مركز الدراسات القرآنيةشذور

في علو بيان القرآن على بيان الإنسان عند أبي الحسن الحرالي

الحمد لله الذي أظهر الآيات الواضحات البينات في كلامه الخلّاق، وأبرز العلامات اللائحات في الأنفس والآفاق. والصلاة والسلام على من ألهم الحكمة، وخير من نطق بالبيان، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فالإنسان مهما بلغ من الفصاحة والبيان لا يستطيع أن يسمو إلى ذروة البيان القرآني.
وقد خلف علماؤنا الأشاوس تراثا قرآنيا عظيما في مختلف علومه، ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وضبطوها، أفنوا أعمارهم في تفسير آيه، وبيان محكمه، وتدبر معانيه.
ومن العلوم التي شغلت بال كثير من الناس علم البيان، ومناسبته مع مبحث الإعجاز اللغوي وهذا من أهم مباحث الإعجاز اللغوي والذي تحدى به الله سبحانه البلغاء والفصحاء إلى يوم القيامة. يقوله الحق سبحانه: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ (سورة الطور، الايات33-34). وتحداهم إلى الإتيان بسورة واحدة من مثله، يقول تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (يونس، آية38). ومع كل ذلك عجزوا ولم يستطيعوا، وهذا دليل على بلاغة القرآن العظيم وإعجازه، وبديع نظمه وأسلوبه، وهذا ما يسبغ على هذا الكتاب المجيد سمة الإعجاز المطلق.
ومن النصوص البديعة في هذا الباب نص لأحد أعلام المغرب الأشاوس خلال القرن السابع الهجري.
يقول العلامة المفسر المدقق واضع قواعد التفسير ورائد علم البيان أبو الحسن علي بن أحمد التجيبي الحرالِّي المراكشي (ت638هـ):
«اعلم أن بلاغة البيان تعلو إلى علو قدر المبين، فعلو بيان الله على بيان خلقه، بقدر علو الله على خلقه.
فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه، فإذا أبان الإنسان عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه، وهو لا يحيط به علمه، فلا يصل إلى غاية البلاغة فيه بيانه، وإذا أنبأ عن الماضي فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائنا في ذكره، لما لزم الإنسان من نسيانه، وإذا أراد أن ينبئ عن الآتي، أعوزه البيان كله، إلا ما يقدره أو يزوره، فبيانه في الكائن ناقص، وبيانه في الماضي أنقص، وبيانه في الآتي ساقط: ﴿يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾.
وبيان الله، سبحانه، عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، وعن المنقطع، كونه بحسب إحاطته بالكائن، وسبحانه من النسيان ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ وعن الآتي بما هو الحق الواقع ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ والمبين الحق لا يوهن بيانه إيهام نسبة النقص إلى بيانه، والإنسان يتهم نفسه في البيان، ويخاف أن ينسب إلى العي، فيقصد استغراق البيان، ويضعف مفهوم بيانه ضعفا من منته. ومفهوم بيان القرآن أضعاف إفصاحه، وقل ما ينقص عن نظيره».اهـ.
وهذا نص عزيز في نظمه نفيس في بابه، قد حاول الشيخ رحمه الله أن ينطلق من حقيقة قرآنية كونية وهي أنَّ الله أعلى من جميع خلقه، فمن الطبيعي أن يكون بيانه أعلى من كل بيان. وكل بيان يعلو على قدر علو المبين. وهذا النص يفتح مجالا للتحليل والاستنباط، ويؤطر لنظرية الإمام في البيان القرآني، والتي تعتمد في عمومها على الإعجاز بالمعاني اللغوية.

من كتاب: تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي في التفسير، مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل. عروة المفتاح. التوشية والتوفية. نصوص من تفسيره المفقود لسورتي البقرة وآل عمران. تصدير: محمد بن شريفة، عضو أكادمية المملكة المغربية
تقديم وتحقيق: محمادي بن عبد السلام الخياطي. نشر: المركز الجامعي للبحث العلمي – الرباط (ط.1)(1418هـ/1997م).

Science

د. الحسن الوزاني

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق