مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

شرح حديث: “شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة” وما يستفاد منه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين، حمد من يطمع في توفيق ربه للتفقه في دينه، وفي هديه لتدبر كتابه، وخدمة تنزيله، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، صلاة من رام إخلاص الاتعاض بقوله: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" ([1]).

  أما بعد؛ فإن شهر رمضان وشهر ذي الحجة من شهور الله تعالى المباركة الطيبة، تضاعف فيها أجور العباد وتزداد ، ويدخر ثوابها ليوم الحشر والتناد، فقد حوى هذين الشهرين المباركين لب العبادات، وأس الطاعات والقربات من صلاة، وصيام، وقيام، وقراءة للقرآن، وذكر، ودعاء، وحج، وطواف، وسعي، وهدي، وإحرام... الخ، فأجورهما في ازدياد؛ لأنهما أفضل شهور العام، وواسطة عقد الشهور والأيام، خصهما الله  تعالى بالذكر لفضلهما على سائر الشهور، واختصاصهما بالعيدين على مر الدهور، وتعلق أحكام الصوم والحج بهما وسائر أعمال البرور.

وقد ورد فيهما حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة" ([2])

ولأهمية هذا الحديث خصصته بهذا المقال الذي سأتناول فيه:

أولا-تخريج الحديث من مظانه.

ثانيا-شرح الحديث من خلال شروح الحديث.

ثالثا-فقه الحديث وما يستفاد منه.

أولا-تخريج الحديث

أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب: الصوم، باب: شهر عيد لا ينقصان([3])، ومسلم في صحيحه ، في كتاب: الصيام، باب: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "شهرا عيد لا ينقصان"([4])، وأبو داود في سننه، في كتاب: الصيام، باب: الشهر يكون تسعا وعشرين([5])، وابن ماجه في سننه، في كتاب: الصيام باب: ما جاء في شهري العيد([6])، والترمذي في سننه، في كتاب: الصوم، باب: ما جاء شهرا عيد لا ينقصان([7])، وأحمد في المسند. ([8]) كلهم من طرق عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه به. واللفظ لمسلم.

ثانيا-شرح الحديث:

قوله: (شهرا عيد):

قال ابن الملقن (804هـ) في التوضيح: "وسمي شهر رمضان شهر عيد؛ وإنما  العيد في شوال؛ لأنه قد يرى هلال شوال بعد الزوال من آخر يوم من رمضان، أو أنه لما قرب العيد من الصوم، أضافته العرب إليه بما قرب منه، ذكرهما الأثرم"([9])

وقال ابن حجر (852هـ) في الفتح: "فسمي رمضان عيدا لأنه يعقبه العيد "([10])، وقال أيضا في الفتح أطلق على رمضان أنه شهر عيد لقربه من العيد أو لكون هلال العيد ربما رؤى في اليوم الأخير من رمضان"([11]).

وقال العيني (855هـ) في نخب الأفكار: (شهر عيد): كلام إضافي مبتدأ، وخبره: "لا ينقصان"([12])، وقال أيضا: "يعني هما شهرا عيد، ويجوز أن يكون ارتفاعه على البدلية"([13]).

وقوله: "رمضان وذو الحجة".

قال العيني (855هـ) في عمدة القاري: " (رمضان): رمضان مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحدهما رمضان، ومنع الصرف للتعريف، والألف والنون وقد مر الكلام فيه مستوفى قوله: وذو الحجة كذلك خبر مبتدأ محذوف، أي: والآخر ذو الحجة"([14]). .

وقال أيضا (855هـ) في نخب الأفكار: "ورمضان في الأصل مصدر "رمض": إذا احترق من الرمضاء، وهو شدة الحر، وسمي هذا الشهر الذي بين شعبان وشوال بهذا الاسم لارتماضهم فيه من حر الجوع، ومقاساة شدته، وقيل: لما نقلوا أسماء المشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، موافق هذا الشهر أيام رمض الحر  وكان اسم شهر رمضان في اللغة القديمة "ناتقا"، سموه به؛ لأنه كان ينتقهم، أي: يزعجهم أحجارا بشدته عليهم قال ابن الأعرابي:  رمضان هو : ناتق، والجمع: فواتق"([15]).

قوله: "شهرا عيد لا ينقصان".

قال الخطابي (388هـ) في معالم السنن: " قلت: إنما كان سبب هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس إنما يكثر كلامهم واختلافهم من السنة في هذين الشهرين، وهما عيد فطرهم عند رمضان، وحجهم في ذي الحجة، فأعلمهم -صلى الله عليه وسلم- أن هذين الشهرين وإن نقص أعدادهما في مبلغ الحساب فحكمهما على التمام والكمال في حكم العبادة؛ لئلا تحرج أمته، ولا يقدح في صدورهم شك إذا صاموا تسعة وعشرين يومًا، وكذلك إن وقع الخطأ في يوم الحج لم يكن عليهم فيه حرج، ولم يقع في نسكهم منه نقص، وقد قيل: معناه- على أنه لا يكاد يتفق نقصانهما في سنة واحدة، فإن كان أحدهما ناقصًا كان الآخر تام العدد، قال الأثرم: وكان أحمد يذهب إلى هذا، قلت: وفي هذا نظر، والأول هو وجه الحديث، والله أعلم"([16]).

وقال ابن بطال (449هـ) في شرح صحيح البخاري: "اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث على وجهين ، فذكر أحمد بن عمرو البزار أن معناه : لا ينقصان جميعا فى سنة واحدة. والوجه الثانى قال المهلب : معناه : أنه لا ينقص عند الله ، تعالى أجر العاملين فيهما ، وإن كانا ناقصيبن فى العدد . قال الطحاوي : وقد دفع قوم التأويل الأول بالعيان ، قالوا : لأنا قد وجدناهما ينقصان فى أعوام ، ويجتمع ذلك فى كل واحد منهما ، فدفعوا ذلك بهذا" ([17]).

وقال عياض (544هـ) في إكمال المعلم: "قوله: "شهرا عيد لا ينقصان" قال الإمام: قيل معناه: لا ينقصان من الأجر وإن نقص العدد، وقيل معناه : في عام بعينه، وقيل: لا يجتمعان ناقصين في سنة واحدة في غالب الأمر، قال القاضي: لأن في أحدهما الصيام، وفي الآخر الحج، وأحكام ذلك كله كاملة غير ناقصة. قال الخطابي: وقيل : لا ينقص أجر ذي الحجة عن أجر رمضان لفضل العمل في العشر"([18]).

قال النووي: (676هـ) في شرح مسلم: " ( شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة ) الأصح أن معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما، وقيل معناه: لا ينقصان جميعا في سنة واحدة غالبا، وقيل: لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان؛ لأن فيه المناسك حكاه الخطابي وهو ضعيف، والأول هو الصواب المعتمد" ([19])

وأورد ابن القيم (751هـ) مجمل أقوال العلماء في هذا الحديث في تهذيبه لسنن أبي داود حيث ذكر ستة أقوال في معناه:

أحدها : لا يجتمع نقصهما معا في سنة واحدة , وهذا منصوص الإمام أحمد .

والثاني : أن هذا خرج على الغالب , والغالب أنهما لا يجتمعان في النقص , وإن وقع نادرا.

والثالث : أن المراد بهذا تلك السنة وحدها , ذكره جماعة .

الرابع : أنهما لا ينقصان في الأجر والثواب , وإن كان رمضان تسعا وعشرين فهو كامل في الأجر .

الخامس : أن المراد بهذا تفضيل العمل في عشر ذي الحجة , وأنه لا ينقص أجره وثوابه عن ثواب شهر رمضان .

السادس : أن الناس كان يكثر اختلافهم في هذين الشهرين؛ لأجل صومهم وحجهم فأعلمهم أن الشهرين وإن نقصت أعدادهما فحكم عبادتها على التمام والكمال ، ولما كان هذان الشهران هما أفضل شهور العام , وكان العمل فيهما أحب إلى الله من سائر الشهور رغب النبي صلى الله عليه وسلم في العمل , وأخبر أنه لا ينقص ثوابه وإن نقص الشهران والله أعلم" ([20]).

ثالثا: فقه الحديث وما يستفاد منه وحكمه:

ومما يستفاد من فقه هذا الحديث:

1-قال ابن حجر (852هـ) في الفتح: "أن الثواب ليس مرتبا على وجود المشقة دائما؛ بل لله أن يتفضل بإلحاق الناقص بالتام في الثواب، واستدل به بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بنية واحدة، قال: لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدة فاكتفى له بالنية"([21]).

2-ومما يستفاد أيضا من الحديث قول العيني (855هـ) في عمدة القاري:" ومما يستفاد من هذا الحديث أنه يقتضي التسوية في الثواب بين الشهر الكمل، وبين الشهر الناقص فافهم" ([22]).

3-قال العيني(855هـ)  في عمدة القاري: "الحكمة من تخصيص الشهرين بالذكر هو لتعلق حكم الصيام والحج بها"([23]).

4-وقال ابن حجر (852هـ) في فتح الباري: "قال الطيبي ظاهر سياق الحديث بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في غيرهما من الشهور، وليس المراد أن ثواب الطاعة في غيرهما ينقص؛ وإنما المراد: رفع الحرج عما عسى أن يقع فيه خطا في الحكم لاختصاصهما بالعيدين، وجواز احتمال وقوع الخطأ فيهما"([24]).

وقال العيني (852هـ) في نخب الأفكار " أن هذين الشهرين وإن نقصت أعدادها فحكمهما على التمام والكمال في حكم العبادة؛ لئلا يقع في القلوب شك إذا صاموا تسعا وعشرين يوما، أو وقع في وقوفهم خطأ في الحج فبين أن الحكم كامل، وأن الثواب تام وإن نقص العدد"([25]) .

الخاتمة:

خلصت في نهاية شرح هذا الحديث الشريف إلى الآتي:

1-الحديث صحيح متفق على صحته.

2-سمي رمضان عيدا؛ لأنه يعقبه العيد.

3-سمي رمضان بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع، ومقاساة شدته.

4-سمي رمضان في اللغة القديمة ب: "ناتقا".

5-شهر رمضان وذي الحجة وإن نقص أعدادهما في مبلغ الحساب فحكمهما على التمام والكمال في حكم العبادة.

6-أنه لا يجتمع رمضان وذي الحجة في سنة واحدة ناقصين؛ فإن كان أحدهما ناقصا كان الآخر تام العدد ، وهو منصوص الإمام أحمد.

7-لا ينقص عند الله تعالى أجر العاملين فيهما، وإن كان ناقصين في العدد بمعنى: لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما، وإن نقص عددهما وهو الصحيح كما قال النووي.

8-ثواب ذي الحجة لا ينقص عن ثواب رمضان؛ لأن فيه المناسك وهو قول ضعيف كما قال النووي.

9- الثواب ليس منهما على وجود المشقة دائما؛ بل الله تعالى له أن يلحق الناقص بالتام في الثواب.

10-التسوية في الثواب بين الشهر الكامل والناقص.

والحمد لله رب العالمين.

***********************

هوامش المقال:

([1])أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 926) كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال .... برقم: (1037).

([2]) سيأتي تخريجه.

([3]) صحيح البخاري (ص: 460)، برقم: (1212).

([4]) صحيح مسلم (ص: 486) برقم: (1089)

([5]) سنن أبي داود (ص: 408)، برقم: (2323)

([6]) سنن ابن ماجه (ص: 291)، برقم: (1659)

([7])  سنن الترمذي (ص: 173)، برقم: (692).

([8]) مسند أحمد (34/ 126)، برقم: (20485)

([9]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13 /96).

([10]) فتح الباري (1/ 105).

([11]) فتح الباري (4/ 126).

([12]) نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار الباري (8 /296).

([13]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10/ 285).

([14]) عمدة القاري (10/ 285).

([15]) نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار الباري (8 /296).

([16]) معالم السنن (2 /249).

([17]) شرح صحيح البخاري (4 /29).

([18]) إكمال المعلم (4 /24).

([19]) شرح صحيح مسلم (4 /213-214).

([20]) تهذيب سنن أبي داود (2 /4-5).

([21])  فتح الباري (4 /126).

([22])  عمدة القاري  (10/ 285).

([23])  عمدة القاري (10/ 285).

([24])  فتح الباري (4/ 126).

([25])  نخب الأفكار (8/ 299).

**********************

لائحة المصادر والمراجع:

إكمال المعلم بفوائد مسلم. لأبي الفضل عياض بن موسى . ت: د يحيى إسماعيل. دار الوفاء المنصورة. ط1/ 1419هـ- 1998مـ

تهذيب سنن أبي داود لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية ت: علي بن محمد العمران، دار عطاءات العلم، دار ابن حزم . ط2 / 1440هـ- 2019مـ.

التوضيح لشرح الجامع الصحيح. لأبي حفص سراج الدين ابن الملقن. ت: دار الفلاح إشراف: خالد الرباط. جمعة فتحي. تقديم: أحمد معبد عبد الكريم. وزارة الأوقاف . قطر ط1/ 1429هـ- 2008مـ.

سنن ابن ماجه.  لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، حكم على أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1 (د.ت).

سنن أبي داود؛ لأبي داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف الرياض، ط1 (د.ت) .

سنن الترمذي. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، (د.ت).

شرح صحيح البخاري. لأبي الحسن علي بن خلف ابن بطال القرطبي. تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم. مكتبة الرشد. الرياض. ط2/1423هـ- 2003مـ.

صحيح البخاري: لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير، دمشق، ط1/1423هـ- 2002مـ.

صحيح مسلم بشرح النووي . لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة. ط4/1415هـ- 1994مـ.

صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، ط1/ 1427هـ- 2006مـ.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري. لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني. طبعة إدارة الطبعات المنيرية 1348هـ وصورتها دار الفكر  بيروت ودار إحياء التراث (د.ت)

فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر. تحقيق: ابن باز مع جماعة من العلماء. دار المعرفة. بيروت لبنان. (د.ت).

المسند. لأحمد بن حنبل (ج 34).  تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وعادل مرشد وهيثم عبد الغفور. مؤسسة الرسالة ط1/ 1420هـ- 1999مـ.

معالم السنن لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي. المطبعة العلمية حلب. (د.ت).

نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار. لبدر الدين العيني ت: أبي تميم ياسر بن إبراهيم. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. قطر ط1/ 1429هـ- 2008مـ.

*راجع المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق