مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حقائق العمل التزكوي

د.طارق العلمي.

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

    لما كان العمل التزكوي تعبدا لله شامل وكامل، وجب أن يضاد أي تعبد غيره، فلا يجتمع في قلب المتزكي أبدا تعبده للحق مع تعبده للخلق، بل إن تعبده للحق يجعله حرا مما سواه، فالمتزكي لا يكون حرا أو قل إن المتزكي إما أن يكون حرا أو لا يكون؛ فمن امتلأ قلبه بالحق، فلا يبقى فيه موضع للخلق، ولأجل ذلك، ليس في الأعمال كلها ما هو أحق بتحرير الإنسان من الاستعباد، ولا أقدر على محو آثاره من العمل التزكوي، إذ كل الأعمال سواه تبقى فيها بقية من الاستعباد؛ وما هذه الخصوصية إلا لكون الحق سبحانه ينسبه إلى نفسه لما تحقق فيه من خالص التعبد له[1].

وتترتب على هذه الخصوصية للعمل التزكوي النتائج التالية:

    أ- العمل التزكوي فوق الأعمال: فليس هذا العمل من جنس الأعمال الأخرى، ولا من رتبتها، وإنما هو على الحقيقة، عامل إحياء روحي لهذه الأعمال على اختلافها، إذ يمدها بأسباب التبصر في تحديد أهدافها، وبأسباب الحكمة في استعمال وسائلها، وإيضاح ذلك، أن كل عمل مشروع يكمل، بل لا يستقيم، حتى يكون له نصيب من القوة الروحية، التي تجدد حياته وتضمن حريته؛ ولا يمكن أن يخلق هو نفسه هذه القوة من داخله، لأن أسباب الاستعباد تظل كامنة في بنياته، وإلا فلا أقل من أنها تبقى في الأفق تهدد مصيره، ولا يقدر على قطع هذه الأسباب إلا متى تزود بزاد روحي يعلو بالهمم، ولا يوفر هذا الزاد إلا العمل التزكوي.

    ب-العمل التزكوي فوق المؤسسات: ليس هذا العمل من جنس المؤسسات الأخرى ولا من رتبتها، كالجمعيات والمنظمات والهيئات والأحزاب، فالمنطق العام الذي يحكم هذه المؤسسات، في أفضل الأحوال هو تدبير الشأن الدنيوي بناء على أسس المنهج العقلاني والتحليل الموضوعي لموازين القوى الموجودة في الساحة مع الحساب الدقيق للمصالح والاستشراف البعيد لآثار التكتلات والتوافقات، ثم اتخاذ المواقف المدروسة من الأحداث والتقلبات؛ لكن هذا المنطق على فائدته، لا يكفي في تحديد العقلانية الواسعة للعمل التزكوي، وذلك لأن الشأن الدنيوي فيه موصول على الدوام بالشأن الأخروي، لا وصل تسلط أمر خارجي على حقيقة تاريخية، ولا تحكم سلطان بعيد في واقع قريب كما درجت على ذلك أفهام المحدثين في تصور العلاقة بين السياسة والدين، وإنما وصل تجلي الحق في الخلق، أو وصل شهود الظاهر في المظهر، وشتان بين «التسلط» و «التجلي»، فالأول خافض للمتسلط عليه، بينما الثاني رافع للمتجلي فيه، فيكون المنطق الذي ينضبط به العمل التزكوي هو الارتقاء بالشأن الدنيوي بواسطة تأييد سلطة العقل بسلطة الغيب، فتندفع عن تدبير هذا الشأن آفات الاستعباد التي يمكن أن تدخل عليه، وبذلك، لا يقل الشأن الدنيوي عن الشأن الأخروي من جهة التقرب به إلى الحق المتجلي فيهما.

    ج- العمل التزكوي فوق الأوطان: هذا العمل لا يحد وطن مخصوص، على حب صاحبه لبلده الأصلي وغيرته على أهله، ولكنه يتسع للعالم كله، وذلك لأن القيم الروحية التي يبثها في القلوب هي تجليات للرحمة، والأصل في الرحمة أن تسع الكائنات جميعا، لكن، ويا للأسف، غلط كثير من أدعياء الروحانية، فظنوا أن هذه القيم الروحية تبرر قيام وحدة العمل التزكوي، فاندفعوا في تنظيم لقاءات وتجمعات يسعون فيها إلى محو الفروق بين الأعمال الروحية، جمعا بين الأهداف المتباعدة، ومزجا بين الوسائل المتباينة، حتى إن بعضهم لم يتردد في الدعوة إلى «روحانية علمانية»، تقف موقف الحياد من الممارسات التزكوية؛ والحال أن العمل إنما هو العمل بدين مخصوص على شرط الإخلاص، وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن يختلف العمل التزكوي باختلاف الأديان، حكمة من رب العالمين، فتكون القيم التي يورثها العمل التزكوي الإسلامي مختلفة عن القيم التي يورثها العمل التزكوي غير الإسلامي، المنتسب إلى أديان الوحي، فما بالك بالأعمال التي تنتسب إلى غيرها مما نعلم أصله البشري، أو لا نعلم حقيقة أصله. ويرجع وجه الاختلاف أساسا إلى كون كل دين سماوي يعمل على تجديد قيم الدين السابق وإعادة ترتيبها وتوجيهها، انطلاقا من منظور القيم الجديدة التي يأتي بها، فحتى لو اشترك دينان سماويان في بعض القيم، فإن هذا الاشتراك لا يفيد ألبتة اتفاقهما، وحسبنا دليلا على ذلك قيمتا «الرحمة»، و «المحبة»، فوضعهما في الإسلام غيره في المسيحية[2]، فالرحمة في الأول عامة والمحبة خاصة، في حين المحبة في الثانية عامة والرحمة خاصة، وإذا كان الأمر دينين متلاحقين متفرعين من شجرة وحي واحد بهذا الوصف، فما الظن بأديان أصلها التاريخي مفقود أو نسبها الروحي مدخول. لذا، يتعين أن ننأى بالعمل التزكوي الإسلامي عن الشبهات التي تنزله عن مرتبته المتقدمة في بناء الكمال الإنساني، هذه المرتبة التي تؤهله، لا لأن يستمد من غيره، بل لأن يمد غيره بما لم يرتق إليه من القيم، وإلا فلا أقل من أن يقوم اعوجاجه.

    د- العمل التزكوي فوق السلطات:  لا يمكن أن يكون هذا العمل –بتعبير الحرية اللبيرالية-محل تدخل، ولا بتعبير الحرية الجمهورية- محل تسلط، لأسباب مختلفة:

    أولها: أنه عمل أوسع نطاقا من أي عمل آخر أو مؤسسة أخرى، بحيث كل من يتدخل فيه أو يتسلط عليه يرتكب حتما ما كان يرتكبه «بروكوست» في الأسطورة اليونانية المعلومة، إذ اشتهر بتعذيب ضحاياه من المسافرين بطريقة خاصة تقوم في طرحهم على سرير قصير، ثم قطع أطرافهم التي تزيد عن طوله، فيشوهون أو يهلكون، والعبرة من ذلك أن هذا التدخل أو التسلط لابد أن ينتهي بإفساد العمل التزكوي، بل القضاء على هويته.

    الثاني: أنه  عمل روحي لا يقبل أن يصرف في قنوات أو يتوسل فيه بوسائط ليست من جنسه، مع العلم بأن الأمر الروحي هو الذي تحقق بتمام الإخلاص لله، وهذه القنوات والوسائط لا يمكن أن تكون إلا بيد عباده المخلصين، فهم أدرى بوسائل وطرق الانتفاع بهذا العمل؛ وكل من توهم غير ذلك، فإما أنه مجتهد مخطئ متى كان صادقا، وإما أنه مستبد برأيه في هذا الشأن، يضر نفسه قبل أن يضر غيره.

    ثالثا: أن السلطة السياسية أيا كانت، وحيثما وجدت، متى أقحمت نفسها في العمل التزكوي، تسخيرا له، أو تحكما فيه، سلبت روحانيته التي هي ثمرة الإخلاص لله، نظرا لأن الأصل في السلطة هو حب الرئاسة الدنيوية، والعمل التزكوي لا يزدهر إلا في فضاء يزهد في كل رئاسة، كانت ما كانت، أضف إلى ذلك أن هذا الاقتحام الدنيوي في العمل التزكوي يقطع عن المجتمع منبعا فوارا يثري وجدانه، ويرفع همته، كما يفوت على السلطة نفسها فرصة التخفيف من أعباءها الكثيرة، فالتربية التي قد تتولاها السلطة السياسية لا تتعدى تربية الأفراد على المواطنة، بينما العمل التزكوي يربيهم على ما أسميه ب «المخالقة»؛ وشتان بين التربيتين؛ فالمواطنة عبارة عن جملة من القيم السياسية الوضعية التي تهدف أصلا إلى تقوية الشعور بالانتماء للمجتمع أو للدولة، وهو أمر محمود في حد ذاته، ولكنه يبقى سلوكا دنيويا خالصا، بينما المخالقة هي عبارة عن جملة من القيم الكلية التي فطر الله الإنسان عليها؛ وقد تتفرع عليها قيم أخرى وتقوم مقام الميزان الذي توزن به القيم الوضعية؛ وبهذا، فالإنسان أحوج إلى المخالقة منه إلى المواطنة، بل متى حصل المخالقة، استغنى عن تحصيل المواطنة، نظرا لأن كل مخالقة تلزم منها مواطنة خاصة تكون غاية في النفع، لأنها تتأسس على صبغة ثابتة، لا على وضعية متغيرة، كما تكون غاية في الاتساع، لأنها تنفتح على الآفاق الممتدة للعالم، ولا تنغلق داخل الحدود الضيقة للوطن.   

هوامش

 

[1] يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب مني، وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها، وإذا سألني لأعطينه، وإذا استغفرني لأغفرن له، وإذا استعاذني لأعيذنه...».

[2] المحبة عند المسلمين رحمة خاصة، في حين أنها عند المسيحيين أعم من الرحمة، فتكون الرحمة عبارة عن محبة خاصة. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق