مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

فوائد من حديث عائشة رضي الله عنها في اعتكافه صلى الله عليه وسلم عشرا في شوال

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، المتفرد بالجلال، الحائز على ضروب الجمال، وصفات الكمال، حمدا يكافئ مزيد فضله، ويوازي عظيم شكره، والصلاة على الحبيب الشفيع، ذي المنطق البديع، والمنهج الرفيع، الذي كشف الله به الظلمة، وأزال به الغمة، وعلى ذريته الطاهرة، الكرام البررة، وأصحابه الخيرة، العدول الأمناء، والسادات النجباء.

وبعد:

فلا شك أن أعمال البر والطاعة لا تنقضي في حياة المسلم؛ بل تستمر معه طول حياته إلى أن يأتي أجله، قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) ([1])، والله  سبحانه وتعالى يحب العمل إذا كان ديمة، وإن قل كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: “أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: أدومه وإن قل”([2])؛ ولهذا كان عمله صلى الله عليه وسلم ديمة كما  أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها: “كان عمله ديمة”([3]).

ولهذا فإن شهر رمضان لا تنقضي أعمال البر فيه بعد انصرامه من: قيام، وصيام، واعتكاف؛ بل تستمر هذه الأعمال بعد دخول شهر شوال قال ابن رجب: “أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان؛ بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حيا …و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال، فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، ثم قضاه في شوال، فاعتكف العشر الأول منه”([4]).

وقد ورد في اعتكافه صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من شوال الحديث الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها، فضربت خباء ، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر ، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية فقال: ما هذا؟ فأخبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آلبر ترون بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشر من شوال”([5]).

ولأهمية هذا الحديث الشريف، أحببت أن أخصه بهذا المقال، متناولا فيه: تخريجه، وبيان بعض مما فيه من فوائد من خلال كتب العلماء شراح الحديث: كابن بطال القرطبي، والنووي، وابن حجر.

وهذا أوان الشروع في المقصود، فأقول وبالله التوفيق:

تخريج الحديث:

أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف النساء([6])، وفي كتاب: الاعتكاف، باب: الأخبية في المسجد([7])، وفي باب: الاعتكاف في شوال([8])، وفي باب: من أراد أن يعتكف([9])، ومسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه([10]) كلاهما من طرق إلى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، عن عائشة رضي الله عنها واللفظ للبخاري.

الفوائد المستنبطة من الحديث:

ومن الفوائد المستنبطة من هذا الحديث الشريف الآتي:

1-جواز الاعتكاف دون  أن يكون المسلم صائما، قال ابن حجر: “قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن أول شوال هو يوم الفطر وصومه حرام، وقال غيره: في اعتكافه في شوال دليل على أن النوافل المعتادة إذا فاتت تقضى استحبابا واستدل به المالكية على وجوب قضاء العمل لمن شرع فيه ثم أبطله”([11]).

2-الاعتكاف وقته يبدأ من أول النهار بعد صلاة الصبح كما جاء في الحديث: “فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله”، قال ابن حجر: “وفيه أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي، والليث، والثوري، وقال الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل”([12]).

3-الاعتكاف لا يكون في البيوت؛ وإنما يكون في المساجد، قال النووي: ” الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم، وأزواجه، وأصحابه، إنما اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته، فلو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة لاسيما النساء؛ لأن حاجتهن إليه في البيوت أكثر، وهذا الذي ذكرناه من اختصاصه بالمسجد، وأنه لا يصح في غيره هو مذهب: مالك، والشافعي، وأحمد، وداود، والجمهور، سواء الرجل والمرأة، وقال أبو حنيفة: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، وهو الموضع المهيأ من بيتها لصلاتها، قال: ولا يجوز للرجل في مسجد بيته” ([13]).

4-جواز اتخاذ موضع في المسجد القيام بالاعتكاف، قال النووي: “قوله: ( وأنه أمر بخبائه فضرب ) قالوا: فيه دليل على جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعا من المسجد ينفرد فيه مدة اعتكافه ما لم يضيق على الناس، وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه؛ لئلا يضيق على غيره، وليكون أخلى له وأكمل في انفراده “([14]).

5-صحة اعتكاف النساء، وأن ذلك من باب المباح لهن، قال ابن بطال: “قال ابن المنذر : في هذا الحديث إباحة اعتكاف النساء؛ لأنه عليه السلام أذن لعائشة وحفصة”([15])، وقال النووي: “وفي هذا الحديث دليل على صحة اعتكاف النساء؛ لأنه صلى الله عليه و سلم كان أذن لهن ثم منعهن بعد ذلك لعارض”([16]).

6-الزوجة عليها أن تأخذ إذن زوجها عند رغبتها في الاعتكاف، قال ابن بطال: “وفيه : دليل أن المرأة إذا أرادت اعتكافا لم تعتكف حتى تستأذن زوجها؛ ويدل على أن الأفضل والأعلى للنساء لزوم منازلهن، وترك الاعتكاف مع إباحته لهن؛ لأن ردهن ومنعهن منه يدل على أن لزوم منازلهن أفضل من الاعتكاف”([17]) .

5-جواز ترك العمل إذا خشي الإنسان على نفسه الرياء؛ وذلك من خلال أمره صلى الله عليه وسلم بإزالة خبائه الذي يعتكف فيه من المسجد، قال ابن حجر: “وفيه ترك الأفضل إذا كان فيه مصلحة، وأن من خشي على عمله الرياء جاز له تركه وقطعه”([18]).

6-في الحديث منقبة لأمنا عائشة رضي الله عنها، قال ابن حجر: ” وفي الحديث بيان مرتبة عائشة رضي الله عنها في كون حفصة رضي الله عنها لم تستأذن إلا بواسطتها”([19]).

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى أن:

1-أعمال البر والطاعة لا تنقضي في حياة المسلم، وأن عليه أن يستمر عليها حتى يلقى ربه عز وجل.

2-أن الله عز وجل يحب الأعمال التي يداوم عليها العبد تقربا إليه وإن قلَّت.

3-أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم كان ديمة كما وصفته عائشة رضي الله عنها.

4-النبي صلى الله عليه وسلم يقضي ما فاته من أعمال البر في رمضان عند حلول شهر شوال.

5-النبي صلى الله عليه وسلم ترك في عام الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وقضاه في شوال في العشر الأول منه.

6-حديث اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في شوال متفق على صحته.

7-حديث اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في شوال فيه من الفقه والفوائد ما تقدم ذكره والإشارة إليه في المقال.

9-التوسعة في أداء الطاعات.

والحمد لله رب العالمين.

*******************

هوامش المقال:

([1]) سورة الحجر الآية: 99.

([2]) أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 354) كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره برقم: (782) .

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 478) كتاب: الصوم، باب: هل يخص شيئا من الأيام، برقم: (1987).

([4]) لطائف المعارف (ص: 396-397).

([5]) تقدم تخريجه.

([6]) صحيح البخاري (ص: 488) برقم: (2033).

([7]) صحيح البخاري (ص: 488) برقم: (2034).

([8]) صحيح البخاري (ص: 491) برقم: (2041).

([9]) صحيح البخاري (ص: 491) برقم: (2045).

([10]) صحيح مسلم (ص: 526) برقم: (1173).

([11]) فتح الباري (6 /598).

([12]) فتح الباري (6 /598-599).

([13]) صحيح مسلم بشرح النووي (4 /325).

([14]) صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 326).

([15]) شرح صحيح البخاري (4 /170).

([16]) صحيح مسلم بشرح النووي (4 /327).

([17]) شرح صحيح البخاري  (4/ 170).

([18]) فتح الباري (6/ 599).

([19]) فتح الباري (6/ 599).

*******************

لائحة المصادر والمراجع:

صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، دمشق، ط1/ 1423هـ- 2002مـ.

صحيح مسلم بشرح النووي . لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة ط1/ 1415هـ -1994مـ.

صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج. تحقيق: أبي قتيبة نظر محمد الفاريابي. دار طيبة. الرياض، ط1/ 1427هـ- 2006مـ.

شرح صحيح البخاري. لعلي بن خلف ابن بطال القرطبي،  تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، (د.ت).

فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، الرسالة العالمية، سوريا، ط1 /1434هـ- 2013مـ.

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. تحقيق: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير  دمشق – بيروت. ط5/ 1420هـ – 1999مـ .

*راجع المقال الباحث: يوسف ازهار

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق