مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

أحسن الحديث (1): من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: الصبر.

أكرم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنصيب الأوفر، من الصفات العظمى، والأخلاق العليا، حتى كان أحسن الناس خلقا، وأجملهم أدبا؛ فهو عليه الصلاة والسلام مرسل لإتمام مكارم الأخلاق ومحاسنها، وإعطاء القدوة والنموذج الأمثل للبشرية جمعاء. قال عليه الصلاة والسلام: ” إنما بعثت لأتمم حسن الأخلاق”.

وقد أثنى عليه ربه في كتابه العزيز بعظيم الخُلق فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وكان مصدر هذه الأخلاق محل بيان من أمنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذ تقول عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط بسخطه”، فهو وقاف عند حدوده وتوجيهاته، فما هو إلا بشـر يوحى إليه، فأخلاقه عليه الصلاة والسلام كثيرة ومتعددة، ولا يمكن حصـرها، وقد تم الاقتصار في هذا المقال على خلق: الصبر، وذلك لأهميته في حياة الإنسان، حيث إن جميع أنواع الأخلاق مدارها على الصبر، فالرحمة مثلا تحتاج للصبر، وإلا ما رحمت الأم أولادها ولا تحملت المشقة في تربيتهم، ولا رحم الأب أبناءه وتحمل مشقة العمل للإنفاق عليهم…

والصبر في اللغة: هو حبس النفس عن الجزع . واصطلاحا:”هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه”.

والصّبر هو ترك الشكوى إلى غير الله. وقال سهل: الصّبر: انتظار الفرج من الله وهو أفضل الخدمة وأعلاها. قال السالكون: ” التّصبّر هو حمل النفس على المكاره، وتجرّع المرارة. يعني: إن لم يكن المرء مالك الصّبر فينبغي أن يجتهد ويكلّف نفسه الصّبر”.

ومن صور صبر الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي:

أولا: صبره على الأذى.

وإذا نظرنا في سنة وسيرة رسول صلى الله عليه وسلم وجدناه خير من صبر وتحمل، الأذى من قومه ومحيطه ما تنوء وتثقل به الجبال، في سبيل الدعوة إلى الله، ونشر الرسالة، حتى فتح الله عليه بذلك.

ومن المواقف التي يتجلّى فيها صبره عليه الصلاة والسلام، ما تعرض له من إهانة، وأذى جسدي من قومه وأهله وعشيرته، وهو بمكة يبلغ رسالة ربه، ما جاء في صحيح البخاري: أن عروة بن الزبير سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: “بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا” فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟

ومما تلقاه أيضا عليه الصلاة والسلام من الأذى من قومه فصبر واحتسب، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:” أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئا، لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه”.

قال ابن حجر: قوله “ويحيل بعضهم على بعض” من أحال إذا مال أي: يميل بعضهم على بعض من كثرة الضحك.
ثانيا: الصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى.

ولم يكن صبر الرسول صلى الله عليه وسلم مقتصرا على الابتلاءات فقط، بل كان صبره ممتدا للطاعات، فبالرغم من أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصلاة والذكر والتهجد والدعاء والصيام، وكان يقوم الليل حتى تتفطر وتتشقق قدماه من كثرة العبادة والوقوف بين يدي ربه سبحانه وتعالى، فعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: “أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا” والمعنى مثنيا على الله مبالغا في ذلك.

والحاصل: إن سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم هي مدرسة للتحلي بأخلاق الصبر، وتحمل الابتلاء والأذى في سبيل الله تعالى.

جريدة المصادر والمراجع:

دلائل النبوة، للبيهقي، دار الكتب العلمية ـ بيروت،ط 1ـ 1405 هـ.

صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، ط1، 1422هـ.

فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق : أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار المعرفة ـ بيروت ، 1379م.

مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، تحقيق : محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون ـ بيروت الطبعة الجديدة ، 1415 ـ 1995م.

مفردات غريب القرآن لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الاصفهانى تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية ـ دمشق ط1، 1412 هـ.

موسوعة الأخلاق لخالد بن جمعة بن عثمان الخراز، مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت، ط1، 1430 هـ ـ 2009 م

موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم لمحمد بن علي ابن القاضي محمد حامد بن محمّد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي، تحقيق: د. علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون ـ بيروت، ط1 ـ 1996م.

موطأ الإمام مالك صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، تخ:1406 هـ.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق