مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

صوموا شعبان فإن ذلك شهر يغفل الناس عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن طبيعة الإنسان تغلب عليه الغفلة، وتركن النفس إلى الخمول والجوارح إلى الكسل، فيأتي عليها يوم تستيقظ من ذالك السبات، بالتذكير واغتنام الأوقات، ولما طال الصيام من رمضان إلى رمضان لمن لم يعتد الصيام إلا فيه، وجب تذكيره قبل أوان شهر الصيام، والاستعداد له في شهر شعبان، الذي يأتي بين رجب ورمضان.

ذاك الشهر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه كاملا ويوصله برمضان، فأثار ذلك الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنه، فقال: «قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم».

هذا الحديث أخرجه بألفاظ متقاربة جمع من أئمة الحديث: أحمد في: مسنده[1]، والنسائي في سننه الصغرى والكبرى[2]؛ في كتاب:  الصيام: صوم النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وذكر اختلاف الناقلين في ذلك، والبزار في مسنده[3]، وابن أبي شيبة في مصنفه[4]؛ في كتاب: الصيام: ما قالوا في صيام شعبان، والبيهقي في شعبه[5].

هذا الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان، هذا الشهر يغفل الناس عنه، تقويا بالفطر لرمضان، وكل وقت يغفل الناس عنه يكون فاضلا، لقلة القائمين بالخدمة، مثل ذلك كمثل الصلاة بين العشاءين، ونصف الليل وأشباه ذلك من العبادات[6]، وكما يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان؛ لأن ظاهر ذلك أن المراد: أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجبا بصومه[7]؛ لأنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما فصار مغفولا عنه[8].

وتجدر الإشارة هنا إلى أن صيامه صلى الله عليه وسلم لشعبان لا ينبغي أن يتأسى به فيه، إلا من أطاق ما كان يطيق، وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة، خشي عليه أن يمل فيفضي إلى تركه، والمداومة على العبادة وإن قلت، أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت، فالقليل الدائم أفضل من الكثير المنقطع غالبا[9].

والدوام العمل وإن قل، أحب إلى الله تعالى من العمل المنقطع، وإن كثر، ولهذا فقد بين وجه صيام النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهو: رفع الأعمال فيه[10]، وأن المراد برفعها في حديث أسامة المتقدم؛ الرفع الخاص لا الرفع العام، الذي يكون صباحاً و مساءً، أو المراد: الرفع الإجمالي لا التفصيلي[11]، لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة، وأعمال العام مجملة، وهذا الرفع فيه إيماء إلى أن شعبان آخر السنة، وأن أولها: رمضان عند الله باعتبار الآخرة[12].

ولهذا فينبغي أن تكون الأعمال فيه صالحة، ولاسيما أفضل الأعمال، وهو: الصوم، فلذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع عمله وهو صائم[13].

صفوة القول: إن شهر شعبان هو فرصة لمران النفس، ومعاودة الجوارح على الطاعات استعدادا لشهر رمضان، الذي يفترض على المسلم أن يقوم بسائر الطاعات، وألا يتهاون بالواجبات ويسارع إلى الخيرات، ويبادر إلى النوافل والرواتب، ابتغاء العتق من النيران، ودخول الجنان.

**********************

هوامش المقال:

[1]) المسند 36/ 85، رقم الحديث: 21753.

[2]) السنن الصغرى 4/ 201، رقم الحديث: 2357، السنن الكبرى 3/ 176، رقم الحديث: 2678.

[3]) المسند 7 /69، رقم الحديث: 2617.

[4]) المصنف 4 /166، رقم الحديث: 9853.

[5]) شعب الإيمان 5 /352-353، رقم الحديث: 3540.

[6]) كشف المشكل من حديث الصحيحين 4 /353.

[7]) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 4/ 333.

[8]) شرح موطأ الإمام مالك للزرقاني 2/ 289.

[9]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 4/ 188.

[10]) شرح موطأ الإمام مالك للزرقاني 2/ 289.

[11]) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 7/ 36.

[12]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/ 1422.

[13]) ذخيرة العقبى في شرح المجتبى 21 /268.

************

جريدة المراجع

البحر الزخار (المسند) ج7 لأحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة- السعودية، الطبعة الأولى: 1415 /1995.

الجامع لشعب الإيمان لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1423 /2003.

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (ج21) لمحمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي، دار آل بروم، مكة- السعودية، الطبعة الأولى: 1424 /2003.

السنن الكبرى لأحمد بن شعيب بن علي النسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، إشراف: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421 /2001.

السنن لأحمد بن شعيب بن علي النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، وحاشية الإمام السندي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت- لبنان، الطبعة الرابعة: 1414/ 1994، مصورة عن مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب- سوريا.

شرح موطأ الإمام مالك لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1424 /2003.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، الطبعة الأولى: 1300.

كشف المشكل من حديث الصحيحين لجمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1418 /1997.

مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعبيد الله بن محمد عبد السلام المباركفوري، منشورات إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء، الجامعة السلفية، بنارس- الهند، الطبعة الثالثة: 1404 /1984.

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي بن محمد القاري الهروي، اعتناء: صدقي محمد جميل العطار، دار الفكر، بيروت- لبنان، 1414/ 1994.

المسند لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: جماعة من الباحثين، إشراف: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421 /2001.

المصنف لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي، تحقيق: حمد بن عبد الله الجمعة، محمد بن إبراهيم اللحيان، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الثانية: 1427/ 2006.

نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، منشورات الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، مصورة عن الطباعة المنيرية، مصر، 1334.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق