30/ 3837.
[2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه: عبد الرزاق غالب المهدي، 8/ 336، دار الكتب العلمية: بيروت/ لبنان، الطبعة الثالثة: 2006م- 1427 هـ.
[3] معاني القرآن وإعرابه، الزجاج، شرح وتحقيق: د. عبد الجليل عبده شلبي، خرج أحاديثه علي جمال الدين محمد، 5/224، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ، 2004م.
[4] تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي، إشراف ومراجعة: الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي، 31/158، دار طوق النجاة، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م.
[5] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، 4/ 707، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407 هـ .
[6] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/ 407، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى: 1420هـ/2000م.
[7] نفسه، 1/ 408.
[8] ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس، شرح وضبط: د. محمد أحمد قاسم، ص: 180-181، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى: 1415هـ/ 1994م.
[9] الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي، 19/ 228 -229، وانظر فتح القدير للشوكاني، 5/ 470.
[10] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 30/ 142.
[11] ديوان عنترة، تحقيق ودراسة: محمد سعيد مولوي، ص: 196.
[12] التحرير والتنوير، 30/ 142-143.
[13] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 408.
[14] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 8/337.
[15] لسان العرب، ابن منظور، 4/ 190.
[16] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، راجعه وقدم له: وائل أحمد عبد الرحمن، ص: 127.
[17] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 408.
[18] أصول البيان العربي في ضوء القرآن الكريم، الدكتور محمد حسين علي الصغير، ص: 215، دار المؤرخ العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1420هـ-1999م.
[19] معاني القرآن وإعرابه، الزجاج، ص: 224.
[20]ديوان النَّمِر بن تَوْلب العُكْلي، جمع وشرح وتعليق: الدكتور محمد نبيل طريفي، ص: 118، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى: 2000.
[21] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص: 230.
[22] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/ 408-409.
[23] كشف المعانى فى المتشابه من المثانى، أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي الشافعي، بدر الدين ، تحقيق: الدكتور عبد الجواد خلف، ص: 374، دار الوفاء ـ المنصورة، الطبعة: الأولى، 1410 هـ / 1990م.
[24] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر، وضع حواشيه: عبد الغني محمد علي الفاسي، 2/ 503، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.