مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

شرح حديث عائشة رضي الله عنها: “فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها، وقلدها” وما يستفاد من فقهه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، وجعل تعظيم شعائره غاية وقصدا، والصلاة والسلام على أفضل من عظم شعائر ربه، فساق إليها أحسن هديه، وقلدها وأشعرها لبلوغ قصده وحجه.

وبعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل سوق الهدي، وإشعاره، وتقليده إلى بيته المعظم في شهر ذي الحجة من تعظيم شعائره، قال تعالى: (يا آيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) ([1])  .

وقال تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) ([2])  .

وقال تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) ([3])  .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسوق هديه، ويشعره ويقلده إلى بيت الله الحرام تعظيما لشعائر الله تعالى، ففي الحديث الصحيح الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: " فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها، وقلدها –أو قلدتها- ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حل"([4])  .   

ولأهمية هذا الحديث خصصته بهذا المقال الذي سأتناول فيه: تخريج الحديث، ثم شرح معانيه وما يستفاد منه من فقه فأقول وبالله التوفيق:

أولا: تخريج الحديث:

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب: الحج، باب: إشعار البدن([5]) ، وفي كتاب: الحج، باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم([6])، وفي كتاب: الحج ، باب: القلائد من العهن([7])، ومسلم في صحيحه، في كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرام([8])، والترمذي في سننه في كتاب: أبواب الحج، باب: ما جاء في تقليد الهدي للمقيم([9])، وأبو داود في سننه، في كتاب:  المناسك، باب: من بعث بهديه وأقام([10])، والنسائي في سننه في كتاب: المناسك، باب: فتل القلائد([11])، وابن ماجه في سننه في كتاب: المناسك، باب: إشعار البدن([12]).

كلهم من طرق إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن عائشة رضي الله عنها واللفظ للبخاري.

ثانيا: شرح معاني الحديث وما يستفاد من فقهه:

قولها: (فتلت):

قال ابن الجزري (606هـ) في النهاية في غريب الحديث: "الفتلة: واحد الفتل، وهو ما كان مفتولا من ورق الشجر، كورق الطرفاء، والأثل ونحوها، وقيل: الفتلة: حمل السمر والعرفط، وقيل: نور العضاه إذا انعقد وقد أفتلت إفتالا: إذا أخرجت الفتلة "([13]).

قال الباجي (474هـ) في المنتقى: "قال مالك وأحب إلي أن يفتل فتلا والأصل في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: "فتلت قلائق رسول الله صلى الله  بيدي" ومن جهة المعنى أن ذلك أبقى لها على طول السفر والمدة مع تصرف الهدايا في الرعي وغيره""([14]).

قولها:  (قلائد هدي):

قال المباركفوري (1353هـ) في تحفة الأحوذي: "قلائد: جمع قلادة وهي ما تعلق بالعنق"([15]).

قال القرطبي (671هـ) في أحكام القرآن: " الهدي: ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة، أو شاة، الواحدة: هَديَةٌ، وهَدِيَّةٌ، وهدي"([16]) .

قولها: (ثم أشعرها وقلدها):

قال القرطبي (671هـ) في أحكام القرآن: والإشعار: الإعلام من طريق الإحساس، يقال: أشعر هديه، أي: جعل له علامة ليعرف أنه هدي"([17]).

وقال الباجي (474هـ) في المنتقى: "وتقلد الإبل كانت لها أسنمة، أو لم تكن  قاله: مالك، وكذلك البقر، ووجه ذلك أن التقليد شعار الهدي فلا يجوز تركه إلا لضرورة، وأما الغنم فقال مالك: لا تقلد وقال ابن حبيب: تقلد وبه قال الشافعي"([18]).

وقال ابن بطال (449هـ) في شرح صحيح البخاري: "جمهور العلماء يرون إشعار البدن ؛ لأنه سنة ثابتة ، وممن رأى ذلك عمر بن الخطاب ، وابن عمر ، والحسن البصرى ، والقاسم ، وسالم ، وعطاء ، وبه قال مالك ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعى ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . وأنكر الإشعار أبو حنيفة وقال : إنما كان ذلك قبل النهي عن المثلة ، وهذا تحكم لا دليل عليه وسوء ظن ، ولا تترك السنن بالظنون"([19]).

قال ابن حجر  (852هـ)في الفتح: "وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار وانتصر له الطحاوي في المعاني فقال: "لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسر اية الجرح لا سيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سد الباب عن العامة؛ لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من كان عارفا بالسنة في ذلك فلا"([20]).

وقال ابن بطال القرطبي (449هـ) في شرح صحيح البخاري: " واستحب أبو يوسف ، ومحمد ، والشافعى ، وأحمد ، وإسحاق الإشعار فى الشق الأيمن... واختلفوا فى إشعار البقر ، فكان ابن عمر يقول : نشعر البقر فى أسنمتها ، وقال عطاء والشعبى : يقلد ويشعر . وهو قول أبي ثور وقال مالك :  تشعر التي لها سنام وتقلد ، ولا تشعر التى لا سنام لها وتقلد . وقال سعيد ابن جبير : تقلد ولا تشعر "([21]).

وقال العظيم آبادي (1329هـ) في عون المعبود: "الإشعار هو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا، ويكون ذلك في صفحة سنامها الأيمن،   وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهور من السلف والخلف، وروى الطحاوي عن أبي حنيفة كراهته، والأحاديث ترد عليه"([22]).

وقال المبارك فوري (1353هـ) في تحفة الأحوذي: "وتقليدها أن يجعل في رقابها شيء كالقلادة من لحاء الشجرة، أو الصوف، ونحو ذلك؛ ليعلم أنها هدي "([23]).

قال ابن حجر (852هـ ) في الفتح: "فيه مشروعية الإشعار وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا"([24]).

وقال العيني (855هـ ) في عمدة القاري: "وفيه من الأحكام: تقليد الهدي وإشعارها، ومنه مباشرة التقليد، والإشعار بيده، وهو أفضل من الاستنابة كذبح الأضحية، واختلف مالك وابن شهاب في المرأة، فقال ابن شهاب: تلي ذلك بنفسها، وأنكره مالك، وقال: لا تفعل ذلك إلا أن لا تجد من يلي ذلك؛ لأنه لا يفعله إلا من ينحره"([25]).

قولها: (أو قلدتها):

قال العيني (855هـ) في عمدة القاري: "(أو قلدتها) شك من الراوي، وفيه جواز الإستنابة في التقليد"([26])

قولها: (ثم بعث بها إلى البيت):

قال العظيم آبادي (1329هـ) في عون المعبود: "ثم بعث بها مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة"([27])

قولها: (وأقام بالمدينة):

قال العيني (855هـ) في عمدة القاري: "وأقام بالمدينة يعني حلالا فما حرم عليه شيء من محظورات الإحرام"([28])

قولها: (فما حرم عليه شيء كان حلا):

قال العظيم آبادي (1329هـ) في عون المعبود: "أراد محظورات الإحرام معناه: أنه صلى الله عليه و سلم كان يبعث بالهدي ولا يحرم فلهذا لا يجتنب عن محظورات الإحرام" ([29])

قال النووي (676هـ) في شرح صحيح مسلم: "فيه دليل على استحباب بعث الهدي إلى الحرم وأن من لم يذهب إليه يستحب له بعثه مع غيره،واستحباب تقليده وإشعاره... وفيه استحباب فتل القلائد، وفيه أن من يبعث هديه لا يصير محرما ولا يحرم عليه شيء ما يحرم على المحرم"([30])

قولها: (كان له حل):

قال العيني (855هـ) في عمدة القاري: "كان له حل، أي: حلال، وهذه الجملة في محل الرفع؛ لأنها صفة لقوله شيء، وهو مرفوع بقول (فما حزم) بضم الراء"([31])

الخلاصة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في شهر ذي الحجة يعظم شعائر الحج فيسوق هديه، ويقلده، ويشعره وهو من تعظيم شعائر المولى عز وجل.

2-حديث فتل أمنا عائشة رضي الله عنها قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم صحيح متفق عليه.

3-الفتل يقصد به ما كان مفتولا باليد من : أوراق الشجر، أو الصوف ونحوه لتعلم بها الإبل والبقر ، والغنم أنها هدي فلا يتعرض لها.

4-يقصد بالقلائد: ما تقلد به أعناق الهدي لتميز عن غيرها فلا تمس.

5-يقصد بالهدي: ما يهدى لبيت الله الحرام من: الإبل، والبقر، والغنم.

6-يقصد بالإشعار: كشط جلد البدنة حتى يسيل دمها، ثم يسلت، علامة على كونها هدي، ويكون الإشعار في صفحتها اليمنى.

7-جمهور العلماء يرون جواز إشعار البدن، وأنه سنة ثابتة، وخالف في ذلك أبو حنيفة لما فيه من المثلة.

8-وجه الطحاوي قول أبي حنيفة بأنه منعه سدا على العامة باب مجاوزة الحد في الطعن بالشفرة حال إشعار الهدي.

9-اختلف الفقهاء في إشعار البقر.

10-مباشرة الإشعار والتقليد باليد أفضل من الاستنابة فيه، وقاسه العلماء على مباشرة ذبح الأضحية في العيد.

11-اختلف الفقهاء في إشعار المرأة للهدي حين ذهب ابن شهاب إلى جواز ذلك، وقال مالك: لا تفعل ذلك إلا أن لا تجد من يقوم لها بذلك.

12-من بعث هديه لا يصير محرما، ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم.

والحمد لله رب العالمين.

*****************************

هوامش المقال:

([1]) المائدة: 2

([2]) المائدة 97.

([3]) البقرة 196.

([4]) سيأتي تخريجه.

([5]) صحيح البخاري (ص: 410)برقم: (1699).

([6]) صحيح البخاري (ص: 410)، برقم: (1696).

([7])صحيح البخاري (ص: 411) برقم: (1705).

([8]) صحيح مسلم (ص: 597) برقم: (1321).

([9]) سنن الترمذي (ص: 219) برقم: (908)..

([10]) سنن أبي داود (ص: 304) برقم: (1757).

([11]) سنن النسائي (ص: 432) برقم: (2776).

([12]) سنن ابن ماجه (ص: 526) برقم: (3098).

([13]) النهاية في غريب الحديث والأثر (3 /410) مادة (فتل).

([14]) المنتقى شرح الموطأ (3 /548).

([15]) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (3/ 652).

([16]) أحكام القرآن (7/ 257).

([17]) أحكام القرآن (7 /254).

([18]) المنتقى شرح الموطأ  (3 /548).

([19]) شرح صحيح البخاري (4 /382).

([20]) فتح الباري (3 /544).

([21]) شرح صحيح البخاري (4 /383).

([22]) عون المعبود شرح سنن أبي داود (3 /142).

([23]) تحفة الأحوذي (3/ 652).

([24]) فتح الباري (3 /544).

([25]) عمدة القاري (10/ 38).

([26]) عمدة القاري (10 /39).

([27]) عون المعبود (3 /144).

([28]) عمدة القاري (10 /39-40).

([29]) عون المعبود (3/ 144).

([30]) شرح صحيح مسلم (5 /82).

([31]) عمدة القاري (10/ 40).

*******************************

لائحة المصادر والمراجع:

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي. لأبي العلى محمد بن عبد الرحمن المباركفوري. تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف. دار الفكر (د.ت).

الجامع لأحكام القرآن. لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي. تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي. ومحمد رضوان عرقسوسي. مؤسسة الرسالة بيروت لبنان. ط1/ 1427هـ- 2006مـ

سنن ابن ماجه.  لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، حكم على أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1 (د.ت).

سنن أبي داود؛ لأبي داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف الرياض، ط1 (د.ت) .

سنن الترمذي. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، (د.ت).

سنن النسائي؛ لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف الرياض، ط1(د.ت).

شرح صحيح البخاري. لأبي الحسن علي بن خلف ابن بطال القرطبي. تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم. مكتبة الرشد. الرياض. ط2/1423هـ- 2003مـ.

شرح صحيح مسلم. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي. تحقيق: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر- دار الحديث القاهرة. ط4/ 1422هـ- 2001مـ.

صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير. دمشق. ط1/ 1423هـ- 2002مـ

صحيح مسلم. لمسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق: نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1/ 1427هـ- 2006مـ.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري. لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني. دار الفكر (د.ت)

عون المعبود شرح سنن أبي داود؛ لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي الهندي، حكم على أحاديثه، محمد ناصر الدين الألباني، قرأه واعتنى به وعلق عليه وخرج أحاديثه: أبو عبيدة  مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، ط1/ 1430هـ - 2009مـ.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر. تحقيق: ابن باز مع جماعة من العلماء. دار المعرفة. بيروت لبنان. (د.ت).

المنتقى شرح موطأ مالك. لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي. تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. ط1/ 1420هـ- 1999مـ.

النهاية في غريب الحديث والأثر، لأبي السعادات مجد الدين المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة الإسلامية، (د.ت).

*راجع المقال الباحث: يوسف ازهار

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق