وحدة الإحياءدراسات عامة

أثر اختلاف القراءات في الأحكام الشرعية

أثر اختلاف القراءات في الأحكام الشرعية

ذ. الحسين العمريش

(العدد 9)

تعتبر القراءات مادة غزيرة تتصل بشكل مباشر بكتاب الله تعالى، وبمادة تفسيره، لأنها؛ أي القراءات، مرحلة أولى للتفسير وهي وإن كانت تتعلق بقراءات اللفظ القرآني، فالذي لا شك فيه أن قراءته على نحو معين توجيه للسياق القرآني وبيان لمعنى الآية.

ومما لا شك فيه أن تفسير الآية بالقراءات الواردة فيها له فائدة كبيرة يستفيد منها المفسر سواء لدفع توهم ما ليس مرادا كما في قوله تعالى: ﴿يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع﴾ [الجمعة: 9] فقد قرئت نفس الآية: فاسعوا إلى ذكر الله فامضوا إلى ذكر الله: فأزالت الآية الأخيرة التوهم في الآية الأولى الذي قد يتوهمه البعض وهو وجوب السرعة في الذهاب إلى صلاة الجمعة، وجعلت المطلوب هو التبكير بالذهاب إلى المسجد لأداء فريضة الجمعة، لأن المضي ليس مدلوله لغة السرعة في المشي.

أو لبيان لفظ مبهم على البعض كما في قوله تعالى: ﴿وتكون الجبال كالعهن المنفوش﴾ [القارعة: 5] وقد قرئت “كالصوف المنفوش” فتبين أن المراد بالعهن المنفوش هو الصوف.

أو لتفسير وبيان المقصود من اللفظ الوارد في الآية كما في قوله تعالى: ﴿وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس﴾ [النساء: 12] فقد جاءت في قراءة ابن مسعود “وله أخ أو أخت من أم” وهي قراءة بيانية إلى غير ذلك من الأمثلة.

وإما للجمع بين حكمين مختلفين أو الدلالة على حكمين شرعيين في حالتين مختلفتين أو لبيان حكم من الأحكام وهو ما أتناوله بالتفصيل في هذه المباحث الثلاثة.

المبحث الأول: الجمع بين حكمين مختلفين انطلاقا من القراءات الواردة في اللفظ

 يقول الله عز وجل: ﴿فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن﴾ [البقرة: 222]. يقول ابن العربي فيما نقله عنه الإمام القرطبي في مجلده الثالث ص: 88: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإن كان معناه: لا تدن منه.

وقرأ نافع وأبو عمر وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه “يطهرن” بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل” يطهرن “بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. وفي مصحف أبي وعبد الله “يتطهرن” وفي مصحف أنس ابن مالك”ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يطهرن” ورجح الطبري  ـ يقول القرطبي ـ قراءة تشديد الطاء، وقال: هي بمعنى: يغتسلن لإجماع الجميع على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال يضيف الطبري: وإنما الخلاف في الطهر ما هو؟ فقال قوم هو الاغتسال بالماء، وقال قوم هو وضوء كوضوء الصلاة، وقال قوم: هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، يقول الطبري: ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد لطمت وهو ثلاثي[1]. وقوله تعالى: “فإذا تطهرن” يعني بالماء وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء، وأن التطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد ابن مسلم وأهل المدينة وغيرهم.

وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إذا انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجزله حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. ويقول القرطبي: وهذا تحكم لا وجه له. وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فعلى قياس قولهم هذا ـ يقول القرطبي ـ لا يجب أن توطأ حتى تغتسل مع موافقة أهل المدينة ودليلنا يضيف القرطبي أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم فيها على شرطين أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى “حتى يطهرن” والثاني الاغتسال بالماء وهو قوله تعالى: “فإذا تطهرن أي يفعلن الغسل بالماء[2].

وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح﴾ [النساء: 6] حيث علق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما بلوغ المكلف النكاح والثاني إيناس الرشد، كذلك قال تعالى: ﴿فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره﴾ [البقرة: 23].

ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء، واحتج أبو حنيفة فقال: إن معنى الآية الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها فيكون قوله تعالى: “حتى يطهرن” مخففا هو بمعنى قوله تعالى: يطهرن” مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية[3]. كما قال تعالى: ﴿فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين﴾ [التوبة: 108] وأيضا، فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى، يقول أبو حنيفة، فنحمل المخفف على ما إذا انقطع دمها للأقل، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل لأنه لا يؤمن عوده، ونحل القراءة الأخرى على ما انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل. قال ابن العربي فيما نقله عنه الإمام القرطبي وهذا أقوى ما لهم في الجواب على الأول: إن ذلك ليس من كلام الفصحاء ولا ألسن البلغاء فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم على التكرار في كلام الناس، فكيف في كلام العليم الحكيم؛ وعن الثاني: أن كل واحدة منها محمولة على معنى دون معنى الأخرى فيلزمهم إذا انقطع الدم أن لا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة[4]  وهم. يقول ابن العربي ـ لا يقولون ذلك كما بيناه فهي إذن حائض، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا. وأيضا ما قالوه يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم  للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر مع ما يقتضي الإباحة غلب باعث الحظر كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية، والتحريم أولى بقول ابن العربي والله أعلم[5]..

المبحث الثاني: الدلالة على حكمين شرعيين في حالتين مختلفتين

 يقول عز من قائل: ﴿يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين﴾ [المائدة:6] قرأ نافع وابن عامر والكسائي و”أرجلكم” بالنصب وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ “وأرجلكم” بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة” وأرجلكم بالخفض. وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون فمن قرأ بالنصب جعل العامل “اغسلوا” وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح وهذا مذهب الجمهور وكافة العلماء وهو الثابت من فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، واللازم في قوله في غير ما حديث ثم إن الله عز وجل حدهما فقال: “إلى الكعبين” كما قال في اليدين إلى “المرفق” فدل على وجوب غسلهما. ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي فيما رواه عنه القرطبي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم وتعلق الطبري بقراءة الخفض فقال ابن العربي: قد روي عن ابن عباس أنه قال الوضوء غسلتان ومسحتان. وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما، فسمع ذلك أنس ابن مالك فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله تعالى: ﴿وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم﴾ قال: وكان إذا مسح رجليه بلهما، وروي عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل[6].

وذهب الطبري يقول القرطبي إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين، يعني في الخبر يعمل بهما إذا لم يتناقضا، وقال النحاس: ومن أحسن مما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعا فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب والقراءتان بمنزلة آيتين قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل، ورد عليه القرطبي بقوله: وهو الصحيح أن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل، وقال الهروي: أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد  الداري عن أبي حاتم عن أبي الأنصاري قال: المسح في كلام العربي يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل بقراءة النصب التي لا احتمال فيها وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة، أخرجها الأئمة، ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين والتقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم، فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم ـ والله أعلم ـ لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير[7].

وقد روى العاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمان السلمي قال: قرأ الحسن والحسين رحمة الله عليهما “وأرجلكم ” فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال “وأرجلكم” وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرءا وأرجلكم” بالنصب وقد قيل إن الخفض في الرجلين إنما جاء مفيدا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين، صلى الله عليه وسلم، بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه. وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم وقد قال الحسن: حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، أنهم مسحوا على الخفين وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، وقال أحمد فيما نقله القرطبي عنه كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال: حبب إلي الوضوء.

وقد قيل إن قوله: “وأرجلكم” بكسر اللام معطوف على اللفظ دون معنى، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض بالجوار كما تفعل العرب، وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى: ﴿يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس﴾ بالجر بأن النحاس الدخان وقال “بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ” بالجر قال امرؤ القيس:

كان ابنانا في أفانين دقه               كبير أناس في بجاد مزمل

“مزمل” بالجوار وأن المزمل الرجل وإعرابه الرفع، والبجاد هو الكساء المخطط، والمزمل: المدثر في الثياب والمعنى أن ما ألبسه الجبل من المطر وأحاط به إلى رأسه كشيخ في الكساء مخطط[8]..

قال الإمام أحمد أيضا: والقاطع في الباب أن فرض الرجلين الغسل على ما ثبت من قوله، عليه الصلاة والسلام، “ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار” فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بأن قول من قال بالمسح، إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح.

وبهذا يتبين أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح كما ذكر، وأن العامل في قوله تعالى “وأرجلكم” بفتح اللام قوله “فاغسلوا” والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول: أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن وقال الشاعر: شراب البان وتمر واقط.

فيكون قوله تعالى: “وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم” عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى والمراد الغسل[9].

المبحث الثالث: بيان حكم من الأحكام

قال الله تعالى: ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ [البقرة: 228]. قرأ جمهور الناس “قروء” على وزن فعول ويروى عن نافع “قرو” بكسر الواو  وشدها من غير همز، وقرأ الحسن “قرء” بفتح القاف وسكون الراء والتنوين وقروء جمع إقرء وإقراء، والواحد قرء بضم القاف قاله الأصمعي فيما رواه عنه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن. وقال أبو زيد “قرء” بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرئ وأقرأت طهرت. وقال الأخفش أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض فإذا حاضت قلت قرأت بلا ألف، ويقال أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين. والقرء لانقطاع الحيض وقال بعضهم: ما بين الحيضتين، وأقرأت حاجتك: دنت، وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا فيسمي الطهر مع الحيض قرءا كما ذكر ذلك النحاس. واختلف العلماء في الإقراء فقال أهل الكوفة: هي الحيض وهو قول عمر وعلي وبنمسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي، وقال أهل الحجاز: هي الإطهار وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري والشافعي. فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك لاجتماع الدم في الرحم. ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن[10].

والذي يحقق هذا الأصل في القرء، الوقت، يقال هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها قال الشاعر:

كرهت العقر عقر بني شليل                  إذا هبت لقارئها الرياح

والعقر اسم موضع والشليل: جد جرير بن عبد الله البجلي. فقيل للحيض وقت، وللطهر وقت لأنهما يرجعان لوقت معلوم وقال أحد الشعراء:

يا رب ذي ضعن علي فارض                  له قروء كقروء الحائض

يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض، وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض. وهو جمعه ومنه القرآن لاجتماع المعاني، ويقال أيضا ما قرأت الناقة سلى قط أي لم تجمع في جوفها أي لم تحمل في رحمها حملا قط. فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر. قال أبو عمر بن عبد البر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم قريت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز. وقيل: القرء: الخروج إما من الطهر إلى الحيض أو من الحيض إلى الطهر وعلى هذا قال الشافعي في قول: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءا. ويكون معنى قوله تعالى: ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ أي ثلاثة أدوار أو ثلاث انتقالات، والمطلقة متصفة بحالتين فقط فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعا فيصير الاسم مشتركا، ويقال إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة. فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، فإذا كان الطلاق[11]  في الطهر سنيا فتقدير الكلام: فعدتهن ثلاث انتقالات فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة تدل عليه.

ولا خلاف أنه يؤمن بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال: “فطلقوهن” يعني وقتا تعتد به، ثم قال تعالى: ﴿واحصوا العدة﴾ يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه[12].

وقال، صلى الله عليه وسلم، لعمر: “مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء”[13].

وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة وهو الذي تطلق فيه النساء، ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض ومن طلق في حال الطهر فإنها تعتد عند الجمهور بذلك الطهر فكان ذلك أولى.

يقول أبو بكر بن عبد الرحمان فيما نقله عنه القرطبي: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة في أن الإقراء هي الإطهار. فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة.

فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء واعتدت بما بقي من ذلك الطهر، وقال ابن القاسم ومالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة أن المطلقة إذا رأت[14]  أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر وبه قال أحمد بن حنبل وإليه ذهب داود بن علي وأصحابه، قال أشهب لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا تكون دفعة دم من غير الحيض. واحتج الكوفيون بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، لفاطمة بنت أبي حبيش حين شكت إليه الدم: “إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء”. فقال تعالى: ﴿واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر﴾ فجعل المأيوس منه المحيض فدل على أنه العدة وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما. وقال عمر بحضرة الصحابة: عدة الأمة حيضتان نصف عدة الحرة ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت ولم ينكر عليه أحد. فدل على أنه إجماع منهم وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة. وقوله تعالى: ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ يدل على ذلك لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء يريد كوامل وهذا لا يمكن إلا على قولنا بأن الأقراء الحيض، لأن من يقول إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر، بأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا. وعندنا ـ يضيف عمر ـ تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة، قال القرطبي: هذا يرده قوله تعالى: ﴿سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام﴾ فأثبت الهاء في ثمانية أيام لأن اليوم مذكر وكذلك القرء فدل على أنه[15]  المراد. ووافقنا في ذلك ـ يقول القرطبي ـ أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر، أما عند عمر والصحابة فتعتد بالطهر كما وضح ذلك، فقد أجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع كما قال تعالى: ﴿الحج أشهر معلومات﴾: والمراد به شهران وبعض الثالث وكذلك قوله تعالى “ثلاثة قروء”. وقال بعض من يقول بالحيض: إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة، قال سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي إذا  فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل.

وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: إذا طلقت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج، إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها.

وذكر الشافعي أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا وذلك لتقصير العدة على المرأة لأنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت.

وذهب الجمهور من العلماء على أن عدة الأمة التي لا تحيض من طلاق زوجها حيضتان. وروي عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة أمة إلا كعدة الحرة إلا أن تكون مضت في ذلك سنة فإن السنة أحق أن تتبع. وقال الأصم عبد الرحمان بن كيسان وداود بن علي وجماعة أهل الظاهر: أن الآيات في عدة الطلاق والوفاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة فعدة الحرة والأمة سواء. فاحتج الجمهور بقوله عليه الصلاة والسلام: “طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان”[16]..

الهوامش

1.أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، طبعة دار الكتب المصرية دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، ط3، (1378ﮪ/1967م)، ج3، ص88.

2.المصدر نفسه، 2/69.

3.المصدر نفسه، 3/89.

4.المصدر نفسه، ص89.

5.المصدر السابق، ص90.

6.المصدر نفسه، 9/91 = 91.

7.المصدر نفسه، 3/92-93.

8.المصدر نفسه، 6/93-94-95.

9.المصدر نفسه، 6/95-96.

10.المصدر نفسه، 3/113.

11.المصدر نفسه، 3/114-116.

12.المصدر نفسه، 3/115-116.

13.النساء، أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها الجزء الأول ص147/1، وأحمد في الجزء الثاني ص74 في نفس الكتاب والنسائي في الجزء السادس ص141 في باب شرح معاني الآثار.

14.نفس المصدر الأول ص116.

15.الجامع لأحكام القرآن، م، س، 6/116-117.

16.المصدر نفسه، 3/117-118.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق