مقدمة
يسعى هذا البحث إلى قراءة نبشية في مفهوم دينامية الجماعات وأساساتها من أجل تنقيتها من الشوائب التي قد تعلق بها فتبعدها عن مساراتها العلمية من جهة ولجعلها من جهة أخرى أسلوبا لبناء شخصية الشباب المغربي تعتمد في هذا البناء من طرف كل القيمين أو ذوي الصلة بالشباب كالمؤسسات التربوية والإعلام والأحزاب السياسية ودور الشباب، وحتى بالنسبة للشباب فيما بينهم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي.
1. مفاهيم أساس للاشتغال بدينامية الجماعات
تختزل هذه المفاهيم في ثلاثة رئيسة: الجماعة، الدينامية، دينامية الجماعات
الجماعة:
يختلف الباحثون في مجال الدراسات السيكوسوسيولوجية في تحديد مفهوم الجماعة باختلاف الأسس التي يقوم عليها وصف الجماعة أو تعريفها. ورغم تعدد التعاريف فإن تعريفا يستحضر مجموعة من التعاريف يكون كالتالي: " الجماعة وحدة اجتماعية تتكون من شخصين فأكثر يتم بينهم تفاعل اجتماعي وعلاقات اجتماعية وتأثير وتأثر ونشاط متبادل على أساسه تتحدد الأدوار والمكانة الاجتماعية لأفراد الجماعة وفق معايير وقيم الجماعة إشباعا لحاجيات أفرادها ورغباتهم وسعيا لتحقيق أهداف الجماعة دائما.
وبصفة عامة هناك شروط ينبغي أن تتوافر في الجماعة حتى تكتسب صفة الجماعة، ومنها:
- وحدة الأهداف؛
- العضوية: أن لا يقل أعضاؤها عن شخصين؛
- إشباع الحاجات :أن تهيئ لأعضائها الفرص للنمو وإشباع حاجاتهم؛
- التكامل: أن تكون العلاقات بين الأعضاء مبنية على التواد والتعاون... وفق قيادة مهما كان عدد أفرادها؛
- الانسجام مع المجتمع: أن يكون هدف الجماعة متفقا مع عادات وتقاليد المجتمع الموجودة فيه.
- البناء: أن تكون الجماعة على درجة معينة من التنظيم؛
- القيادية: وتعني الكيفية في توجيه الجماعة عن طريق القناعات التي يحدثها القائد لدى باقي الأعضاء ولذلك يشترط في القائد أن يكون ديمقراطيا مؤمنا بالتشاركية في تدبير أمور الجماعة بعيدا عن أساليب القيادة السلبية التي منها القيادة الاستبدادية والقيادة اللامبالية.
الدينامية:
- تشير كلمة دينامية في الأصل الاشتقاقي إلى معنى القوة عند اليونان.
- تعرف الدينامية على أنها مجموعة من المثيرات والاستجابات التي تحدث داخل الجماعة في المواقف المختلفة التي تمر بها. فالفرد إذ يصدرعنه سلوك معين داخل جماعته، فإنه يقابل بالعديد من الاستجابات من باقي الأفراد. وبذلك يحصل تفاعل نفسي - اجتماعي أشبه ما يكون بتفاعل كيماوي.
- هذه القوى المؤثرة في العلاقات على شكل تفاعلات تؤدي إلى تغير يحدث تأثيرا في اتجاهات الجماعة. ويمتد هذا التغيير إلى اتجاهات الأفراد وسماتهم الشخصية واهتماماتهم ومهاراتهم وإلى غير ذلك خلال عمليات التفاعل الاجتماعي.
- و "ليفين" (مؤسس دينامية الجماعات) نفسه يسير في هذا الاتجاه إذ يرى أن الجماعة كل دينامي ، وأن أي تغيير في أي جزء من هذا الكل يؤدي إلى تغيير حالة الأجزاء الأخرى. وليس جوهر الجماعة في تشابه الأعضاء أو عدم تشابههم بل في اعتماد بعضهم على البعض الآخر، وأن درجة الاعتماد المتبادل بين أعضاء الجماعة يتراوح بين التفكك والوحدة المتماسكة.
دينامية الجماعات
إن مفهوم "دينامية الجماعات " dynamique des groupes يرتبط بعالم النفس الاجتماعي الأمريكي كورت لفين (Kurt Lewin) الذي استخدمه لأول مرة سنة 1944 في المجالين العسكري والصناعي ليدشن بذلك حقلا علميا جديدا يهتم بدراسة الظواهر الناتجة عن تفاعل أفراد يوجدون في وضعية جماعة. وقد عرفها بأنها مجموع القوى النفسية و الاجتماعية المتعددة والمتحركة والفاعلة التي تحكم تطور الجماعة.
إن "دينامية الجماعات " تعني الكيفية التي بموجبها تتصرف الجماعة و الطريقة التي تتكيف بها مع مختلف الوضعيات وبالتالي تتغير بنيتها .وهي بطريقة أخرى مختلف التمظهرات النفسية والاجتماعية التي تحدث عند الأشخاص المنتمين لجماعة معينة والتي تحقق التماسك الذي يقصد به تحقيف الوحدة بين مختلف أعضاء الجماعة من أجل الوصول إلى أهداف معينة و منع التدهور والانقسام. إن التماسك يترجم إرادة الأعضاء في الانتماء إلى الجماعة ومساندتها. ويتحقق التماسك بموجب مجموعة من العوامل أهمها الدافعية التي هي قوة داخلية تشجع الفرد وتدفعه إلى الارتباط بالجماعة. ولن تحدث هذه الدافعية إلا حينما تستجيب الجماعة لحاجات الأفراد. ومن هذه الحاجات الحصول على إشباع الحاجات السيكو- سوسيولوجية الذاتية كالشعور بالأمن والاستقرار والتقدير...كما يرتبط التماسك أيضا بمجموعة عوامل بنيوية منها حجم الجماعة وإمكانية التواصل عن قرب داخلها: فكلما حدث تقارب بين أفراد الجماعة من حيث السن والمستوى الاجتماعي والمستوى المعرفي والقيم والحاجات المشتركة كلما اشتد الميل إلى الجماعة وحدث تبعا لذلك التماسك بين أعضائها. ويلعب العامل الزمكاني أيضا دورا كبيرا في إحداث التماسك فالقرب الجغرافي يؤدي إلى التلاقي المستمر بين الأشخاص فيحدث إنماء للتماسك. ويعتبر نجاح الجماعة في أعمالها وتحقيق أهدافها عاملا آخر من عوامل التماسك.
2. معاينات لسلوكيات سلبية مصدرها العولمة باعتماد دينامية الجماعة
إن دراسة دينامية الجماعة تفيد في تفهم وفهم سلوكيات الشباب من حيث انغماسهم في ممارسات تتسم بالخطورة سلوكيا وجسديا. ولعل ما آل إليه شبابنا، وهذا افتراض قوي، من المنتظرات التي راهن عليها واضعو دينامية الجماعة والمتمثل في تغيير السلوكيات سلبا أو إيجابا حسب رغبة العامل على هذا التغيير. ويأتي بيان وظيفية دينامية الجماعة في ما يعيشه شبابنا اليوم من مواقف يشتم من القراءات الأولية لها ريح الرغبة في السيطرة و مظاهر مخططات هيمنة و استحواذ و طمس ضوابط المجتمعات الفقيرة من قيم و مرتكزات ثقافية.
و من أهم ما يلفت النظر من هذه المعاينات نسوق العناصر التالية التي دخلت في المألوف لدى العديد من الناس و كأنها مكون ضروري من معيشهم اليومي الطبيعي«L’ Habitus » .
الانسياب العولمي الذي يغزو المجتمعات:
ويتمثل في السعي إلى اختزال مختلف الثقافات في ثقافة واحدة عن طريق تغيير المنظومات القيمية للمجتمعات، و الاستعاضة عنها بمنظومة قيم العولمة.
ركوب التكنولوجيا الحديثة لتمرير القيم السلبية للعولمة:
إذا كانت العولمة، حسب مدعيها، قيمة كونية هدفها الارتقاء بالبشر فإن سلوكيات ومظاهر سلبية عدة مثل العنف والجنس والإدمان والتفكك العائلي، وضعف الوازع الأخلاقي ... صارت تتخذ أبعادا قيمية على أساس أنها قيم من ضمن قيم العولمة الكونية، ومن ثمة يروج لها عبر وسائل الإعلام والسينما العالمية والقنوات الفضائية التي دخلت اليوم إلى كل بيت ،مع العلم إ ن شرط الكونية الأساس، في أي حركة تزعم لنفسها تلك الصفة، هو قيامها على أساس الإقناع و القبول التلقائي من قبل كل من ينضوون تحت لوائها ، أي لا ينبغي أن يكون القسر و الإكراه وراء ذلك الانضواء.
تنميط القيم إستراتيجية لعولمتها:
يمتد هذا التنميط ليمس كل السلوكيات اليومية للفرد، المتمثلة في العلاقات الإنسانية والارتباطات بين أفراد الأسرة والعائلة، وأنظمة القرابة، وأنماط التعايش والتساكن والاستهلاك، والعلاقة بين الجنسين، وطرائق وأنماط العيش( المأكل والملبس والمشرب)،والعلاقة بين الإنسان والله، والبعد الأنطولوجي للإنسان...و بعبارة أخرى فإن المد العولمي يعمل على تغيير فلسفة وجود الإنسان التي من خلالها يرى ذاته و يدرك نفسه و يحدد هويته و يرسم علاقته مع الآخر و الكون و الله.
استهلاك متنام لهذه القيم في غياب أي احتراز من خطورتها
إن الهجمة على القيم من لدن دعاة العولمة لها أهداف منها:
• الانصهار في الشخصية العالمية و التماهي بها بشكل حرفي لتصير بديلا عن الشخصية الوطنية. إنها الشخصية الكونية التي تضيع فيها كل الخصوصيات المعرفية و العقدية والوجدانية والثقافية. إنها بلغة بلير(M.Bellaire) : الهيمنة التي يجب إحقاقها و التي تتلخص في غزو حقيقي لما هو عقلي و نفسي "وجداني"
• إحلال قيم الغرب بكل أبعادها اللغوية و الثقافية و التمثلاتية والعقدية، في كل المناطق والسفر بها إلى أنأى الأماكن في المعمور، ادعاء أنها كونية، مما يستوجب ضرورة حفر أركيولوجي معرفي في العولمة
3. أساسات دينامية الجماعات
مما سبق تقديمه يتضح أن إستراتيجيا الغرب في بسط العولمة بنيت على دينامية الجماعات وفق العناصر المثبتة أعلاه ، وهذا ما أحدث لدى الشباب قناعات داخلية اعتقادا منهم أن تمظهرات العولمة إشباعات لحاجاتهم، أو هكذا أحسوا. وإذا كانت دينامية الجماعات كاكتشاف منهجي وبناء تحليلي قد وضعه كورت ليفين في ظروف تاريخية معينة من تطور المجتمع الغربي فإنها لا تخلو من مخاطر ومزالق إذا لم تبن على أساسات علمية. صحيح أن ليفين قدم القالب التحليلي للمقاربة ولكن على المشتغلين بهذا القالب أن يعتبروا مجموعة من العناصر أو الأساسات التي يرسون عليها دينامية الجماعات. وفي هذه الدراسة، ومن أجل توظيف دينامية الجماعات لبناء مجتمع شبابي متماسك بعيد عن الانبهار لابد من استحضار الأساسات التالية:
الإنسان:
ليس عبارة عن كيان فيزيقي (مادي) ينمو ويتطور عضويا فحسب، و إنما هو تفاعلات دينامية مستمرة بين أكثر من مكون، يتداخل فيها العضوي مع العقلي مع الوجداني مع السوسيوثقافي، و هذا التمازج الأمشاجي القائم على الحركية هو ما يؤسس بالفعل هذا البناء اللغز الذي يسمى الإنسان.
الدراسات العلمية:
ازدادت هذه الدراسات تطورا، الشيء الذي أوضح، بكثير من التدقيق، مكونات هذا الكائن المركب و أفصح عن بنيته المعقدة كما أبدعها الله سبحانه و تعالى. لقد تمحورت الدراسات القديمة للإنسان حول الأكسيولوجيا (Axiologie)التي اعتبرت أهم مبحث في الفلسفة القديمة بعد مبحث الوجود (Anthologie)، لكن الدراسات اللسانية والسيكولوجية والسوسيولوجية والسيكوسوسيولوجية...حاليا قد ذهبت بعيدا في هذا المجال و فتحت فيه نوافذ عدة اعتبرت تخصصات جديدة، ومنها على سبيل المثال سيكولوجيا الشخصية وسوسيولوجيا الثقافة وعلم النفس المرضي والبرمجة العصبية اللغوية ودينامية الجماعات... إن هذه الدراسات وما يسير في فلكها قد أوضحت بكثير من الدقة الميكانيزمات والآليات التي تتحكم في سلوك الإنسان، كما أوضحت أن هذا السلوك ليس متروكا للصدفة و إنما تحكمه ضوابط ودوافع بالإمكان التدخل و التأثير في مسارها.
السلوك البشري:
ليس آليا وإنما هو تصرف تتحكم فيه عوامل تجعل منه السلوك المرغوب أو السلوك المرفوض، ولعل هذه الحقيقة هي التي أشار إليها عالم النفس السلوكي الأمريكي واطسون Watson حينما اشترط على نفسه أن يصنع من أشخاص عاديين نماذج متباينة بناء على طلبات من يتعامل معهم. فقد ورد عنه قوله: لو وضع تحت تصرفي اثنا عشر طفلا رضيعا يتمتعون بصحة جيدة وبنية سليمة وطلب مني أن أعلمهم بالطريقة التي أعتقد أنها المثلى للتعلم فإنني قادر على تعليم أي من هؤلاء الأطفال بطريقتي هذه بحيث يصبح مختصا في اﻟﻤﺠال الذي أختاره له كأن يكون طبيبا أو محامياً أو فنانا أو رجل أعمال بغض النظر عن مواهبه أو اهتماماته أو ميوله أو قدرته أو مهنة آبائه وأجداده أو الجنس الذي ينتمي إليه.
وإن كانت هذه القضية تجد جذورها في سلوكية العالم الروسي بافلوف (Pavlov) فإننا نجد في التراث الإسلامي ما يوضحها : فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ قَالَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تَنْتِجُونَ إِبِلَكُمْ هَذِهِ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.[سورة الروم آية 29].
الثقافة:
هي: « وسائل الحياة المختلفة، الظاهر منها والضمني كما العقلي واللاعقلي، التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ، والتي توجد في وقت معيّن، وتكوّن وسائل إرشاد توجه سلوك الأفراد في المجتمع» .
وهي «كيان مركّب من أساليب التفكير والشعور والعمل. وهي أساليب منظّمة، إلى حد أو آخر، يعتنقها ويعمل بموجبها عدد من الأفراد، فتحوّلهم، موضوعياً ورمزياً، إلى جماعة موحّدة ذات خصائص مشتركة».
وهي « ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات والمواقف والقيم وكل القدرات التي يكتسبها الإنسان كعضو في جماعة».
وتأسيسا على هذه المعطيات يتضح أن أغلب ما يشكل البعد اللاعضوي، وهو الأهم في الإنسان، يتم اكتسابه بعد الولادة عن طريق التربية و التثقيف، وأن مجاله واسع جدا يشمل من ضمن ما يشمل القيم و المعتقدات التي تعتبر المرتكز الذي يستند إليه السلوك.
القيم:
هي الأساسات والمبادئ والمرتكزات التي تنظم حياتنا ونتخذ، في ضوئها، قراراتنا ونستشعرها في سلوكياتنا، ومن ثمة فهي ضرورية للإنسان، مرافقة له في حياته سواء أشعر بها أم لم يستشعرها، لأنه قد يسلك بموجبها رغم أنها قد تكون ضمن اللاوعي أو اللاشعور، كما يحدث في الكثير من الحالات العصابية مثل القلق الوسواسي والفوبيا (المخاوف المرضية) والجنون الدوري (الهوس و الاكتئاب) والأعراض التحولية (الهيستيريا)..... وهذه القيم هي التي يدخلها كارل بوبر (K.Popper) ضمن السياق اللامادي في الكيان البشري، والتي يرى أنها توجد وراء كل تغير مادي في الإنسان. وقد دعا في مشروعه الفكري إلى استيضاح الكيفية التي تعمل بها هذه المنظومة اللامادية، بما فيها القيم، في إحداث تغيرات مادية في الإنسان و محيطه: فالناس، في الغالب الأعم لا يستبطنون أفكارهم و إنما يحرصون على تبين كيف يعيشون و كيف يسلكون في حياتهم اليومية و كيف ينشئون أطفالهم و كيف يتخذون مساكنهم...وهذه كلها أمور تشير إلى سلوكيات الأفراد لا إلى القيم التي تكون وراء هذه السلوكيات، رغم أن هذه القيم هي الأساس في تحديد هذه السلوكيات، بينما هؤلاء الناس أنفسهم قد يدعون بصريح العبارة وعبر منابر متعددة إلى تبني مجموعة من القيم عادة ما يسمونها "منظومة القيم العليا" كالحرية والكرامة والمساواة والأخوة وحقوق الإنسان والمواطنة... رغم أنهم لا يمارسونها. فهناك من يسلك بناء على قيمه دون أن يستحضرها و يعيها كمنطلقات في سلوكياته وهناك من يجمع على أهمية مجموعة من القيم دون أن يتخذها منطلقا لتصرفاته.
يتضح:
- أن القيم جزء لا يتجزأ من وجود الإنسان؛
- أنها رافعة يعتمد عليها في تصرفاته و سلوكياته؛
- أنها قابلة للتعديل والتغيير بقصد تغيير التصرفات والسلوكيات والتأثير في الشخصية وإعطائها منحى آخر
4. بناء الذات أولى اهتمامات دينامية الجماعات
أثارت العولمة في مجال القيم اهتمام الكثيرين في مختلف ربوع العالم، وخاصة دول الجنوب، بهذا الموضوع، وظهرت تبعا لذلك كتابات متعددة نقدية مبرزة الانعكاسات السلبية للعولمة على القيم الاجتماعية. وقد أظهرت هذه الدراسات أن العولمة واقع معيش لا يمكن إنكاره أو تجاهله، لكن ينبغي التعامل مع العولمة باعتبارها ظاهرة لها جوانب إيجابية وأخرى سلبية.
لكن الملاحظ، في ضوء المعاينات التي تم تقديمها في مستهل هذا البحث، أن السلبيات واضحة المعالم بشكل متنام و بسيرورة لا هوادة فيها مما يفرض على القيمين على الشباب أن يعيدوا النظر في مفهوم القيم و طرائق بناء الإنسان المغربي، و إقداره على التعامل بموضوعية وايجابية مع العولمة ضمن حوار دافئ بعيد عن الانفعالات. و يتأتى ذلك بموجب مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي منها:
إعادة النظر في الكفايات القيمية المتوخاة من المنظومة التربوية عبر الأقطاب التعليمية وفي مختلف الأسلاك الدراسية، والعمل على إصلاح منظومة القيم بناء على معايير تعزز التفاعل الحضاري والثقافي بفعل :
- الانفتاح والاستفادة من تجارب الشعوب، وعدم الانكماش والتقوقع على الذات؛
- احترام الآخر والاعتراف بدوره التاريخي والحضاري؛
- التأكيد على الهوية المغربية وخصوصياتها ذات التنوع، مع تعزيز قيمة الانتماء للوطن لترسيخ هذه الهوية المغربية والاعتزاز بها؛
- غرس قيم التعاون التي تعزز الروح الجماعية، و تنأى بالمرء عن الأنانية والفردية ؛
- تأكيد الديمقراطية كقيمة، وتدعيم ممارستها كأسلوب حياة لا يقتصر الأمر فيه على الديمقراطية السياسية، بل يتعداه إلى الديمقراطية بأوسع معانيها؛
- تشجيع الحوار، وممارسة النقد والنقد الذاتي؛
- تعزيز القيم الأسرية النبيلة، وتنمية الشعور بالمسؤولية الجماعية، وتنمية الإحساس بمشاعر الآخرين؛
- الابتعاد عن العنف في التعامل؛
- إبراز قيمة العمل المنتج والعاملين في ميادين العمل المختلفة، و الدعوة إلى الانخراط في الأوراش الكبرى التي يعرفها الوطن بهدف الرفع من مستوى التنمية البشرية و الحفاظ على الوحدة الترابية.
- ترسيخ قيم المحبة والتعاون ضمن المنظومة المرجعية الإسلامية وفق الثوابت العقدية (المذهب المالكي و العقيدة الأشعرية) باعتماد الوسطية بعيدا عن كل إفراط أو تفريط، و وفق توازن في كل شيء (الدنيا و الآخرة، الذات و الآخر، العقل و الوجدان، الكد و الراحة ...). قال تعالى: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين. (القصص، الآية 77)، قال تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا(الإسراء، الآية 29).
لكن هذه الفلسفة القيمية التي عهدها الناس و سارو عليها ولدا عن والد و والدا عن جد و التي تعتبر قيما مستعرَضة (Valeurs Transversales) لا يمكن أن تقوم أو تتنمى إلا في إطار قيم خاصة (Valeurs Spécifiques) لبناء الإنسان المغربي و تحصينه من كل السلوكيات الخطرة و خاصة ما أضحى يهدده من إدمان على المخدرات و الممارسات المولدة لكل أنواع المخاطر. و لعل أبرز هذه القيم الخاصة وأكثرها واقعية فيما يخص الشباب هو بناء الذات بهدف الوصول إلى تقدير الذات.