وحدة الإحياءدراسات محكمة

علم التجويد وأهميته في الدراسات الصوتية

 الحمد لله الكبير المتعال، الذي أرسل رسوله بدين الحق، هدى ورحمة للعالمين، والجاعل أول آية من آيات قرآنه المجيد أمرا بالقراءة، فقال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العقل: 1- 5)، الذي أقسم بالقلم وما يسطر تقديرا لرسالة العلم والتعلم.

والصلاة والسلام على رسوله القائل: “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن يتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران”.

محمد بن عبد الله، أفصح العرب الذي نشأ في قريش وترعرع في بني ساعدة، وقريش هم أفصح العرب وبنو ساعدة أعلامهم رتبة في ذلك، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

أقبل المسلمون قديما، وما زالوا، على تعلم قرآنهم الذي جاء بلغة العرب، وكان على العرب أن يقدروا التكريم الذي يكرمهم الله به، بأن جعل لغتهم الوسيلة لحمل آخر رسالاته إلى البشر، ولعل من الواجب وفاء لهذا التكريم أن يتحملوا دورهم المناط بهم في نشر لغة القرآن بين الأمم.

من هذا المنطلق حاولت الكتابة في هذا الموضوع، ملقيا الضوء على ماهية التجويد القرآني وأهميته عارضا لملامحه العامة، مبينا موقعه في الدراسات الصوتية، لافتا الأنظار إلى ثمرته، مشيرا إلى ما ينبغي له من العناية والاهتمام داخل الدراسات الصوتية الحديثة.

أما عن ماهيته فالتجويد كما عرفه الإمام الشهير ابن الجزري المتوفى سنة 833ﮪ،  “مصدر من جود تجويدا، والاسم منه الجودة ضد الرداءة في النطق، ولذا فهو في اللغة التحسين”[1].

أما في عرف علماء التجويد فيعني إعطاء الحروف حقها من الصفات اللازمة لها ومستحقها من الأحكام التي تنشأ عن تلك الصفات لتتحقق انتهاء الغاية في التصحيح، وبلوغ النهاية في التحسين، قال أبو عمرو الداني: “والتجويد في القراءة هو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها في مراتبها ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره وشكله وإشباع لفظه وتمكين النطق به على حال صيغته وهيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف”[2].

إن علم التجويد أو “الأداء القرآني” يعتبر من أشرف العلوم وأجلها هدفا، فثمرته تكمن في صون اللسان عن الخطأ في كتاب الله تعالى، ومن ثم قرر العلماء أن الإلمام بأصوله وأحكامه فرض كفاية، وتطبيق ذلك على التلاوة القرآنية فرض عين، لهذا ألزم الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، بإقامة أصوات حروفه، فقال في محكم كتابه: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ﴾ (القيامة: 17-18)، وأبان عن وصف قراءته وكيفية تلقينه بقوله مخاطبا رسوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ﴾ (الإسراء 105-106). أما نبيه محمد القرشي، صلى الله عليه وسلم، فقد قام أصوات القرآن الكريم حسبما تلقى عن ربه وكيفما تعلم من معلمه الأول “جبريل” عليه السلام بأمر من ربه.

قال ابن الجزري: “ولاشك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على النحو الذي تلقاه الأئمة الثقات من فم رسول الله، صلى الله عليه وسلم”[3].

وبعد ذلك قام العلماء بتقنين معايير وموازين النطق بأصوات القرآن الكريم مفردة ومركبة، وإبانة منهج دراستها وتعليمها وتجويد النطق بها.

كما قاموا بجمع حروف القرآن وقراءاته وعزوا وجوهه ورواياته وإبانة أصول رسمه ونقطه واختلاف أدائه على ألسنة قرائه ما بين فتح وإمالة، وإدغام وإظهار، وتفخيم وترقيق، وهمز وتسهيل، ومد وقصر.

ومن بين الرواد الأوائل الذين لهم الباع الطويل في هذه الميادين القرآنية الإمام أبو عمرو الداني المتوفى سنة 444ﮪ، فهو مشهود له بالريادة والتقدم والتحقيق في ميدان الدراسات القرآنية.

وقد تضمنت هذه الدراسات بذور كثير من الأفكار الحديثة في ميدان الدرس الصوتي والقرآني كما أشبعت القول في كثير من القضايا الصوتية التي يظن كثير من الباحثين أنها وليدة العصر.

وتميزت هذه الدراسات بالدقة والتحري في البحث والاستقصاء وتحقيق القول مع وضوح المنهج وصحة النقل والرواية وأصالة الرأي والدراية، ويأتي كتاب “التحديد في الإتقان والتسديد في صنعة التجويد” لأبي عمرو الداني، في إطار تلك الكتب التي ألفت في علم أصوات القرآن الكريم وقد حققه الدكتور أحمد عبد التواب الفيومي سنة 1993م.

والتجويد هو حلية التلاوة وزينة القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها، وذلك عن طريق رد الحرف إلى مخرجه وأصله من غير تعسف وتكلف، وإلى ذلك أشار النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله: “من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد” يعني عبد الله بن مسعود الذي أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع القرآن منه.

وقال ابن الجزري: “ليس التجويد بتمضيع اللسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك، ولا بترعيد الصوت، ولا بتمطيط الشد، ولا بتقطيع المد، ولا بتطنين الغنات، ولا بعصرة الرآآت، قراءة تنفر عنها الطباع، وتمجها القلوب والأسماع، بل القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة التي لا مضغ فيها ولا لوك، ولا تعسف، ولا تكلف، ولا تصنع ولا تنطع، ولا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء بوجه من وجوه القراءات والأداء”[4].

لهذا يجب إخراج كل حرف من مخرجه المختص به مع إعطاء كل حرف صفته اللازمة أي، تلك الصفة الذاتية التي لا تنفك عنه كالاستعلاء مثلا أو الاستفال، فإن انفكت عنه كان لحنا، وينجم عن الصفات الذاتية صفات عرضية كالتفخيم الناشئ عن الاستعلاء، والترقيق المتولد عن الاستفال.

من هنا يتضح لنا أهمية هذا العلم، فالإلمام بأحكامه وأصوله يمكن المسلم من تلاوة القرآن الكريم بطريقة سوية من غير إفراط ولا تكلف.

ولا ريب في ذلك، فتطبيق قوانينه وأصوله خير وسيلة لتحقيق الأداء السليم وقفا، ووصلا ابتداء، ومدا وقصرا، ووعيا للتفاعل الذي يحدث بين البنية اللغوية وصوتها، وما يتبع من ظواهر صوتية متنوعة كالإظهار، أو الإغضاء، أو الإدغام، بغية الوصول إلى الغاية المنشودة المتمثلة في حفظ اللسان عن الخطأ في التلاوة القرآنية من جانب، وتحقيق الانسجام الصوتي بين لبنات الكلمة القرآنية من جانب آخر.

ومن هنا انبثق حكم علم التجويد، وقرر العلماء أن الإلمام بقواعده فرض كفاية بينما (العمل بتلك القواعد والأسس مادة الأداء القرآنية فرض عين مستدلين بقوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل: 4)، وبقوله عز وجل: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (الفرقان: 32).

ولا يخفى ما في الآيتين من تأكيد وتوثيق، إذ لم يقتصر الأسلوب القرآني على الفعل (رتل) وإنما أكده بالمصدر (ترتيلا) اهتماما بمضمون القضية المطروحة، وتعظيما للتلاوة القرآنية، وليكون ذلك الترتيل عونا على تدبر القرآن وتفهمه، والترتيل مصدر رتل، يقال فلان رتل كلامه إذا أتبع بعضه بعضا على مكث وتفهم من غير عجلة، وهو الذي نزل به القرآن[5].

وعن أم سلمة، رضي الله عنها، أنها نعتت قراءة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مفسرة حرفا حرفا[6].

وفي ضوء هذا تبدو أهمية علم التجويد جلية للعيان، وليس أدل على ذلك من الحكم السابق لتطبيق أسسه وأصوله، مضافا إلى ذلك فحوى الآيتين السابقتين وما ورد أيضا في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “زينوا القرآن بأصواتكم”، وجدير بالذكر أن المقصود بالتزيين الترتيل، والتحسين، لا التطريب والتنغيم دون نظر إلى المعنى أو اعتداد بالخشوع.

ولا يخفى ما قام به علم التجويد من دور في المحافظة على كتاب الله عبر القرون سويا في النطق سلسا في الأداء، أما أصوله فهي تمثل ملامحه العامة، وتشير على موقعه على ساحة الدراسة الصوتية، إذ تنوعت مباحثه، وتعددت جوانبه، بيد أنها لم تخرج عن دائرة الحرف القرآني، ومن ثم فملامح هذا العلم صوتية الوجه واليد واللسان، ولا غرو في ذلك فميدانه هو دراسة الحرف ـ الصوت ـ القرآني سواء أكان مفردا أم مركبا، ودراسة الحرف حالة أفراد: تعني بيان مخرجه وصفاته، وهذا ميدان علم الأصوات الفوناتيكي في ظل الدراسات اللغوية الحديثة.

أما مخارج الحروف فقد اختلف علماء القراءات في عددها، قال ابن الجزري: “فالصحيح المختار عندنا وعند من تقدمنا من المحققين كالخليل بن أحمد ومكي بن أبي طالب وغيرهما سبعة عشر مخرجا”[7].

أما أبو عمرو الداني فقد عدها ستة عشر مخرجا كما هي عند سيبويه، وقد فصل الخليل بن أحمد القول في هذه المسألة فقال:  ” العين والحاء والهاء والهمزة المحققة والخاء والغين حلقية لأن مبدأها من الحلق، والقاف والكاف لهويتان لأن مبدأهما من اللهاة، والجيم والشين والضاد شجرية لأن مبدأها من شجر الفم أي مخرج الفم، والصاد والسين والزاي أسلية لأن مبدأها من أسلة اللسان وهي مستدق طرف اللسان، والطاء والدال والتاء نطعية أن مبدأها من نطع الغار الأعلى وهو سقفه، والظاء والذال والثاء لثوية لأن مبدأها من اللثة، والراء واللام والنون ذلقية لأن مبدأها من ذلق اللسان وهو تحديد طرف ذلق اللسان، والفاء والباء والميم شفوية وقال مرة شفهية لأن مبدأها من الشفة، والياء والواو والألف والهمزة هوائية، فنسب كل حرف إلى موضعه الذي يبدأ منه”[8].

والمخرج تتحكم فيه ثلاثة أعضاء من أعضاء الجهاز النطقي في تكوين الصوت، وتحديد ملامحه ومخرجه وهي: الرئة، والحنجرة، واللسان، فالهواء يتخذ طريقه من الرئة إلى الشفتين فيمر بالحنجرة وفيها الحبلان الصوتيان وهما اللذان يحددان إن كان الصوت مجهورا أو مهموسا، ثم يواصل الهواء سيره إلى الخارج فتعرضه عقبات ناجمة عن حركة اللسان في اقترابه أو ابتعاده أو التصاقه بعضو آخر من أعضاء النطق، ونوعية هذه العقبة التي تعرض مسار الهواء هي التي تحدد إن كان الصوت (الصامت) شديدا، أم رخوا، ولهذا فاللسان يعتبر أهم أعضاء النطق قاطبة في تشكيل الأصوات وتحديد مخارجها، ولهذا سميت لغة القوم بلسان القوم.

ولكل حرف من هذه الحروف عدد من الخواص النطقية التي يتميز بها عن غيره بعد خروجه من مخرجه، وقد جرت العادة بتسمية هذه الخواص النطقية بصفات الحروف.

والصفة معناها ما يكتسبه الصوت عن طريق تكيف مخرجه أو تكيف مجراه بكيفية معينة كما يتكيف الماء في مجراه.

قال أبو عمرو الداني في شأن هذه الصفات: “اعلموا أن أصناف هذه الحروف التي تتميز بها بعد خروجها من مواضعها ستة عشر صنفا: المهموسة والمجهورة، والشديدة والرخوة، والمطبقة والمتفتحة، والمستعلية والمستفلة، وحروف المد واللين، وحروف الصفير، والمتفشي والمستطيل، والمتكرر، والهاوي، والمنحرف، وحرفا الغنة”[9].

الحروف المهموسة هو أن يكون الحبلان ملتصقين إلى الحنجرة فيمر الهواء عبرهما من غير أن يحركهما، والصوت في هذه الحالة يوصف بأنه مهموس.

والصوامت العربية المهموسة عند الأقدمين عشرة جمعت في العبارة: “سكت فحثه شخص”، أما عند المعاصرين فهي (اثنا عشر صامتا بإضافة القاف والطاء إليها).

لقد أتاح لنا التقدم العلمي الذي نعيشه اليوم أن نستخدم مخترعات التصوير في تحديد موقع الحبلين الصوتيين، ومعرفة الطريقة التي يعملان بها عند إخراج الأصوات، فعرفنا أن الصوت المجهور هو الصوت الذي تهتز فيه الأحبال الصوتية، أما علماء العربية السابقون كانوا يعتمدون على الملاحظة الذاتية، ولما كان الجهر لا يمكن ملاحظته بالعين المجردة كان لا غرابة أن يشوب وصفهم له شيء من الغموض، ولكن بالرغم من ذلك فقد جاء تعريفهم للجهر مطابقا لنتائج علم الأصوات الحديثة.

استدل العالم كاتنينو في كتابه “دروس في علم أصوات العربية” من عبارة سيبويه: (ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا، والصاد سينا، والظاء ذالا ولخرجت الضاد من الكلام لأنه ليس شيء من موضعها غيرها)[10] على أن المجهور عند سيبويه لم يختلف عن تعريف المجهور عندنا اليوم، فالطاء في العربية القديمة كان صوتا مجهورا، ولذا كان الطبيعي أن يكون الفرق الوحيد بينها وبين الدال المجهورة هو الإطباق، أما الطاء اليوم فهي مهموسة ولذا أصبح الإطباق يفرق بينها وبين التاء والدال.

الأصوات المجهورة في الأصوات المعاصرة خمسة هي: “الظاء، الذال، الزاي، الغين، العين، باستثناء الظاء التي أصبحت شديدة في الصوت المعاصر.

أما المجهورة الشديدة فهي عند ابن الجزري[11] ثمانية: الهمزة والقاف والكاف، والجيم، والدال، والتاء، والطاء، والباء، غير أنه حدث تطور صوتي في صوتين، هما الطاء والقاف اللذان أصبحا مهموسين في علم الأصوات المعاصرة.

والحروف الرخوة التي ضدها الشديدة هي ثلاثة عشر حرفا: ف، ظ، ذ، ث، س، ز، ص، ش، خ، غ، ع، ح، ﻫ. أما سيبويه[12] فقد وصف (العين) بأنها بين الشدة والرخاوة.

وكانت الضاد ضمن الحروف الرخوة قديما، إلا أنها أصبحت ضمن الحروف الشديدة في علم الأصوات الحديثة.

وحروف الإطباق من صفات القوة وهي أربعة: الصاد والضاد، والطاء، والظاء وما سوى ذلك فمفتوح غير مطبق.

وحروف الاستعلاء كذلك من صفات القوة وهي سبعة: الخاء والغين والقاف والضاد والطاء والصاد والظاء ما عدا هذه الحروف مستفلة، وسميت بهذا الاسم لأن اللسان لا يعلو بها إلى جهة الحنك.

وحروف الصفير ثلاثة: الصاد والزاي والشين، وسميت بهذا لأنها يسمع منها صفير عند إخراجها من موضعها.

أما حروف التفشي فهو حرف واحد: الشين.

أما صفة الاستطالة، قال أبو عمرو الداني في كتابه “التحديد في الإتقان”، والمستطيل حرف واحد وهو الضاد ـ استطالت في الفم لرخاوتها حتى اتصلت بمخرج اللام ولذلك أدغمت اللام فيها نحو “ولا الضالين”[13].

وحرف التكرير حرف واحد هو الراء، وسمي بذلك لأنه يتكرر على اللسان عند النطق به كأنه طرف اللسان يرتعد به.

والحرف المنحرف هو اللام الذي معه ينحرف الصوت ولا يجري على الاستقامة وقيل حرف الانحراف اللام والراء على الصحيح[14].

أما حرفا الغنة هما: الميم والنون لأنهما غنة في الخيشوم.

وحروف المد ثلاثة: الألف والواو والياء، سميت ممدودة لأن الصوت يمتد بها بعد إخراجها من موضعها إلا أن المد الذي في الألف أكثر من المد الذي في الياء والواو لاتساع الصوت؛ (أي امتداده) وتسمى أيضا حروف اللين لضعفها وخفائها.

والحروف الهوائية حرف واحد وهو الألف لأنه حرف اتسع مخرجه لهواء الصوت أشد من اتساع غيره.

إن كل حرف من حروف القرآن الكريم يجب أن يوفى حقه من المنزلة التي هو مخصوص بها حتى لا يتحول عن صورته ويزول عن صيغته.

أما دراسة الصوت حالة التركيب، فتعنى ببيان ما يعتريه من تغير داخل السياق بين ثنايا البنية اللغوية للكلمة القرآنية، إذ أن هناك تفاعلا معينا يحدث نتيجة للتجاور الصوتي، وما يترتب عليه من تأثر الصفات الذاتية لكل صوت بما يجاوره، وما ينجم عن ذلك من صفات عارضة، وكل تأثير بين الأصوات تبدو مظاهره في التغيرات المنوعة داخل السياق، كالإظهار أو الإخفاء، أو الإدغام أو المد بأنماطه إلى غير ذلك من الأحكام الأدائية التي تمثل التفاعل الذي نجم عن التجاور الصوتي للكلمة القرآنية، وهذا اللون من الدراسة هو لب علم الأصوات الفونولوجي في إطار الدرس اللغوي الحديث.

ومن هذا المنحى من الدراسات التجويدية أحكام الميم الساكنة، إذ يعتريها الإدغام إذا وليها ميم مثلها، نحو التلاوة القرآنية لقول الله تعالى: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ (الجن: 16).

ومن ذلك أيضا إطالة الصوت بحرف المد عند عدم ملاقات الهمزة أو السكون قال أبو عمرو الداني: “والألف يعطي من المد والتمكين بمقدار ما فيه من ذلك مما هو صيغته من غير زيادة وذلك إذا لم يلق همزة ولا حرفا ساكنا وإلا زيد في تمكينه وأشبع مده”[15].

إلى غير ذلك من الأحكام المنبثقة عن المنحى الفنولوجي في إطار السياق القرآني، وعلى هذا يمكن القول بأن الملامح العامة لعلم التجويد تقوم على دعامتين: أحداهما؛ (الجانب النظري الذي يعنى بدراسة الصوت القرآني دراسة وصفية تحليلية إفرادا أو تركيبا بغية الوقوف على أحكام عامة وأسس وأصول للأداء السوي لكتاب الله عز وجل.

والأخرى الجانب التطبيقي الذي يعنى بتطبيق هذه الأسس والأصول على التلاوة القرآنية، في ضوء نماذج متنوعة للنسق القرآني لتدريب المسلم على كيفية النطق السوي، والأداء القويم لآي الذكر الحكيم.

وجدير بالذكر أن الجانب التطبيقي لا يقل أهمية عن الجانب النظري، بل الإحاطة بالجانب النظري لم تزد عن كونها فرض كفاية، في حين أن التطبيق العملي لأصول هذا العلم فرض عين، ومن ثم كان من وسائل تعليمه التلقي والمشافهة ممن يجيد قراءة القرآن.

ولاشك أن تجويد القرآن الكريم على هدي ما ورد عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ترتيلا وأداء من أهم الوسائل للحفاظ على كتاب الله وصونه من التحريف والتغيير.

وتأسيسا على ما سبق يمكننا أن نقول: إن علم التجويد يقع موقع القمة في ميدان الدراسات القرآنية، فتطبيق أسسه وقوانينه يمكن الدارس للقرآن من تذوق أساليبه، وتفهم آياته، وتدبر معانيه.

وغير خاف أن الدرس القرآني متشعب المناحي، متعدد الجهات، منه الفقهي والتفسيري، واللغوي إلى غير ذلك من العلوم التي لم تنشأ إلا لخدمة القرآن.

ولا ريب أن علم التجويد ينتمي إلى حقل الدراسات اللغوية بصفة عامة إذ تدور محاوره حول كيفية توصيل النص القرآني أو نطقه بطريقة جيدة خالية من الخطأ واللحن، حفاظا على لغة القرآن.

وفي ضوء التنوع لمناحي الدرس اللغوي نلمح موقع التجويد بين ربوع الدراسات الصوتية، بل ريادته لهذا النمط من أنماط الدرس اللغوي بلا منازع، ومن ثم عدت مصنفات التجويد من أهم مصادر ثراتنا الصوتي، فقد كان علماء القراءات من أكثر الناس حرصا على تناول المباحث الصوتية في مؤلفاتهم، ومما يؤكد قوة العلاقة بين علم التجويد وميدان الدراسة الصوتية احتواء مباحثه على شتى فروع علم الأصوات في ضوء التخصص الدقيق الذي هو سمة العصر ولا غرو في ذلك، فهو يمت إلى علم الأصوات النطقي بصلة حينما يدرس قضية مخارج الحروف وصفاتها بغية الوقوف على حقيقتها.

كما يتصل بعلم الأصوات الفيزيائية حينما يدرس قضية المد ودواعيه وأنماطه المتنوعة، بالإضافة إلى بعض الصفات الخاصة بالحروف كالجهر والهمس، والشدة والرخاوة.

وهو في دراسته للصوت حالة إفراده بعيدا عن السياق لا يخرج عن الإطار العام والملامح المنهجية لعلم الأصوات الفوناتيكي.

انظر العدد 15 من مجلة الإحياء

علم التجويد وأهميته في الدراسات الصوتية

الهوامش


1. ابن الجزري، النشر في القراءات العشر، تحقيق: علي محمد الضباع، المجلد الأول، ص210.

2. أبو عمرو الداني، التجويد في الإتقان والتسديد في صنعة التجويد، تحقيق: أحمد عبد التواب الفيوشي، ص169.

3. النشر على القراءات العشر، م، س، ص210.

4. المصدر نفسه، ص213.

ـ سمية مستعلية لأن اللسان يعلو بها إلى جهة الحنك، ولذلك يمنع الإمالة.

ـ سمية مستفيلة لأن اللسان لا يعلو بها إلى جهة الحنك.

5. النشر في القراءات العشر، م، س، ص207-208.

6. سنن الترمذي، ج5، ص182، رقم الحديث: 2923.

7. النشر في القراءات العشر، م، س، ص198.

8. الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، ج 1، ص58.

9. التجويد في الإتقان والتسديد في صنعة التجويد، م، س، ص57.

10. كانتينو، دروس في علم أصوات العربية، ص49-50.

11. النشر في القراءات العشر، م، س، ص202.

12. سيبويه، الكتاب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ج 4، ص434.

13. التجويد في الإتقان والتسديد في صنعة التجويد، م، س، ص69.

14. النشر على القراءات العشر، م، س، ص204.

15. التحقيق في الإتقان، ص118.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق