مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (5): طبيعة القرآن المجيد

القرآن المجيد هو النص المؤسس الذي انبثقت واندهقت من بين ثناياه الحضارة الإسلامية، وهي حضارة قد غيرت صفحة الكون إلى غير رجعة؛ حيث أضحت حضارة، وثقافة، ومنهجَ حياة مستمدا من هذا الكتاب الكريم، الذي جاء بمعايير جديدة، وأحدث نقلات منهجية بعيدة الغور في كينونة الإنسان، وواقع هذا الإنسان.

كما أن المعرفة قبل نزول القرآن المجيد، كانت أمرا تولده العقول في نظر الناس، لكن مع القرآن المجيد أصبحت هذه العقول تعقل ما تستكشفه من خلال  النظر إلى البصائر âهَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَá (الجاثية:19)، وإلى الآيات الموجودة في الآفاق وفي الأنفس ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 52). وهذا المنهج الذي لربانيته يبدو متفهَّما ومُدرَكا من قبل الإنسان، كان له أثره العميق في إحداث مجموعة من القطائع مع المناهج المعرفية التي كانت سائدة قبل نزول القرآن الكريم.

وقبل التفصيل في محددات المنهجية المعرفية للدراسات القرآنية، لا بد  من الحديث عن طبيعة هذا القرآن الذي نريد أن ندرسه؛ فنحن نعلم أنه كتاب الله المتعبد بتلاوته المعجز بلفظه الذي يبدأ بقوله تعالى ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة: 1) وينتهي بقوله سبحانه: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (الناس: 6)، وهو الذي أنزل على قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (الشعراء: 193-194)، والتعريفات كلها تتمحور حول هذه المحاور، وهي تعريفات بفضل الله -وعلى سنة التعريف في الحضارة الإسلاميةـ جامعة مانعة ميسّرة.

وأول الدرر التي يركز علماؤنا عليها بهذا الصدد، هي أن القرآن المجيد بما أنه قول الله الذي خَلق  كل شيء، فإنه قول لهذا الإنسان الذي خُلق بحسب استعداده، وبحسب متطلباته ومتطلبات واقعه، وإذا كان الأمر كذلك من لدن الذي يعلم من خَلق ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: 15)، فإن هذا القول يكون كأكمل ما يمكن الطموح إليه، وهو أمر قد قرره الإمام الغرناطي الأصل ابن عطية رحمه الله في مقدمة تفسيره الرائعة “المحرر الوجيز”[1]، فكتاب الله عز وجل يتنزل بحسب تطلب هذا المخلوق وواقعه وخصائص كل ذلك، هذه قضية أولى.

 القضية الثانية، أن القرآن المجيد قد جاء من لدن من أحاط بكل شيء علما، وإذا كان هذا القول قد قيل أزلا من لدن من قد أحاط بكل شيء علما، فإنه لا يمكن أيضا إلا أن يكون على وجه الكمال، وفي الناعوس الأعلى (والناعوس من الموج هو أعلاه) [2] كما يقول ابن الطيب الشرقاوي رحمه الله.

 وهذا ما تدل عليه بوضوح آيات كثيرة من كتاب الله تعالى منها قول الله عز وجل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف: 3). وهناك التفات عجيب لأحد المفسرين بصدد هذه القضية في قول الله تعالى ﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾، حيث قال: هبوا أن شخصا عاش مائة سنة بوعي وبحضور ذهن، وجرب من هذه الحياة ما جرب، ثم بدأ يقص عن هذه الحياة وعن بعض معالمها، كيف سيكون قصصه؟ وكيف سيكون قوله؟ وما هي قيمة العصارة التي سوف تندهق من لسانه؟ سوف يكون هذا القصص لاشك قصصا رائعا، هذا باعتبار طول اللبث والمكث في هذه الحياة الدنيا. فكيف إذا كان هذا الرجل الذي عاش مائة سنة بوعي وبحضور وبنباهة، وكان من أذكى الناس ومن أدقهم ملاحظة، ومن أقدرهم على التجميع، وعلى التأثير، والإمساك بتلابيب المعاني، واقتناص شرائدها، كيف سيكون قوله؟ سيكون لا محالة كأروع ما يكون، فكيف إذا كان هذا الذي عاش مائة سنة بنباهة، وبحضور بديهة، وأطال التجربة، ثم كان ذكيا قوي الملاحظة؟ كيف إذا كان هذا الشخص أيضا عميق التأمل؟ وكان له هذا التوق على أن ينظر في القضايا لا ظاهرا، وإنما باطنا أيضا لكي يلتئم في نظره اللباب مع الصدف الباب، كيف سيكون قصصه؟ وكيف إذا كان القائل هو الله عز وجل الذي هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، كيف سيكون هذا القول إذا كان هو القول الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ لا غرو أن هذا القصص أحسن القصص. ولله المثل الأعلى.

ثم يمكن أن ننطلق من هذا المستوى الاستعدادي إلى مستوى آخر وهو الآتي: إذا كان هذا القول وهذا القصص أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ (الزمر: 22)، ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (الزمر: 52)، كيف إذا كان هذا القول مضمّخا بالرحمة وبالودّ، كيف لا وهو تنزيل الودود اللطيف الرحيم الذي يريد بالناس المنزل إليهم هذا القرآن اليسر، ولا يريد بهم العسر. âيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَá (البقرة: 184)

 ثم كيف إذا أضفنا إلى هذه الأبعاد كلها أن هذا القرآن شفاء ورحمة ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: 82)، وكيف بعد هذا كله إذا أضيف إلى هذه وتلك أن هذا القرآن المجيد مكنون إذ كان ولايزال وسيبقى مستودع حقائق الحقائق في هذا الكون، منذ بدايته وإلى نهايته، وكان مستوعبا لكل ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، وما لم يكن، ولو كان كيف كان سيكون من  تجارب بني آدم؟ لاشك أن هذا القول فعلا قول ثقيل لا يعتريه خفيف[3]، وهو قوله سبحانه: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ (المزمل: 4).

فإذا تأكد عندنا أن هذا القول ليس بالقول العادي، ولا كقول أي قائل، وإنما هو قول خالق القائلين كلهم من أول الدنيا إلى أن تنصرم، وبعد ذلك نظرنا إليه باعتباره فرقانا، أي يعطي الإنسان الفيصل بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، وبين الحسن والقبح، وبين الصلاح والفساد، وبين الشدة واللطف، إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن نرسم أوساطها بجلاء من خلال الاستمداد من القرآن الكريم. فإنه سوف يتجلى لنا بما لا يذر شكا أن هذا القرآن المجيد بالإضافة إلى فضله العظيم، كتاب في قمة الوظيفية، وفي غاية النفع للإنسان فردا واجتماعا.

القضية الثالثة، التي نريد أن نختم بها الحديث عن طبيعة هذا القرآن المجيد، قضية تنتمي إلى باب عزيز على كثير من علمائنا، ولاسيما الشغوفين منهم بفنون القول، حيث إن النظر في هذا القرآن المجيد من الزاوية البلاغية، نظر فيه شجون.

 ولا شك أن الذي يقرأ القرآن المجيد من مدخل الجرْس أو من مدخل الفواصل، أو من مدخل الاختصار، أو من مدخل الالتفات، أو من أي مبحث بلاغي أو بديعي أراد أن يدخل منه، سوف يقضي العجب كيف أن الحرف يُرتّب، والكلمة تُرتّب، والجملة ترتّب، والمعنى يرتّب، والسورة تُرتّب، في نسقية معجزة، تُزري بجمالية الماس الأصفى؛ لأن الأنوار التي تبثها هذه المفردات بحروفها، وبفواصلها لا يمكن أن يحيط بها وصف واصف أبدا.

 فإرادة الإنسان، وقدرة الإنسان، حين تقترن بالطين، وتريد نحته، وتريد أن تجعل منه شيئا يذكر، فإن أقصى ما يمكن أن تصل إليه أن تصيّر هذا الطين تمثالا، لكن حين تقترن إرادة الله عز وجل بالطين فإنها تصيّره إنسانا ينظر إليك ويقول لك، ويعارضك، ويوافقك، وينصحك، وقد يثور في وجهك إذا لم ترد أن تنتفع بهذا النصح. إنسانا مبدعا له قوله، وله توقيعه، وله إحساسه. وكذلك حين تقترن إرادة الإنسان بالكلمة والحرف تصيرهما شعرا ونثرا، بيد أن إرادة الله عز وجل حين اقترنت بالكلمة وبالحرف فإنها صيّرتهما قرآنا.

 وإن المقارنة بين الإنسان والقرآن لهي دون حق القرآن المجيد، الذي قد قدَّر له قائله اللبث بين ظهراني الخلق والعباد إلى أن يأذن بغير ذلك ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9). أما إن نحن نظرنا من هذه الزاوية إلى الخرائط وإلى المعاني المَخمَلية التي يمكن استعراضها بالنظر إلى القرآن المجيد فإننا لن نفرغ من قريب.

[1] . انظر مقدمة “المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز” لابن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1422 هـ

[2] . في الحديث: إن كلماته بلغت ناعوس البحر، قال ابن الأثير: قال أبو موسى كذا وقع في صحيح مسلم وفي سائر الروايات قاموس البحر، وهو وسطه ولجته، مادة: نعر، “لسان العرب” لابن منظور، دار صادر ببيروت، طبعة جديدة محققة، (14/298).

[3] . كان مالك – رحمه الله – يقول: من سئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها.

وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله عز وجل: âإِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا á(المزمل: 4) فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، أعلام الموقعين (4/167)، ومثله ما ورد في بدائع فوائد (3/276).

Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق