مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «تأملات في سورة العلق» “الحلقة 2”

 

نجد قمة الإعجاز البلاغي في براعة استهلال هذه السورة  بكلمة «اقرأ»، وبراعة الاستهلال كما يقول فيها النويري: «وأما حسن الابتداءات – قال: هذه تسمية ابن المعتز، وأراد بها ابتداءات القصائد، وفرَّع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وهو أن يأتي الناظم أو الناثر في ابتداء كلامه ببيت أو قرينة تدل على مراده في القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده، والكاتب أشد ضرورة إلى ذلك من غيره ليبتني كلامه على نسق واحد دل عليه من أول علم بها مقصده، إما في خطبة تقليد، أو دعاء كتاب، كما قيل لكاتب: اكتب إلى الأمير بأن بقرة ولدت حيواناً على شكل الإنسان فكتب: أما بعد حمد الله خالق الإنسان في بطون الأنعام» .[25]

وكقول أبي الطيب في الصلح الذي وقع بين كافور وبين ابن مولاه:[26]

حَسَمَ الصّلحُ ما اشْتَهَتْهُ الأَعادِي /// وَأَذاعَتْهُ أَلْسُنُ الحُسَّادِ

فقد جاءت مطابقة لمقتضى حال النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالتصريح بل بألطف إشارة لا يدركها إلا صاحب الذوق السليم، وافتتاح السورة بكلمة  (اقرأ)  إيذان بأن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  سيكون قارئاً، أي تالياً كتاباً بعد أن لم يكن قد تلا كتاباً قال تعالى : «وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ» [العنكبوت: 48]، أي من قبل نزول القرآن، ولهذا قال النبي  صلى الله عليه وسلم  لجبريل حين قال له اقرأ: «ما أنا بقارىء» وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.

وقوله تعالى: «اقرأ» أمر بالقراءة، والقراءة نطق بكلام معيَّن مكتوبٍ أو محفوظٍ على ظهر قلب، وتقدم في قوله تعالى : «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم» [النحل:98] .

والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله: «اقرأ»  أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال، أي أن يقول مَا سَيُمْلَى عليه، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته، ولا سُلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها، فهو كما يقول المُعلم للتلميذ: اكتب، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه.[27] ، فلما أمر منه قِيل: اقْرَ بِحَذف الألف، كما تقول: اسْعَ، وَالظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة، ومفعول اقرأ محذوف، أَي اقرأ ما يوحى إِليك[28]، والكلام هنا من باب الإيجاز في حذف المفعول، ويوضح الإمام عبد القاهر الجرجاني سر الإيجاز بالحذف فيقول: «هو بابٌ دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإنكَ ترى به تَرْكَ الذِكْر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن».[29]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت أيضا في هذه السورة السجع المرصع بين قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق» وقوله: «خلق الإنسان من علق»، فنجد أن كلمات الفقرة الثانية متفق معظمها مع كلمات الفقرة الأولى في الوزن، فأدى ذلك إلى تمكين المعنى في الذهن مع الإحساس بعذوبة اللفظ وسلاسته.

بالإضافة إلى السجع المطرف وهو ما اختلفت فاصلتاه في الوزن واتفقتا في الحرف الأخير،  ونجده في قوله تعالى: «الأكرم» و«القلم» و«لم يعلم» لأن الحرف الأخير فيها هو «الميم» وأوزانها مختلفة. بالإضافة إلى ألفاظ أخرى في الآية وهي: يطغى، استغنى، الرجعى، ينهى، صلّى، هدى، تقوى، تولّى، يرى، سجع مطرف لأن الحرف الأخير في الجميع «الألف المقصورة» وتختلف أوزانهما. وفي هذا الموضع يقول ابن الأثير: «فإن قيل: فإذا كان السجع أعلى درجات الكلام على ما ذهبت إليه، فكان ينبغي أن يأتي القرآن كله مسجوعا؟ وليس الأمر كذلك، بل منه المسجوع ومنه غير المسجوع. قلت في الجواب: إن أكثر القرآن مسجوع، حتى إن السورة لتأتي جميعها مسجوعة، وما منع أن يأتي القرآن كله مسجوعا إلا أنه سلك به مسلك الإيجاز والاختصار، والسجع لا يؤاتي في كل موضع من الكلام على حد الإيجاز والاختصار، فترك استعماله في جميع القرآن لهذا السبب.[30]

ومن المحسنات البديعية  اللفظية أيضا التي وردت في هذه الآية الجناس في قوله تعالى: «خلق» و«علق» وهو من الجناس الناقص، وهو أن تتفق الكلمتان فى جميع حروفهما إلا فى حرفين لا تقرب بينهما، وهذا هو قوله تعالى: « ياأَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَاسَمَاء أَقْلِعِي»[هود:44] [31]؛ لأن الاختلاف بين اللفظين «خلق وعلق» جاء من حرفي الخاء والعين وهما حرفان غير متقاربين في المخرج، وقد جاء الجناس هنا ليؤدي معناه إلى أن الجمال اللفظي واضح حيث تقاربت الكلمتين إلى جانب أن المعنى  يطلبهما ولا يغني غيرهما عنها.

ومن الأساليب البلاغية الإطناب وقد عرفه ابن الأثير:« هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة؛ فهذا حدّه الذي يميزه عن التطويل؛ إذ التطويل هو: زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة، وأما التكرير فإنه: دلالة على المعنى مردّدا، كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع؛ فإن المعنى مردّد واللفظ واحد».[32] ونلمس حضور التكرار في السورة التي بين أيدينا وأولاها ما افتتح به عز وجل السورة وهي لفظة اقرأ : «اقرأ باسم ربك الذي خلق …اقرأ وربك الأكرم…»، كما تكرر لفظ ربك في قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك…اقرأ وربك الأكرم».

وتكرار لفظة خلق في قوله: «اقرأ باسم ربك الذي خلق،  خلق الإنسان من علق»، كما تكررت لفظة إنسان وذلك في قوله تعالى: «خلق الإنسان..علم الإنسان…إن الإنسان ليطغى».

وتكرار لفظة علم في قوله: «الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم»، وأيضا تكرار لفظة كلا في قوله جل وعز: «كلا إن الإنسان ليطغى، و كلا لئن لم ينته لنسفعا، وكلا لا تطعه واسجد واقترب»،  وتكرار لفظة أرأيت في قوله تعالى: أرأيت الذي ينهى… أرأيت إن كان على الهدى… أرأيت إن كذب وتولى»، وتكرار لفظة ناصية في قوله تعالى: «لئن لم ينته لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة».

وفي هذا المقام يشير ابن الأثير إلى أن في القرآن الكريم من هذا النوع كثير؛ كقوله تعالى: «فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَة وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَة »[الحاقة: 13-14]، وقوله: « أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى»[النجم: 19-20]، وكل هذه الآيات إنما أطنب فيها بالتأكيد لمعان اقتضتها؛ فإن النفخ في الصور الذي تقوم به الأموات من القبور مهول عظيم دلّ على القدرة الباهرة، وكذلك حمل الأرض والجبال، فلما كانا بهذه الصفة قيل فيهما: نفخة واحدة ودكة واحدة أي: أن هذا الأمر المهول العظيم سهل يسير على الله تعالى يفعل ويمضي الأمر فيه بنفخة واحدة ودكة واحدة، ولا يحتاج فيه الى طول مدة ولا كلفة مشقة، فجيء بذكر الواحدة لتأكيد الإعلام بأن ذلك هين سهل على عظمه. وهذه المواضع وأمثالها ترد في القرآن الكريم ويتوهم بعض الناس أنها ترد لغير فائدة اقتضتها، وليس الأمر كذلك؛ فإن هذه الأسرار البلاغية لا يتنبه لها إلا العارفون بها، وهكذا يرد ما يرد منها في كلام العرب.[33]

ومن أسباب الإطناب التكرار لفائدة، وتختلف لاختلاف السياق، فقد يكون التكرار لتأكيد الإنذار وتأكيد الردع، ومثلوا بقوله سبحانه: « أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون »[التكاثر: 1-4] ، وقد يكون تبكيتا، كما في قوله سبحانه: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِين » [المرسلات: 15]، فقد ذكرت هذه الآية الكريمة في سورة المرسلات أكثر من مرة، ولكنها في كل مرة تذكر عقب آية من آيات الله، سواء كانت هذه الآية في أحوال الأمم، أم في أحوال النفس، أم في آثار قدرة الله في الأرض أم في أخبار الآخرة.[34]

وقد يكون للحث على شكر نعمة من النعم كما في قوله سبحانه: «فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان» [الرحمن: 13]، وقد يكون التكرار للتحسر، وهذا كثير في أشعارالعرب، كمرثية كليب، وقصيدة الخنساء في أخيها صخر، ومن هذا قول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة:

فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ أَنْتَ أَوَّلُ حُفْرَةٍ /// مِنَ الأَرْضِ خُطَّتْ لِلسَّماحَةِ مَوْضِعا

وَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيتَ جُودهُ /// وقَدْ كانَ مِنهُ البَرُّ والبَحْرُ مُتْرَعَا [35]

وقد يأتي التكرار لطول الفصل، وتجد هذا كثيرا في كلام الناس، فقد تحدث جماعة بقولك: قلت لكم والأمل يملأ نفسي لما أجده فيكم من أريحية وحب للبذل وشوق للتضحية، قلت لكم: إن الطريق شاق وعسير. فلقد كررت هذه الجملة: قلت لكم وذلك لطول الفصل بين القول والمقول.[36]

ويخلص الدكتور فضل حسن عباس أن التكرار أسلوب من أساليب العربية يؤتى به لتأكيد القول وتثبيته حينما يستلزم المقام ذلك.

وقد انفردت آية سورة العلق من بين آيات سور القرآن الكريم بصيغة الإكرام فقد جاءت صيغة الكرم بمشتقاته في القرآن الكريم وصفا لله سبحانه وتعالى أو اسما من أسمائه الحسنى، أو وصفا لعرشه وذلك في قوله تعالى: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيم»[النمل:40] ، وقوله تعالى: «فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم»[المؤمنون: 116] ، وقوله تعالى: «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام»[الرحمن: 27] ، وقوله تعالى: «تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام»[الرحمن: 78].

وقد جاءت صيغة الإكرام معرفة بـ «ال» ليفيد ذلك اختصاص الله تعالى بهذه المنزلة العليا، أما بعض العلماء فقد قيد هذه الصيغة بنقلها من المفاضلة بين كريم وأكرم فنرى الزمخشري يقول: « الْأَكْرَمُ الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، حيث قال: الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلا أمر القلم والخط، لكفى به.»[37]

وبعض العلماء قدم قدم هذه الصيغة بنقلها للتفضيل بين أكرم وكريم فنرى الإمام الرازي قد ساق في أكرمية الله سبحانه وتعالى وجوها:

أحدها: أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية، لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية، وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية. وثانيها: إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعاً إما مدحاً أو ثواباً أو يدفع ضرراً. أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم، وثالثها: أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير. ورابعها: يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشراً أو حثاً على الإخلاص، أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع على أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك، ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحداً فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكليف الشاق ثم لا أنصرك.[38]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في السورة القصر «وهو تخصيص أمر بأمر بطريق مخصوص»،[39] وذلك في قوله تعالى: «وربك الأكرم» فقد قصر صفة الكرم على الله وحده لا تتعداه فتمكن المعنى في الذهن ونفى على المخاطبين كل إنكار فتمت الفائدة بتعريف الطرفين.

ومن الأساليب البيانية التي وردت في سورة العلق الكناية وهو أن تريد المعنى وتعبر عنه بغير لفظه، كأن تريد إثبات الكرم لإنسان ما، ولكنك تعبر عنه بغير اللفظ الموضوع له، فتقول مثلا ( كثير الرماد) ولا شك أن كثرة الرماد لم توضع لمعنى الكرم، وهذا الذي اختاره الشيخ عبد القاهر رحمه الله وقريب منه التعريف الذي اشتهر فيما بعد للكناية وهو أن تطلق اللفظ وتريد لازم معناه مع قرينه لا تمنع من إرادة المعنى الحقيقي[40]، ونجد ذلك في قوله تعالى: «علم بالقلم» فقد كنى عن الكتابة وكان التعبير بها للتأكيد على فائدة الكناية، فالقلم أداة والذي به يدون العلم ويحفظ على مر الزمان وتلاحق الأجيال.

فمن وسائل اكتساب المعارف والعلوم وسيلة القلم؛ فبالقلم تدون المعارف والعلوم المكتسبة بالإدراك الحسي، أو الاستنتاج العقلي بالتأمل الفكري، أو الخبر الصادق، فتكون جاهزة للقراءة، فيستفيد القارئون ما سبق أن دون بالقلم، ويستذكر بالقراءة الذين سبقت لهم المعرفة، ولكن نسوها أو نسوا شيئا منها، إذ الكتابة المحفوظة من فساد خطوطها أو صحفها لا تتعرض للنسيان، لكن الأذهان والذاكرات الإنسانية تنسى ما سبق أن تعلمته، فهي بحاجة إلى مكتوب محفوظ لا يتعرض للنسيان. وتعليم الله بالقلم قد حصل بخلق الناس مستعدين لاكتساب وابتكار صنعة الكتابة والقراءة، وبإلهامهم أن يضعوا الرموز الخطية للحروف والكلمات والأعداد، أو بالوحي إلى بعض أنبيائه أن يكتب ويقرأ ويعلم قومه أصول الكتابة والقراءة.[41] وفي قوله «سندع الزبانية» دعاء الزبانية عند استنصاره من عشيرته كناية عن حتمية العقوبة والعذاب وعدم الفائدة في استنصاره وأنه لا ينجو منه.

كما نجد الكناية حاضرة في قوله تعالى: «أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى» حيث كنى بالعبد عن رسول الله ولم يقل ينهاك تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره، وأَ رَأَيْتَ استفهام للإنكار والتعجب، وهي بمعنى أخبرني.[42]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في السورة الطباق السلبي، والطباق هو الجمع بين الشيء ومقابله أو الشيء وضده وقد يكون الشيئان المجموع بينهما اسمين أو فعلين أو حرفين، والطباق قد يكون طباق إيجاب وقد يكون طباق سلب، ومثال طباق السلب قوله سبحانه: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »[الروم:6-7]، وقوله: « أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُون وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُون» [النجم: 59-60].[43] وفي السورة نستشعره في قوله تعالى: «علم الإنسان ما لم يعلم »، وقد جمعت الآية بين فعلين أحدهما مثبت والآخر منفي، وجاء هنا للدلالة على مظاهر إعجاز القرآن الكريم فكان بيانا لقدرة الله سبحانه وتعالى على تعليم الإنسان جميع أنواع العلوم التي لم يكن على علم بها. وقد ساق الإمام أبو هلال العسكري الكثير من الآيات القرآنية الدالة على الطباق كقوله تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ».وقوله تعالى: «لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»، أى من الكفر إلى الإيمان.وقوله عزّ وجل: «باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ».وقوله سبحانه: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ»، وهذا على غاية التساوي والموازنة.وقوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ».وقوله جلّ شأنه: «وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً».وقوله عزّ اسمه: «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ».وقوله سبحانه: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ».وقوله جل ذكره: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا».ثم أضاف فلم يقرب أحد من لفظ القرآن فى اختصاره وصفائه، ورونقه وبهائه، وطلاوته ومائه؛ وكذلك جميع ما فى القرآن من الطّباق.[44]

ومن جمال البديع في هذه الآية « عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم »[العلق: 5] الإدماج ليتم المعنى الذي قصده وهو التنبيه على مدح العلم ترغيبا في الدين والعلم. «والإدماج هو أن تعلق مدحاً بمدح أو هجواً بهجو، ومعنى بمعنى»[45]؛ كما قال المتنبي:[46]

إلى كَمْ تَرُدُّ الرّسْلَ عَمَّا أَتَوْا به /// كأنَّهُمُ فيما وَهَبْتَ مَلَامُ

أدمج رد الرسل برد الملام في الجود، فكلاهما مديح،  وقوله أيضاً:[47]

حَسَنٌ في عُيُونِ أَعْدائهِ أَقْــــــــــ /// بـــَحُ من ضَيْفهِ رأَتْهُ السَّوَامُ

أدمج الحسن في القبح وكلاهما مدح، ووصفه بالكرم لأن إبله إذا رأت ضيفه علمت أنه سينحرها.

ومن الأساليب البلاغية  التي وردت في هذه السورة المجاز العقلي في قوله تعالى « ناصية كاذبة خاطئة» فقد وصف الناصية بالكذب والخطأ، والحقيقة: صاحبها، وذلك أبلغ من أن يضاف، فيقال: ناصية كاذب خاطئ، لأنها هي المحدث عنها.

كما نلمس في السورة المجاز المرسل في قوله تعالى: «فليدع ناديه»، والمراد: أهل النادي، فالنادي لا يدعى، وإنما يدعى أهله، فأطلق المحل وأريد الحال، فالمجاز مرسل علاقته المحلية، والنادي هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم، ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله، وفي المصباح: ندا القوم ندوا، من باب: غزا؛ اجتمعوا، ومنه اشتق النادي، وهو مجلس القوم للتحدث. وفي المختار: وناداه: جالسه في النادي، وتنادوا: تجالسوا في النادي، والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذا: الندوة، والنادي، والمنتدى، فإن تفرق القوم عنه فليس بندي، ومنه سميت دار الندوة التي بناها قصي بمكة، لأنهم كانوا يندون فيها، أي يجتمعون للمشاورة. وكان أبو جهل قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما انتهره حيث نهاه عن الصلاة لقد علمت ما بها أي مكة رجل أكثر ناديا مني، لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا، ورجالا مردا.[48]

ومن الأساليب البيانية التي وردت في هذه السورة الاستعارة المكنية في قوله: «الذي خلق» فكل ما أسند إلى الله من فعل الخلق هو الاستعارة المكنية، ومثاله «ألم يعلم بأن الله يرى» فكانت الرؤية من أفعال الخلق لا يليق إسناده إلى الله لا مجازا لأن الله مخالف لخلقه فعلا وصفة وذاتا. بالإضافة إلى الاستعارة التصريحية في قوله تعالى:«خلق الإنسان من علق» حيث شبه مكان خلقه الناس بالعلق بجميع لوازمه.

ونجد في السورة أسلوب  الالتفات من الغيبة الى الخطاب في قوله تعالى: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» ، تهديدا له وتحذيرا من عاقبة الطغيان.وذلك لأن الأصل أن يقال «إنّ الى ربه الرجعى» لتقدم اسم الظاهر ولكن عدل عنه الى كاف الخطاب. «والالتفات هو نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر تطرية واستدرارا للسامع، وتجديدا لنشاطه، وصيانة لخاطره من الملال والضجر، بدوام الأسلوب الواحد على سمعه»[49]، كما قيل:[50]

لا يُصْلِحُ النَّفْسَ إنْ كانَتْ مُصَرَّفَةً /// إلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ حالٍ إلى حالِ

وفي هذا الشأن يقول حازم في منهاجه: «وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة، وكذلك أيضا يتلاعب المتكلم بضميره فتارة يجعله ياء على جهة الإخبار عن نفسه وتارة يجعله كافا أو تاء فيجعل نفسه مخاطبا وتارة يجعله هاء فيقيم نفسه مقام الغائب، فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير متكلم أو مخاطب لا يستطاب، وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض».[51]

ومن جهة أخرى تظهر آيات سورة العلق ذلك الطابع المتفرد الذي تجسده الفواصل، وهذا ما لمسناه في نهاية كل آية.

دلالة الفواصل والتناسب الإيقاعي في سورة العلق:

التفت الرافعي إلى فواصل القرآن الكريم، فأكد قيمتها في جمال النظم الموسيقي بقوله: «وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صوَر تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقاً عجيباً يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها؛ أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن».[52]

    من هنا يتبين أن لكلمات القرآن إيقاعا تمضي وفق نسقه، وهذا الإيقاع «ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي، والإدراك الموسيقي، الذي يفرق بين إيقاع موسيقى وإيقاع ولو اتحدت الفواصل والأوزان».[53]. فالفاصلة القرآنية عنصر أساسي من عناصر اللغة الإيقاعية، والقرآن الكريم يمتاز بحسن الإيقاع، فتأتي الفاصلة في ختام الآيات حاملة تمام المعنى وتمام التوافق الصوتي في آن واحد.

وقد تناسبت فواصل الآيتين في إيقاعها وزنا وجرسا، لتوحي بالمعنى العام للسورة، إذ ختمت فاصلتا الآيتين الأولى والثانية اللتين تمثلان أول وحي إلهي بحرف القاف في «خلق وعلق»، وهو صوت شديد انفجاري، فحين تلتقي الشفتان التقاء محكما فينحبس عندهما مجرى النفس المندفع من الرئتين لحظة من الزمن بعدها تنفصل الشفتان انفصالا فجائيا، يحدث النفس المنحبس صوتا انفجاريا، فهذا النوع من الأصوات الانفجارية هو ما اصطلح القدماء على تسميته بالصوت الشديد وما يسميه المحدثون انفجاريا.[54] مما يوحي بالقوة لتتناسب فواصل الآيات مع دلالتها على القدرة الإلاهية المطلقة إزاء  ضعف الإنسان وطغيانه ومصيره.

وفي قوله تعالى: « اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم»[العلق: 3-5] انتقل السياق إلى فاصلة أخرى انتهت بصوت الميم وهو من الأصوات المتوسطة أي التي ليست انفجارية ولا احتكاكية، على أنه قد يتسع الفراغ مع بعض الأصوات اتساعا يسمح بمرور الهواء دون أن يحدث أي نوع من الصفير أو الحفيف،[55] ويلاحظ هذا مع اللام والنون والراء، والميم كما في الآيات : «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم».

فكما أن أساس الإنسان العلقة، وأساس العلم القلم، فهناك علاقة بين العلقة والقلم، بين الإنسان والعلم، فبالعقل والعلم ترتقي الإنسانية إلى درجات عليا. ونجد أن لفظ الإنسان ورد في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، مما يؤكد أهمية الإنسان ومنزلته عند الله عز وجل، وفي هذا الصدد تقول عائشة بنت الشاطئ: «وإنما الإنسانية فيه ارتقاء إلى الدرجة التي تؤهله للخلافة في الأرض واحتمال تبعات التكليف وأمانة الإنسان، لأنه المختص بالعلم والبيان والعقل والتمييز.»[56]  فالإنسان خلق من ضعف، لذا تكرر في المقطع الثالث الذي يمثل حال المفرد بطغيانه وهو أبو جهل، وفي ذلك يقول عز وجل: « كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ، أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بأنَّ الله يَرَى»[العلق: 6-14] وهنا تناسبت فواصل الآيات في إيقاعها وزنا وجرسا، إذ ختمت فواصل الآيات بالألف المقصورة، والألف من حروف المد، وقد كان العرب يترنمون بحروف المد، وفي هذا المقام يشير سيبويه بقوله: «أما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو ما ينون وما لا ينون، لأنهم أرادوا مد الصوت».[57] وللألف المقصورة في الآيات التي بين أيدينا  دلالة تفضي إلى توكيد اتصاف هذه الآيات بوحدة الإيقاع، فكانت أكثر الحروف تكرارا إذ انتهت به فواصلها على التوالي كما جاءت في السورة: يطغى، استغنى، الرجعى، ينهى، صلى، الهدى، التقوى، تولى، يرى.

وفي المقطع الرابع من السورة يقول عز من قائل: « كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَة نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَة فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة»[العلق: 15-18] وقد انتهت فواصل هذه الآيات بحرف التاء في ألفاظ: [ناصية، خاطئة، الزبانية]، باستثناء ناديه فقد انتهت بهاء السكت، وهي كما قال الأنباري: «إنما تدخل الهاء في السكت لتتبين بها الحركة التي قبلها، وذلك أنا إذا قلنا: «كتابيه وحسابيه»، وجدنا الياء مفتوحة فكرهنا أن نقف عليها من غير هاء فلا تتبين الفتحة، فلما كانت إنما تدخل في السكت لتبين بها الحركة ثم زال السكت زالت. ومن أثبتها في الوصل والوقف قال: أردت أن أبين بها الفتحة التي في آخر الحرف وبنيت الوصل على الوقف».[58]. وعن وظيفة هذه الهاء ودورها ذكر الدكتور غانم قدوري: «أن دور هذه الهاء قد تجاوز مجرد المحافظة على الحركة القصيرة وتبيينها، إلى وظيفة صوتية تنغيمية في الكلمات الأخرى حين تتآلف مع ذلك الوقع الذي يتصاعد مع رؤوس الآيات على طول السورة كلها والذي يساهم في تشكيل الجو الذي ترسمه معاني كلماتها».[59]

وختمت السورة بقوله تعالى: «كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب»[العلق: 19]، واستهل هذا المقطع بلفظة «كلا» وهو  ردع لإِبطال ما تضمنه قوله: «فليدع ناديه»، أي وليس بفاعل، وهذا تأكيد للتحدّي والتعجيز، وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة على طريق المجاز المرسل، والمعنى: لا تخفه ولا تحذره فإنه لا يَضرك، وأكد قوله : «لا تطعه» بلفظة «واسجد»  اهتماماً بالصلاة وعطف عليه، «واقترب» للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلّي مقترباً من الله تعالى. والاقتراب: افتعال من القرب، عبر بصيغة الافتعال لما فيها من معنى التكلف والتطلب، أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة .[60]  وقد انتهت فاصلة هذه السورة بحرف الباء لما لهذا الحرف من تأثير قوي ناسب الجو العام للسورة وسياقها الدلالي، ولأهمية الخطاب الموجه إلى الرسول عليه السلام.

وهكذا تغير نظام الفاصلة من حرف القاف إلى حرف الميم، وتدرج إلى الألف المقصورة وخُتم بحرف الباء، كأنما السياق يقتضي إيقاعا قويا رصينا ختمت به السورة وذلك في تدرج إيقاعي متسلسل، فبعد أن بدأت السورة بفعل أمر اقرأ الذي يدل على القوة في الخطاب،  بدأ يهدأ قليلا في قوله تعالى: اقرأ وربك الأكرم…ثم بدأ المعنى ينساب تدريجيا في الآيات التي انتهت فاصلتها بالألف المقصورة، ليشتد مرة أخرى في السياق الذي توعد فيه الكافر وهدده.

ومن الخصائص التي انفرد بها القرآن وباين بها سائر الكلام أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار ولا تمل منه الإعادة، وفي هذا المقام يقول الشيخ محمد صادق الرافعي:  «ولا نرى جهة تعليله ولا نصحح منه تفسيراً إلا ما قدمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية، وتساوُق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم، بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمد والغنة ونحوها، ثم اختلاف ذلك في الآيات بسطاً وإيجازاً، وابتداء ورداً، وإفراداً وتكريراً».[61]

وختاما فالنظم القرآني نظم له روعة خاصة ورونق متميز، يبدو فيه جمال التناسب الصوتي والإيقاعي واضحا، وموسيقى هذا النظم داخلية تتخلل الآية وتنتظم جميع عناصرها من الأصوات والمقاطع والحركات والسكنات والكلمات والفواصل.[62]

ومن الجانب الجمالي لسورة العلق لا نغفل الجانب الفقهي الذي دل على معان جمة ناسب موضوع السورة من خلال آياتها  التي جمعت في طياتها مجموعة من الأحكام.

فقه الحياة أو الأحكام:

دلت الآيات على ما يأتي:

1- بيان قدرة اللَّه تعالى بالخلق، فهو الخالق، والتنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة: قطعة دم جامد رطب غير جاف. وهذه الآيات الكريمات أول شيء نزل من القرآن، وهن أول رحمة من اللَّه لعباده وأول نعمة أنعم اللَّه بها عليهم.

2- أمر اللَّه سبحانه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يقرأ القرآن باسم ربّه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.

3- أمر اللَّه تعالى أيضا بتعلم القراءة والكتابة لأنهما أداة معرفة علوم الدين والوحي، وإثبات العلوم السمعية ونقلها بين الناس، وأساس تقدم العلوم والمعارف والآداب والثقافات، ونمو الحضارة والمدنية.[63]

4- من كرم اللَّه تعالى وفضله: أن الإنسان ما لم يكن يعلمه، لينقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فقد شرّفه وكرّمه بالعلم، وبه امتاز أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم إما بالفكر والذهن، وإما باللسان، وإما بالكتابة بالبنان. وفضائل الكتابة والخط كثيرة، فحيث منّ اللَّه على الإنسان بالخط والتعليم، مدح ذاته بالأكرمية، فقال: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان بواسطة القلم، أو علّمه الكتابة بالقلم.

5- أخبر اللَّه تعالى عن طبع ذميم في الإنسان وهو أنه ذو فرح وأشر، وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى، وكثر ماله، لذا هدده اللَّه وتوعده ووعظه ليضبط طغيانه ويوقف تهوره بإخباره بأنه إلى اللَّه المصير والمرجع، وسيحاسب كل إنسان على ماله، من أين جمعه، وفيم صرفه وأنفقه.

6- أول السورة يدل على مدح العلم، وآخرها يدل على مذمة المال، وكفى بذلك مرغبا في الدين، ومنفرا عن الدنيا والمال.[64]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش :

[25] نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، تحقيق : مفيد قمحية وجماعة 7 /110، دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان – 1424 هـ – 2004م، الطبعة : الأولى.

[26] ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح عبد الرحمن البرقوقي، تحقيق د.عمر فاروق الطباع، 1/387، دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع.

[27] التحرير والتنوير، 30/435.

[28] البحر المحيط، 10/506، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر بيروت، الطبعة: 1420هـ.

[29] دلائل الإعجاز، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار،  ص: 146،  تحقيق: محمود محمد شاكر أبو فهر،  مطبعة المدني بالقاهرة – دار المدني بجدة، الطبعة: الثالثة 1413هـ – 1992م.

[30] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، ص: 1/199، المكتبة العصرية للطباعة والنشر بيروت، 1420 هـ.

[31] الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي، 3/138. المكتبة العصرية بيروت، الطبعة: الأولى، 1423 هـ.

[32] المثل السائر، 2/120.

[33] نفسه، 2/123.

[34] البلاغة فنونها، فضل حسن عباس، ص:504- 505، دار النفائس- الأردن، الطبعة الثانية عشر، 1429هـ- 2009م.

[35] شرح ديوان الحماسة، الخطيب التبريزي، كتب  حواشيه غريد الشيخ ووضع فهارسه أحمد شمس الدين  ، 1/ 594-595، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ -2000م، البلاغة فنونها، ص: 505. وفي شرح ديوان الحماسة وردت لفظة موضعا: مضجعا.

[36] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 505.

[37] تفسير الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله، 4/776،ضبطه: محمد عبد السلام شاهين،  دار الكتب العلمية ،بيروت- لبنان.

[38] تفسير الفخر الرازي، الفخر الرازي، 1/4787-4788، دار النشر / دار إحياء التراث العربى.

[39] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 372.

[40] نفسه، ص: 283.

[41] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/49.

[42] التفسير المنير، د وهبة بن مصطفى الزحيلي ، 30/322، دار الفكر المعاصر دمشق، الطبعة الثانية، 1418 هـ.

[43] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 321-323.

[44] الصناعتين الكتابة والشعر أبي هلال العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ص: 308-309، المكتبة العنصرية بيروت-1419 هـ.

 [45] البديع في نقد الشعر، ابن منقذ، تحقيق: الدكتور أحمد أحمد بدوي، الدكتور حامد عبد المجيد، ص: 58، لجمهورية العربية المتحدة – وزارة الثقافة والإرشاد القومي – الإقليم الجنوبي – الإدارة العامة للثقافة.

[46] ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح عبد الرحمن البرقوقي، تحقيق: د. عمر الطباع، 2/363.

[47] ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح عبد الرحمن البرقوقي، 2/439.

[48] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/367 -368.

[49] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، 3/197.

[50] أبو العتاهية أشعاره وأخباره، تحقيق: د. شكري فيصل ، ص: 321، ولفظة «لا» وردت في الديوان «لن»،  وانظرالبرهان في علوم القرآن، الزركشي، 3/197.

 [51] منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، ص: 348، دار الغرب الإسلامي بيروت.

[52] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، ص: 150.

[53] التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، ص: 104.

[54] الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس،ص: 24.

[55] الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، ص: 26.

[56] القرآن وقضايا الإنسان، عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، ص: 19.

[57] الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، 4/204، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثالثة، 1408 هـ – 1988م.

[58] إيضاح الوقف والابتداء، محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري ، 1/306، تحقيق: محيي الدين عبد الرحمن رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1390هـ – 1971م.

 [59] رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، د. غانم قدوري الحمد، ط1 1402هـ/1982م. ص: 277.

[60] التحرير والتنوير، 30/453.

[61] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، الرافعي، ص: 150-151.

[62] التناسب البياني في القرآن: دراسة في النظم المعنوي والصوتي، أحمد أبو زيد، ص: 297.

[63] التفسير المنير، 30/319.

[64] نفسه، 30/320-321.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق