مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة ابن أبي زيد القيرواني: إيرادات وأجوبة (4)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها  بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الثالث، ومفاده أن الناظر في مؤلف الرسالة لا يلفي إلا تلخيصا لمسائل محررة في المذهب، منقحة في أصوله من كتب الأصحاب، وغاية صنيع الشيخ تلخيص ما هذبه القوم بالغ تهذيب، وبه ينتفي أثر الملكة في الجمع والتفريق، والتعليل والترجيح، والتصحيح والإفساد..، وقد تمت الإجابة عن هذا الإيراد إجمالا في مقال غبر، ونردفه سطورا مفصلة لها، ومدحضة لإيرادها: مفتتحها بيان أن التدرج في التعليم صناعة فقهية أثيلة، وما ذمه ابن خلدون من التلخيص فيما سلف بقوله: «وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل»([1]) فمخصوص بأوصاف ثلاثة: تخليط على المبتدئ، بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لما يستعد لقبولها، وشغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛ لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت.

فهذه علة الذم مركبة من أو صاف ثلاثة، وهي ممكنة الطرد؛ لتشمل المختصرات اللاحقة كالمختصر الفرعي والخليلي وسواهما، إن قررا درسا للمبتدئ، وإلا فلا([2])، أما الرسالة فلما فيها من التدرج بالمتعلم، والتيسير عليه، والحفاظ على وقته، وإلقاء الكليات ميسورة بين يديه فهي فرع عموم قول ابن خلدون: «اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على.. » ثم شرط لإفادته وإجادته ونفعه في التعليم للمبتدئ شرائط ثلاثة:

الأول: التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا، يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب

الثاني: أن يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال.

الثالث: أن يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه.([3])

وهكذا حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، ثم يرتقي به ثانيا على سبيل من التوسط، وثالثا على انتحاء الانتهاء؛ حتى يحصل الملكة على التمام، والصناعة الفقهية على الكمال.

وهذا عين مرتام الشيخ في رسالته، ومبتغاه في مؤلفه، ألم تر أنه قال في مقدمته:«فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة.. لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن..»([4]) وكرره في خاتمته فقال:«قد أتينا على ما شرطنا أن نأتي به في كتابنا هذا مما ينتفع به إن شاء الله من رغب في تعليم ذلك من الصغار، ومن احتاج إليه من الكبار..» ([5])؛ ولهذا قال شارحها: «إنها مدخل جامع للأبواب، قريبة المرام في الكتب والحفظ والاكتساب..»([6])

وعلى فرض التسليم لما سلف؛ فإن المتأخرين لا يضيرهم في شيء تحرير الروايات والأقوال، وتهذيبها أو تعليلها، وتلخيص أهم مسائلها في كليات جامعة، بل ذلك غاية الضبط والإتقان لمسائل المذهب، فالأحرى به أن يكون في غاية الاستحسان بدل الاستهجان، ولابن عابدين كلمة سائرة كالتعليق على قولة ابن مالك الذائعة في خطبة التسهيل: «وإذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين» قال: «وأنت ترى كتب المتأخرين تفوق على كتب المتقدمين في الضبط والاختصار وجزالة الألفاظ وجمع المسائل؛ لأن المتقدمين كان مصرف أذهانهم إلى استنباط المسائل وتقويم الدلائل، فالعالم المتأخر يصرف ذهنه إلى ‌تنقيح ما قالوه، وتبيين ما أجملوه، وتقييد ما أطلقوه، وجمع ما فرقوه، واختصار عباراتهم، وبيان ما استقر عليه الأمر من اختلافاتهم، فهو كماشطة عروس رباها أهلها حتى صلحت للزواج، تزينها وتعرضها على الأزواج، وعلى كل فالفضل للأوائل..».([7])

 

([1]) مقدمة ابن خلدون:3/1242.، ويروى عن الشاطبي: «إن ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب أفسدوا الفقهّ»ن الفكر السامي:2/247، وكذا الموافقات بتعليقة رقم 3 لمحققه أبي عبيدة مشهور بن حسن:1/148.

([2]) ن الفكر السامي:2/163. قال الحجوي 2/245: «لكن في الحقيقة أن الذين أجهز عليه ـ يعني الفقه ـ هم الذين جعلوه ـ يعني مختصر خليل ـ ديوان دراسة للمبتدئين والمتوسطين، وهو لا يصلح إلا للمحصلين…»الخ.

([3]) ن مقدمة ابن خلدون:3/1243.

([4]) ص 15.

([5]) ص 217.

([6]) شرح الرسالة للعلامة أحمد بن محمد البرنسي الفاسي الشهير بزروق:1/1.

([7]) رد المحتار على الدر المختار للشيخ محمد أمين بن عابدين:1/28.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق