مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (4): الوحدة القياسية على المستوى الجماعي

إن مكونات علم التأسي منتثرة بفضل الله في سجلات السنة النبوية المطهرة ومجامع التفسير ومصنفات علم التزكية والتصوف وكذا في كتب الفقه والأصول ولا تحتاج إلا إلى الجمع والمنهجة.

فالآيات المباركة في كتاب الله الكريم قد ألقت الأنوار حول الصفات المحورية للأنبياء والرسل وفي مقدمتهم إمامهم وخاتمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

كما أن المصنفات في الشمائل النبوية وفي دلائل النبوة قد ألقت الأضواء على شهادته صلى الله عليه وسلم وعلى هديه عليه الصلاة والسلام. كذلك، فكتب السيرة عامة قد حاولت رصد حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم بدقائقها وتفاصيلها، فحصلت عندنا بحمد الله مجامع ما تحتاج إلا إلى التثمير والتوظيف.

لقد عانت البشرية كثيرا على الصعيد الاجتماعي من آثار الجهود الخارصة لتبيّن معالم وسمات العمران البشري الأمثل، كما عانت عبر تاريخها من إملاءات وتحكمات المستبدّين أفرادا وجماعات، وقد كانت الذعائر والتكاليف باهضة، إذ كم قُدم ويقدّم من الأبرياء الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا حطبا لهذه المشاريع اليوطوبية، ليُتَبَيَّنَ بعد حين أنها لم تكن سوى سراب يباب، ولات حين مناص، وما الحالة السوفياتية منا ببعيد.

وبما رحمة من الله تعالى فقد جعل سبحانه الوحدة القياسية على المستوى الاجتماعي تتمثل في المجتمع النبوي حيث تمكن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، من جعله بهداية الله وتوفيقه يَنُثُّ كله بالهداية للتي هي أقوم فضاء وعمرانا وإنسانا ووظائف ومراكز وعلائق.

وقد كان البدء بأن تم تغيير اسم مهاجر الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم من طيبة ويثرب إلى المدينة -بألف ولام التعريف- ليفهم أن العمران الشاهد كان هو ذاك.

ولئن تكلم الفلاسفة عن المدينة الفاضلة وتاقوا إلى التعرف على الوحدة القياسية بهذا الخصوص، فإن النبوة -بأمر الله وفضله- قد أنشأتها واقعا حيا نابضا حفظت معالمه المركزية رغم كل التفريط والتقويض الذي يَبْدُر مثله عن البشر…

فالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، قد زرع آيات الوحي وعلاماته وبصائره في نفوس أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فاندَهَقَتْ منها إلى واقعهم لتكون هاديات خالدة للمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها إلا هالك.

إن في كتاب الله كما في سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، البنيات الوافرة على السلط والمراكز والأدوار والتدبيرات والوظائف والعلائق والنماذج والأخلاق والقيم التي ينبغي أن تَشْخَصَ في المجتمع الشاهد. في حالة السراء وفي حالة الضراء، في حالة الشدة وفي حالة الرخاء، في حالة السلم وفي حالة الخوف وكذا الحرب واللأواء3.

مما ليس ينتظر إلا العقول المتمرسة الخبيرة لطرح الأسئلة المنهجية من أجل رفع صرح علم التأسي على الصعيد الاجتماعي.

وجب ختاما التنبيه إلى بعض الأسس المهمة من أسس علم التأسي وآكدها.
1. أن يعلم المتأسي حيثيات سياق الزماني والعمراني الذي يوجد فيه، وحيثيات سياق المتأسى به صلى الله عليه وسلم، الزمانية والعمرانية والبيداغوجية4.
2. أن يعلم المتأسي الفروق الأنتروبولوجية والثقافية والعُرفية وغيرها بين السياقين حتى إذا ساءل في أي مجال من المجالات، استدمج هذه الفروق ليكون التنزيل سليما، ولا يخفى ما يقتضيه هذا من جهد بحثي ممنهج..
3. أن يستدمج المتأسي العلم بالمقاصد العامة للنبوة، رحمتها وجمالها وشرائعها حتى لا يفرط في الأصول لحساب الفروع أو يقدم ما من شأنه أن يؤخر أو العكس… وهذا داخل ضمن فقه الموازنات والترجيحات، وقد قام علماء الأمة جزاهم الله خيرا بجهود وضيئة في هذه المضامير.
4. أن يستحضر المتأسي وجوب النظر في المآلات واعتبارها حتى لا يكون جالبا لمفاسد على نفسه ومحيطه من حيث يريد جلب المصالح، وكثيرا ما يحصل ذلك إذا أغفل البعد المستقبلي في التنزيل.
5. كما أن من آكد الشروط أيضا وجوب المقاربة التكاملية التي لا تهمل جانبا من الجوانب أو تطغيه، بل تحرص على حضورها ومراعاتها جميعا بشكل مقدّر متوازن.

وبدون مراعاة هذه الشروط فإنه لا يمكن تفعيل وظيفة ودور الشهادة كما جاءت في مثل قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [سورة البقرة/الآية:142]

بقيت الإشارة أخيرا إلى أن في تراثنا جهودا مباركة وجب استئنافها في هذا الاتجاه لعلماء أفاضل هم بسبق حائزون تفضيلا مستوجبون من أمتهم ثناءها الجميلا، كأمثال القاضي عياض السبتي في “شفائه” والشاطبي في”موافقاته” و”اعتصامه” وابن القيم في “زاد المعاد” والصالحي في “سبل الهدى والرشاد” وشاه ولي الله الدهلوي في “الحجة البالغة” وسعيد النورسي بديع الزمان في “رسائل النور” وعبد الحي الكتاني في “التراتيب الإدارية في الحكومة النبوية” وغيرهم ممن وجب البناء على جهودهم وتثميرها.

كل ذا دون فقدان الاستبصار بأنه رغم كل ما يمكن أن يبذل في مجال علم التأسي، فإنه يبقى مجالا متجددا بتجدد الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف والعادات ويرحم الله الإمام السهيلي؛ إذ سمى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الروض الأُنُف”

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق