مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

قطوف لغوية من كتاب “التحرير والتنوير” (3)

سنقف في هذه الحلقة على منبع غزير من القطوف في تفسير “التحرير والتنوير” يدخل في ما سماه الطاهر ابن عاشور بالمبتكرات، فلما كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل رأى الطاهر ابن عاشور أن ملاك وجوه الإعجاز راجع إلى ثلاث جهات، سنقف منها على الجهة الثانية فقط وهي ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام مما لم يكن معهودا في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.

وهو ما سماه بـ”مبتكرات القرآن” التي تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب ولم يسبق للعرب استخدامه قبل القرآن، يقول: “وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب، مثال ذلك قوله تعالى: (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِنَات) فإبدال رسولا من ذكرا يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول، وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم، وأن وصفه بقوله يتلو عليكم آيات الله يفيد أن الآيات ذكر”(1).

ويعتقد أن الأصمعي المتوفى سنة (216هـ) كان أول من استعمل كلمة “ابتكر” في باب النقد حين قال عن معنى شعري “أول من ابتكر هذا المعنى ثعلبة بن صعير”(2) ثم جاء ابن عاشور فكان أول من استعمل اسم “مبتكرات” مضافة إلى القرآن مبتكرات القرآن.

ومبتكرات القرآن عنده أنواع فمنها ما يكون في الأساليب ومنها ما يكون في الألفاظ والتراكيب وغيرها. وقد وقف ابن عاشور في تفسيره على ثمانية وعشرين موضعا ذكر أنها من مبتكرات القرآن، والحق أن الحكم على هذه المواضع بكونها من مبتكرات القرآن يحتاج إلى استقصاء جم لكلام العرب، وقد اجتمع في شخصية الإمام ما يؤهله لهذا الحكم فقد كان محيطا بعلوم العربية، ملما بأفانين كلام العرب.

وسوف نقتصر في هذه الحلقة على موضع واحد من هذه المواضع ونرجئ بعضها إلى حلقات أخرى، وهو قوله تعالى: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) [إبراهيم: 9]، يقول ابن عاشور: “وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن”(3).

أولا: هذه العبارة تدخل في مبتكرات القرآن في الألفاظ والتراكيب.

ثانيا: هي إشارة دالة تدل على الاستهزاء والسخرية بالرسل، كما أن الكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته، لأن وقوعه خبرا عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإيثاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلا بيان عربي.

ثالثا: أن ابن عاشور يورد الحكم على كون هذا التركيب أو غيره من المبتكرات بصيغة الاحتمال وليس بصيغة الجزم، وهذا الأمر يسري على المواضع المتبقية كلها.

رابعا: اختلف المفسرون كذلك في الوجوه المحتملة لهذا التركيب، وقد أنهاها بعضهم إلى سبعة وجوه، فقيل معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عندما دعوهم إلى الله عز وجل، وقيل بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبا لهم، وقيل بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل(4). ولو كانت العرب تعرف هذا التركيب من قبل نزول القرآن أو استخدمته لعرفت المقصود به ولعرفت معناه من غير اختلاف كبير والله أعلم.

خامسا: قيل معنى قوله تعالى: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) عضوا عليها غيظا، “وقال شعبة، عن أبي إسحاق، أبي هبيرة ابن مريم، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا . وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ووجهه ابن جرير مختارا له، بقوله تعالى عن المنافقين) وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيِظ) [آل عمران: 119] ” (5) وهذا التركيب الأخير معروف في كلام العرب ولا وجه لأن يفسَّر به التركيب الأول، والظاهر والله أعلم أن هذا تركيب آخر أو إشارة دالة أخرى، لها دلالاتها ولا علاقة لها بالتركيب الأول الذي جعله ابن عاشور من مبتكرات القرآن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 التحرير والتنوير 1/123.

2 مبتكرات القرآن عند الطاهر ابن عاشور: دراسة بلاغية لهاني الصاعدي ص: 48.

3 التحرير والتنوير 13/196.

4 تفسير القرآن العظيم 2/506.

5 تفسير القرآن العظيم 2/506.

Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. د. فرح الشويخ
    أشكرك على مجهودك للتعريف بجديد الكتابات اللغوية الإسلامية التي تجعلنا في حباة ثقافية للغتنا التب يعرض عنها أبناؤها قبل أعدائها، وإني لسعيد بهذا الدور أتمنى أن يتسع هذا الدور ليشمل الأبحاث الحديثة من اللغويين العرب الجادة التي تسعى لإثبات صلاحية اللغة لكل زمان ومكان، وأتطلع إلى المساهمة في هذا الدور إن شاء الله تعالى.
    د. عمري صلاح. القاهرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق