مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (10)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وبالضبط في الإبانة عن مكنون اختيارات الشيخ في رسالته، وقد مضت مدارسة خفيفة لاختيار التخيير، وانتخاب الإطلاق، وفي هذا المعقد الثالث نقف عند اختياره الإهمال:

فإذا كان الشيخ رحمه الله يخير للاحتمال والتدافع بين النصوص الشرعية، والأقوال المرعية طورا، ويطلق أو يقتصر؛ لمشكلة أصولية أو قاعدة كلية أطوارا، فإنه تارة يهمل من غير نسيان ولا ذهول لأحكام ذائعة، ومسائل شائعة، ومن أمثلة ذلك، قوله رحمه الله: «والإحرام في الصلاة أن تقول الله أكبر .. وترفع يديك حذو منكبيك..ثم تقرأ..» ([1]) إذ لم يعرض لحكم الإرسال أو القبض بعد تكبيرة الإحرام؛ ولذلك عقب الشيخ زروق فقال: «فرع في حكم الإرسال بعد تمام الرفع اختلاف..»([2]) ويشبه أن يكون مرد ذلك إلى هذه الأمور:

الأمر الأول: أنه قد لا يراه من هيأة الصلاة؛ وأومأ إلى ذلك الشيخ زروق فقال: «وإنما اختلف الناس هل ذلك من هيئات الصلاة أم لا »([3]) فإذا استد له أن ركن القيام في الصلاة يتم بما يسمى وقوفا في العادة، كستر العورة يتم بما يتم به الستر عادة فلا داعي للتنصيص عليه، سيما وقد تضاربت الأقوال في شأنه، وتعارضت الأمهات في حكمه.

الأمر الثاني: ما هو مبثوث من تعارض الأقوال والروايات، وتصادم الأمهات كالموطإ والمدونة في الإرسال والقبض قد يلجئه إلى إهمال الحكم عند القيام، وعدم التنصيص عليه لا بقبض ولا بإرسال، وبخاصة أنه من مندوبات الصلاة لا يرقى إلى سننها ناهيك عن الواجبات والأركان

فأما تعارض الروايات:

ففي المدونة: «قال: وقال مالك: في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة؟ قال: لا أعرف ذلك في الفريضة وكان يكرهه، ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به نفسه..» ([4])

وفي المستخرجة عن أشهب ما يعارض نص المدونة كما سيأتي نصها في الأمر الرابع.

وأما الأقوال فقد أطنب الناس في توجيه ما ورد عن مالك في كراهة القبض، وندبية السدل، وجماعه في قول خليل: «وسدل يديه وهل يجوز القبض في النفل، أو إن طول، وهل كراهيته في الفرض للاعتماد، أو خيفة اعتقاد وجوبه، أو إظهار خشوع.؟ تأويلات » قال شارحه: «تقدم عند رفع اليدين أن مذهب المدونة أن وضع اليد على الأخرى مكروه في الفرض لا النفل؛ لطول القيام. ابن رشد: ويكره في النفل دون طول. ابن شاس: حمل القاضي الكراهة إن اعتمد. الباجي: قد تحمل كراهة ذلك لئلا يعتقد الجهال ركنيته. اللخمي: وقيل: في كراهة ذلك خيفة أن يظهر بجوارحه من الخشوع ما لا يضمره»([5])

وقد أحسن التنظير والتعليل الزرقاني في شرحه فقال عند قول الشيخ خليل «تأويلات»: «في كل من المسألتين خمسة: اثنان في الأولى، وثلاثة في الثانية، والتعليل الأول فيها بغير المظنة، فإذا انتفى الاعتماد لم يكره كما قدمنا، والثالث بمظنة إظهار الخشوع، وكذا الثاني على مقتضى المصنف وقت، ويحتمل أن يكون كالأول، وعلى أنه بالمظنة فهل المراد مظنة اعتقاد الفاعل، أو مظنة غيره فيمن يعرف الحكم..» ([6])، والحاصل أن هذا التضارب مظنة الإهمال.

الأمر الثالث: تعارض النصوص الشرعية ففي الموطأ عن سهل بن سعد، أنه قال: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك([7]). وفي سنن أبي داود عن أبي حميد الساعدي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلا، ثم يقرأ) ([8]) ووجهه عدم التنصيص على القبض، فيبقى الإرسال؛ لأنه الأصل في هيأة القيام، ويعضده قوله فيه : «حتى يقر كل عظم في موضعه» ويؤيد ذلك العمل، والذريعة، وحديث المسيء صلاته؛ إذ لانص فيه على قبض ولا إرسال([9])

الأمر الرابع: ما ورد من إباحة القبض واستحسانه في سماع القرويين والشيخ منهم، ففي النوادر له: «من المستخرجة: روى أشهب عن مالك أنه لا بأس أن يضع يده اليمنى على كوع اليسرى في الفريضة والنافلة. قال عنه علي في المجموعة: ليس الإمساك بواجب، ولكنها عقبة. قال ابن حبيب: روى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه استحسنه..» ([10])، ولعله لهذا السر عقب سحنون على نص المدونة المتقدم بقوله: عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم (واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) ([11])، كالتنكيت على رواية ابن القاسم والله أعلم.

فإذا اجتمع له ما سلف من كونه ليس من هيئات الصلاة على خلف، مع تزاحم الروايات والأقوال، وتعارض النصوص الشرعية دلالة، مع خفة حكمه، ويسارة شأنه، على أن القبض منصوص أهل بلدته، فقد يتمهد له نظرا واعتبارا إهماله وعدم التنصيص عليه والله أعز وأحكم.

 

([1]) ص 44

([2]) شرح الشيخ زروق:1/155.

([3]) شرح الشيخ زروق:1/155.

([4]) المدونة: 1/169.

([5]) التاج والإكليل لمختصر خليل لأبي عبد الله المواق: 2/247.

([6])شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني:1/378، وقف على كلام نفيس للبناني في حاشيته فلا نطيل به.

([7]) كتاب قصر الصلاة في السفر باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة

([8]) كتاب الصلاة باب افتتاح الصلاة

([9]) ينظر للتوسع رسالة سدل اليدين في الصلاة على مذهب الإمام مالك، العلامة محمد بن محمد المغربي الشنقيطي فقد أوعب فيها، وناقشه في هامشها الشيخ أحمد قاسم الطهطاوي.

([10]) النوادر والزيادات لأبي محمد ابن أبي زيد:1/182.

([11]) المدونة: 1/169.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق