مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

خمس وقفات تربوية مع شهر شعبان

بسم الله الرحمن الرحيم:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً

أما بعد:   

        فإن من حكمة الله تعالى أن جعل لنا في هذه الحياة الدنيا مواسم تمر علينا مرة واحدة كل عام، نتزود فيها بالإيمان والتقوى، ونمحوا فيها ما علق بقلوبنا من آثار الذنوب والمعاصي والآثام،  ومن أهم هذه المواسم: “شهر شعبان”؛ الذي يأتي بعد شهر رجب، وقبل شهر رمضان؛ وهو من أعظم الشهور وأحبها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستحب استغلاله بكثرة الطاعات والعبادات، وفعل الخيرات، وفي هذا المقال أقف وإياكم على خمس وقفات تربوية مع هذا الشهر الكريم، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق والسداد:

خمس وقفات تربوية مع شهر شعبان:

1- الوقفة الأولى: شكر الله على بلوغ شهر شعبان:

إن من نعم الله تعالى على عبده أن مدَّ له في عمره، وجعله يدرك شهر السقي وهو شهر شعبان، فكم من إنسان غيبه الموت ولم يدركه، فإن طول العمر والبقاء على قيد الحياة فرصة كبيرة  للتزود من الطاعات والخيرات. فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه ، عن أبيه: ” أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم : “من طال عمره وحسن عمله” قال: فأي الناس شر ؟ قال صلى الله عليه وسلم :” من طال عمره، وساء عمله “([1]).

2– الوقفة الثانية: فضيلة الصيام فيه :

كان شهر شعبان من أحب الشهور إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه: شعبان، ثم يصله برمضان”([2])، وكان يكثر من الصيام فيه، لما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان”([3])، قال ابن حجر رحمه الله: “وفي الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان”([4])، وقال الصنعاني رحمه الله: “وفيه دليل على أنه يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره”([5]).

وهذا ما يؤكده الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ” كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا “([6])، وفي رواية قالت: ” ما علمته – أي: النبي – صلى الله عليه وسلم – صام شهرا كله إلا رمضان “([7]) ، وفي رواية أخرى  قالت: ” ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان “([8]). قال ابن حجر – رحمه الله -: “كان صيامه في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه، وكان يصوم معظم شعبان”([9]).

قال ابن رجب في لطائف المعارف: “ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن، ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة  الرحمن”. ([10]).

الوقفة الثالثة: الحياء من الله تعالى:

فشهر شعبان فرصة لتربية النفس على الحياء ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها  ([11])، ومن يتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: “فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”([12]) تتجلى فيه قمة الحياء من الله تعالى.

فعلى المرء أن يستحيي من الله تعالى، ويكثر من الطاعات ومن أعمال الخير ، ويدرب نفسه عليها، ويندم على التقصير وعلى الوقت الذي ضيعه، ويستحضر مراقبة الله تعالى له في السر والعلن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” استحيوا مِن الله عز وجل حقَّ الحياء، قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا نستحيي، والحمد للَّه. قال: ليس ذلك، ولكن من استحى من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما حوى، وليحفظ البطن وما وعى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله عز وجل حق الحياء “([13]) .

الوقفة الرابعة:  التنبيه على غفلة الناس:

مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم”ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان “([14])” لوقوعه بين شهرين عظيمين: “شهر رجب”، و“شهر  رمضان”، وقد انقسم الناس إلى صنفين؛ صنف  انصرف إلى شهر رجب بالعبادة والتعظيم حتى أحدثوا فيه من العوائد ما جعلهم يعظمونه أكثر من غيره من الشهور، وصنف فرَّط ولا يعرف العبادة إلا في شهر رمضان، فأصبح شهر شعبان مغفولا عنه، فهذا الحديث فيه دلالة على: “استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفل” ([15]).

الوقفة الخامسة: خاتمة الأعمال السنوية:

فشهر شعبان يعد موسما ختاميا لصحيفة المرء وحصاد أعماله في العام، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “وهو شهر يرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم “([16]).

والحكمة من رفع الأعمال السنوية إلى الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر؛  تنبيه للناس إلى أهمية هذا الشهر ودعوتهم  في إحيائه بالطاعة والعبادة حتى ترفع أعمالهم وهم على حال الطاعة، جبرا لما نقص منها، أو تكون سببًا لغفران الله لهم، ليبدؤوا صفحة جديدة مع الله تعالى في شهر رمضان.

    من خلال ما تقدم في المقال أخلص إلى الآتي:

1-شكر العبد لله تعالى على إدراكه شهر شعبان، وهذه من نعم الله تعالى عليه.

2-فضل الصيام في شهر شعبان.

3-شهر شعبان فرصة لتربية النفس على الحياء من الله تعالى.

4-شهر شعبان فرصة لإصلاح النفس وما علق بها من الذنوب والآثام حتى تختم صحيفة العام بالطاعة جبرا لما نقص منها، وفي هذا يقول العلامة الحسن البصري رضي الله عنه: “نفوسكم مطاياكم إلى ربكم، فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم”([17])..

*************************

هوامش المقال:

([1])أخرجه أحمد في مسنده (34 /93)، برقم: (20443).

([2]) أخرجه أبو داود (4/ 97) كتاب: الصوم، باب: في صوم شعبان، برقم: (2431)، والنسائي (2/ 172) كتاب: الصيام، باب: صيام شعبان، برقم: (2910).

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 50) كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان، برقم: (1969)، ومسلم في صحيحه (1/513)، كتاب:الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، برقم: (175) (1156).

([4]) فتح الباري (4/ 215).

([5]) سبل السلام (2/ 168).

([6]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 513)، كتاب:الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، برقم: (175) (1156)

([7])أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 513)، كتاب:الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، برقم:  (173)(1156).

([8]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /513)، كتاب:الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، برقم:  (174)(1156).

([9]) فتح الباري (4/ 214).

([10]) لطائف المعارف (ص: 258).

([11]) كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري أخرجه  البخاري في صحيحه (2 /518)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم.برقم: (3562).

([12]) أخرجه أحمد في مسنده (36/ 85-86) برقم: (21753).

([13]) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 187)، برقم: (3671).

([14]) أخرجه أحمد في مسنده (36/ 85-86)، برقم: (21753).

([15]) لطائف المعارف (ص: 251).

([16]) تقدم تخريجه.

([17]) لطائف المعارف (ص: 240-241).

*****************

لائحة المراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ.

سبل السلام. الصنعاني. مكتبة مصطفى البابي الحلبي. ط4/ 1379-1960.

سنن أبي داود. سليمان بن الأشعث الأزدي. تحقيق: شعيب الأرنؤوط- محمد كامل قروبللي. دار الرسالة العالمية دمشق. 1430-2009.

سنن النسائي الكبرى. أحمد بن شعيب النسائي. تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري , سيد كسروي حسن. دار الكتب العلمية بيروت. ط1/ 1411-1991.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

فتح الباري شرح صحيح البخاري. ابن حجر. دار المعرفة بيروت 1379.

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. ابن رجب الحنبلي: زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد ابن رجب الحنبلي. تحقيق: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير بيروت. ط5/ 1420-1999.

مسند أحمد. لأحمد بن حنبل . تحقيق: مجموعة من الباحثين..مؤسسة الرسالة بيروت لبنان. (ج 6) (د.ت)،(ج34) ط1/ 1420هـ- 1999مـ ،(ج36) ط1/ 1421هـ- 2001مـ.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو. 

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق