مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة ابن أبي زيد القيرواني: إيرادات وأجوبة (2)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها  بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

فأما الإيراد الثاني فهو كالتأكيد على انخرام شرط الملكة المشروطة في رسوخ الصناعة ما جمعه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي المكناسي(919هـ) في النظائر مما هو كالتعقب عليه، والغض من اختصاره، والتنكيت على اختياره([1])، وقبله صنع أبو عبد الله ابن بشكوال كتاب التبصرة فند فيه ما في الرسالة([2]). وفي ذلك كله الدلالة الأجلى على أن الشيخ لما يبلغ الصنعة المرومة، والملكة الراسخة المنشودة حينئذ.

والجواب أن التنكيت احتفاء واحتفال، وإذا ثبت، فالإيراد له لا عليه؛ لما في التنكيت من الحظة والاهتبال، وأحظى المصنفات ما رزق قبولا، وتكاثرت حواليه الشروح والتقييدات، والحواشي والتعقبات، وإلا كانت هملا، وليعتبر بالكتب السائرة التي رزقت متواتر القبول جيلا بعد جيل في مختلف العلوم، كيف ترادفت عليها الشروح والحواشي والردود والنقود كتيسير الداني، وحرز الشاطبي، ومختصري ابن الحاجب، وجمع الجوامع لابن السبكي، والمختصر الخليلي، وسواها من متون العلوم في أمهات الفنون:

وهذا صحيح البخاري الذي لايمارى في إجماع الأمة عليه، ومع ذلك فقد أصابه ما أصاب متون العلم المتلقاة بالقبول من الشرح والتحري والاستدراك والنقد، ومن ذلك الخضم الهادر الحافظ الدارقطنى في »الإلزامات والتتبع»، والحافظ أبو مسعود الدمشقي في«أطراف الصحيحين« والحافظ أبو علي الغساني في كتابه «تقييد المهمل» تحت عنوان: «التنبيه على الأوهام الواقعة في المسند الصحيح للبخاري»  والحافظ الموسوعة أبو محمد ابن حزم  في»المحلى« في استفاضته عن حديث المعازف، وسواهم.

وهذا الكتاب لسيبويه دستور النحاة، وقانون العربية، تواترت عليه النقود والشروح والحواشي والتعقبات؛ بيانا لأهميته، وبرهانا على سمي مكانته؛ حتى إن  الكسائي كان يقرأ الكتاب على سعيد بن مسعدة الأخفش ويثيبه على ذلك مئتي دينار ، وقيل سبعين ديناراً ([3])، «وهذا الفرّاء يقرأ كتاب سيبويه سرّاً ؛ لئلا يعلم به أحد فيعيّره بذلك، ويقال: إنّه مات فوجد الكتاب تحت وسادته بعد وفاته»([4]) ورغم ذلك فقد كان ينقده ويتعمد خلافه، قال أبو الطيب: «وكان الفرّاء يخالف على الكسائيّ في كثير من مذاهبه، فأمّا على سيبويه فإنه يتعمد خلافه حتى ألقاب الإعراب وتسمية الحروف »([5]).وقال في شأنه أبو موسى الحامض: «إنّما سيبويه دجال شيطان؛ فلذلك تميل إليه الجن »([6]) ، وأول من جرأهم على نقده ومخالفته سعيد بن مسعدة الأخفش، قال في مراتب النحويين: « لم يكن في القوم أعلم من الأخفش ، نبههم على عوار الكتاب وتركهم»([7])

ثم بالغ في ذلك أبو العباس المبرد فجمع ردود الأخفش والجرمي والمازني على الكتاب، وزاد عليها حتى بلغت هذه النقود 133 مسألة.

وقد قيل إن المبرد رجع عن ذلك برمته، وهو ما لم يرتضه العلامة عبد الخالق عضيمة، حيث قال: « القول بأن المبرد رجع عن هذا النقد يرده الاحتكام إلى المقتضب، فقد بقي المبرد على رأيه في نقد سيبويه، وفي المقتضب بقي على 34 مسألة من مسائل النقد، وبقي في الكامل على خمس مسائل أخرى »([8])

فتحصل من هذا الاستطراد أن النقد احتفاء، وشهادة لائحة بمقاربة التمام، وعلى فرضه قادحا فلا يسلم الكبار منه كما تقدم، وخير القوم من عدت هفواته، على أنها اختيارات مؤيدة، وعلى المنكت ـ ناهيك عن المتعسف ـ أجوبة داحضة تكفل بها شراح الرسالة، وأومأ إلى كثير منها الحطاب في شرح النظائر، وقد قيل: من ألف فقد استشرف للمدح والذم، فإن أحسن، فقد استهدف من الحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف..» ([9]) وبالجملة فحظوظ الكتب كحظوظ الناس، يصيبها ما يصيبهم من ذيوع أو خمول([10]) ولا إخال رسالة الشيخ ابن أبي زيد إلا من ذوات السنى والشيوع: (ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)[الجمعة:4]

([1]) ن تحرير المقالة شرح نظم نظائر الرسالة لمحمد بن محمد الحطاب.

([2]) الفكر السامي:2/203، قال: «وله رد على رسالة ابن أبي زيد تعسف فيه، سماه التبصرة».

[3]  أخبار النحويين : 45

[4]  مراتب النحويين : 87 .

[5]  نفسه : 88 .

[6]  مراتب النحويين : 88 .

[7]  مراتب النحويين : 68 .

[8]  المقتضب : 1/91 .

([9]) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لمصطفى بن عبد الله حاجي خليفة:1/38.

([10]) ن مقالات العلامة محمود الطناحي «صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب»:2/493.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق