مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

– التأليف في الفقه المالكي بالمغرب الأقصى -اتجاهاته وأنواعه

الدكتور عبد العاطي بن محمد المرضي

باحث في الفقه المالكي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الشريعة الإسلامية أتت بالنصوص الأساسية والقواعد العامة، لتشمل كافة مناحي الحياة البشرية، ويندرج تحتها كافة القضايا والأمور، حتى ولو تغيرت بتغير الأزمان والعادات والأعراف والبيئات. ولذلك ترك الشارع الحكيم، للمجتهدين من علماء هذا الدين، مهمة الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية، وإيجاد الأجوبة الفقهية، لما يجدّ من الوقائع والأحداث.

وقد قام علماء الأمة المغربية وفقهاؤها، منذ دخول الإسلام إلى هذه الربوع، بهذه المهمة العظيمة، والأمانة الجسيمة خير قيام، إحساسا منهم بالمسؤولية، ورفعا للضيق والحرج عن الأمة؛ وهذا ما يفسر وجود عدد كبير من المؤلفات المغربية في شتى المجالات الفقهية، لا زال العديد منها على رفوف المكتبات العامة والخاصة، ينتظر من أبناء هذا البلد من يقوم بخدمته: جمعا وترتيبا ودراسة وتحقيقا.

وبالنظر للملامح العامة لهذه المؤلفات، بالإضافة إلى المصادر التي تؤرخ للحركة الفقهية بهذه الربوع، نجد أن حركة التأليف في المذهب المالكي بالمغرب الأقصى، في بداية الأمر كانت مرتكزة في معظمها حول موطأ الإمام مالك، والمدونة الكبرى للإمام سحنون، باعتبارهما المصدرين الأساسين اللذيْن عرف المغرب -في بداية الأمر- من خلالهما المذهب المالكي.

والسبب في ذلك -والله أعلم- راجع إلى كون الفقه المالكي بهذه الربوع، قد بني في بدايته على فقه موطأ الإمام مالك، المدعم بما صح من الأحاديث والآثار وما عليه العمل([1]).

ثم بعد دخول المدونة لهذه الربوع على يد أبي ميمونة: دراس بن إسماعيل الفاسي سنة: 307هـ([2]). عكف الناس عليها بالاختصار والشرح وضبط الألفاظ، وتصحيح الروايات. وذلك لأن المدونة تعتبر أصل المذهب المرجّح روايتها على غيرها عند المغاربة([3]).

وهذا ما نتج عنه كم هائل من المؤلفات الفقهية التي تعنى بالمذهب المالكي، وتبين مسائله الفقهية وأصوله وضوابطه.

وقد اتسمت هذه المؤلفات بخصائص تميزها عن غيرها من حيث اتجاهاتها، ونعرض لها من خلال المبحث الأول، ومن حيث أشكالها ونعرض لذلك من خلال المبحث الثاني.

المبحث الأول: اتجاهات التأليف.

من الملاحظ لدى الباحثين في الحركة الفقهية بالمغرب الأقصى، والمهتمين بالشأن الثقافي عموما، أنه من خلال استقراء الأطوار التي مر المذهب المالكي بهذا القطر، نجد أن حركة التأليف في المذهب المالكي، تركزت في معظمها حول الموطأ والمدونة، باعتبارهما المصدرين الأساسين اللذيْن عرف المغرب في بداية الأمر من خلالهما المذهب المالكي. وقد اتسمت الكتابات الفقهية بالمغرب الأقصى بخصائص متميزة من حيث الشكل ونعرض له من خلال (المطلب الأول)، ومن حيث المضمون، ونعرض لذلك من خلال: (المطلب الثاني).

المطلب الأول: على مستوى الشكل، يمكن إجمال الاتجاه التأليفي للمغاربة في اتجاهين أساسيين:

الاتجاه الأول: يُعنَى بشرح واختصار أمهات الفقه ودواوينه. خصوصا منها الموطأ والمدونة. وقد تناول المالكية ذلك بطريقتين:

  • طريقة أهل العراق، وتعتمد على القياس والتأويل وتحقيق المسائل وتقرير الدلائل.
  • طريقة القرويين التي تعتمد على الضبط والتصحيح، وتحليل المسائل والمباحث، واختلاف التخاريج والمحامل([4]).

إلا أن المنهج البارز عند المغاربة في التعامل مع كتاب: المدونة بالخصوص، يتميز بالبحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاف المقالات([5]).

والاتجاه الثاني نحى نحو تدوين الأحكام المتعلقة بالقضاء والفتوى والنوازل والأحكام، والتوثيق وما جرى به العمل([6]).

وهذان الاتجاهان هما البارزان في التأليف بهذه الربوع، وإنما تم استقرار التأليف على هذين الاتجاهين، لأن جل الأعمال التأليفية التي عرفتها هذه الربوع، لا تعدو أن تكون شرحا للمختصرات بما ذكرته المطولات، أو تأصيلا للمسائل الفقهية التي حوتها تلك المطولات أو المختصرات، أو اختصارا لتلك المطولات، أو تدوينا لمسائل القضاء والتوثيق والنوازل والأحكام، وهذا كله لا يخرج في منهجه العام عن الاتجاهين السابقين.

ولعل السبب الذي يبرر وجود الاهتمام الكبير الذي عرفه القطر بفقه النوازل والأحكام والقضاء والتوثيق، هو تولي الكثير من أئمة الفقه المالكي بهذه الربوع لمهمتي القضاء والإفتاء، مع ارتباطهم بواقع الناس وعاداتهم وتقاليدهم، وبذلك عاشوا ما يحدث للناس من أقضية وما ينزل بساحتهم من مستجدات، تقتضي حلولا شرعية وأجوبة فقهية، فجندوا أنفسهم ابتغاء إيجاد حلول شرعية وأجوبة فقهية لهذه النوازل والقضايا، فانفتحت للعلماء بذلك أبواب واسعة للاجتهاد واستنباط الأحكام -وفق المذهب المالكي- لما يقع بين الناس من نزاعات، وما ينزل بهم من وقائع وأحداث.

وقد أفرد المالكية عموما والمغاربة على وجه الخصوص، هذا العلم بمؤلفات خاصة، تركز العناية على الجانب التطبيقي للأحكام الشرعية من حيث كونها موضوعا قضائيا، ولعل اهتمام العلماء بميدان القضاء، يعود إلى المبدأ الذي انفرد به المذهب المالكي منذ نشأته، والذي يتبنى الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وإعطاء الأسبقية له على الخبر، تقديما للعلم التطبيقي على النظري.

المطلب الثاني: من حيث المضمون. مما تجدر الإشارة إليه هنا، أن الفقهاء المالكية بهذا القطر، وإن صاروا في التأليف على المنهجين السابقين من حيث المضمون، فلم يبقوا ملتزمين -من حيث الشكل- بالاتجاهين الفقهين المرتبطين بالموطأ والمدونة، ولم يبقوا جامدين على هذا المنهج في التصنيف، وإن لم تخرج مؤلفاتهم في الغالب عن مضمونهما، حيث تطورت عملية التأليف تدريجيا -تأثرا بمناهج علماء العراق والأندلس- فظهرت مؤلفات في أسلوب ومنهج جديدين، تختلف من حيث التحرر والاعتماد على منهج الموطأ والمدونة، وبذلك نشأ اتجاهان فقهيان آخران من حيث المضمون؛ ويتجليان فيما يلي:

الاتجاه الأول: ألف في فقه الفروع بمنهج تصحيحي ونقدي لكتب المذهب ودواوينه، وأخذ ببناء الفروع على الأصول المعتمدة عند المالكية، وانطلق من منهج منضبط يسعى إلى تطبيق الأبحاث الفقهية، بغض النظر عن النتائج التي قد تكون مخالفة للاتجاه الفقهي السائد، ويبرز هذا الاتجاه جليا، في كتب القاضي أبي بكر بن العربي.

الاتجاه الثاني: تبنّى اقتحام الخلاف والفقه المقارن، واستعمال أصول المذهب وقواعده الفقهية لتبني عليها فروعها، وبيان ما يخالفها من المذاهب الأخرى، والدفاع عن المذهب باستعمال الضوابط والقواعد الأصولية والفقهية. وتعد مؤلفات القاضي عياض شاهدا على ذلك.

وقد وجه المالكية بهذه الربوع، عنايتهم بثلاثة ميادين تعتبر مجالا واسعا لتطبيق الفقه الإسلامي القضائي. وتتجلى هذه الميادين في الوثائق والشروط، وما جرى به العمل، والنوازل والأحكام.

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق