مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

تَقْديم كتاب: « نظريةُ الموضع في كتاب سيبويه »

للدكتور علي المعيوف
مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،
ط.1، 1431هـ/2010م
تقديم: عبد الرحمن بودرع
أصدرَ مركز الملك فيصل للبُحوث والدّراسات الإسلاميّة، كتاباً في النظرية النحوية العربية، عنوانُه: «نظرية الموضع في كتاب سيبويه». وأصلُ الكتابِ رسالةٌ مقدمة للحُصول على درجةِ الدّكتوراه في قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة الملك سعود – الرياض، أنجَزَها الدكتور علي المعيوف، الأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة الملك سُعود، والمستشار في وكالة الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي (برنامج كراسي البحث) سابقاً، وصاحب أبحاث علمية منها هذا الكتاب، وكتابٌ آخَر نالَ به دَرجة الماجستير في موضوع “المركّب الاسميّ في كتابِ سيبويه”.
***
موضوع الكتابِ “نظرية الموضع في كتابِ سيبويْه”، الانطباعُ الأوّلُ الذي يُمكنُ أن يحصلَ في نفسِ قارئ هذا الكتابِ، أنّ صاحبَه بحَثَ في الكلّيّاتِ النّظريّةِ انطلاقاً من الظّواهرِ اللغويّةِ، وتفصيلُ ذلِكَ أنّ هيئةَ النّظريّة النّحويّةِ التّركيبيّةِ العربيّة –على نحو ما تبدو عليه في كتابِ سيبويْه- لا سبيلَ إلى الْتماسِها من خارِج كتابِ سيبويْه، وإنّما تُسْتَقْرى من الكتابِ، ثمّ لا سبيلَ إلى استخراجها من الكتابِ إلاّ إذا توسَّلَ المُستخرِجُ بأدواتِ فهمٍ عربيّةٍ خالصةٍ، واشتمَلَ على ذوقٍ عربيّ سليمٍ وأساسٍ لغويّ عربيّ مَتينٍ وتلطُّفٍ في حضرةٍ كتابِ سيبويْه، وسَمتٍ علميّ مكينٍ، وصبرٍ على استعصاءِ النُّصوصِ وتمنُّعِها، وقدرةٍ عاليةٍ على تركيبِ الشّتاتِ المتناثِرِ في ثَنايا الكتابِ لاستصفاءِ صورةِ النّظريّةِ المتكاملة.
يُفهَمُ من عنوانِ هذا الكتابِ (نظرية الموضع في كتابِ سيبويه) أنّ سيبويْه لم يَقتحمْ حِمى العربيّةِ لوَصفها وتَفسيرِها إلاّ وهو مزوَّدُ الذّهنِ بنظريّةٍ مُحكَمَةٍ متكاملةٍ واضحةِ المَعالمِ، متناسقةِ الأجزاءِ عن خارطَةِ المَواضعِ ورُتبتِها في البنيةِ التّركيبيّةِ للجملة العربيّةِ، وأنّ هذه النّظريّةَ مضبوطةٌ بجملةٍ من المَبادئ التي تُظلُّها، ونتجَ عن تطبيق سيبويه لنظريّته مواضعُ رئيسةٌ، في بناءِ التّركيبِ العربيّ المجرّد، وأخرى مُحتمَلَةٌ.
ولا يَغيبَنّ عن أذهان القُرّاءِ أنّ البحثَ في كتابِ سيبويه ليس بالأمرِ الهيّن، ومرجعُ الصّعوبةِ إلى أسلوبِ سيبويْه في مُعالجةِ ظواهرِ العربيّةِ، فالعباراتُ التي يستعملُها ويتخذُها مُصطلحاً تتعدّد للمُسمّى الواحدِ، والشّروحُ لا تُسعفُ بالمَطلوبِ إذ تجدُ الشرحَ ينتقي الموادَّ المشروحةَ فيأخذُ ويَذَرُ، وبعضُ الشروح لَمّا يُحقَّقْ، والنحاةُ الذينَ خَلَفوا من بعدِ سيبويْه لم يكملوا مَشروعَه النّظريّ الذي بدأه، بل لم يستوعبْه كثيرٌ منه، فظلّ عالقاً يحتاجُ إلى الباحثين ذوي عُدّةٍ نَظريّةِ وزادٍ مَعرفيّ، ولا يَسَعُ الباحثَ أمامَ هذه المُشكلاتِ والعَوائقِ إلاّ أن يقتحمَ غمارَ البحثِ عن مَعالم النظريّةِ بزادٍ واسعٍ من الفهم والعلم والصّبرِ.
اجتهَدَ الباحثُ في استخراجِ معالمِ نظريةِ الموضعِ، وهو وظيفةُ الاسمِ النّحويّةُ في بناءِ تَركيبِ الجملةِ العربيّة، انطلاقاً من افتراضِ وجودِ تصوّرٍ ذهنيّ صدرَ عنه سيبويْه في نظريّتِه ووزّعَ بمُقتَضاه قواعدَ للاسم وقَوانينَ في ذاته وفي علاقاته بالأسماءِ والأفعال والحروفِ وفي عامليّتِه ومَعموليّته.

للدكتور علي المعيوف

مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

                                 ط.1، 1431هـ/2010م

أصدرَ مركز الملك فيصل للبُحوث والدّراسات الإسلاميّة، كتاباً في النظرية النحوية العربية، عنوانُه: «نظرية الموضع في كتاب سيبويه». وأصلُ الكتابِ رسالةٌ مقدمة للحُصول على درجةِ الدّكتوراه في قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة الملك سعود – الرياض، أنجَزَها الدكتور علي المعيوف، الأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة الملك سُعود، والمستشار في وكالة الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي (برنامج كراسي البحث) سابقاً، وصاحب أبحاث علمية منها هذا الكتاب، وكتابٌ آخَر نالَ به دَرجة الماجستير في موضوع “المركّب الاسميّ في كتابِ سيبويه”.

***

موضوع الكتابِ “نظرية الموضع في كتابِ سيبويْه”، الانطباعُ الأوّلُ الذي يُمكنُ أن يحصلَ في نفسِ قارئ هذا الكتابِ، أنّ صاحبَه بحَثَ في الكلّيّاتِ النّظريّةِ انطلاقاً من الظّواهرِ اللغويّةِ، وتفصيلُ ذلِكَ أنّ هيئةَ النّظريّة النّحويّةِ التّركيبيّةِ العربيّة –على نحو ما تبدو عليه في كتابِ سيبويْه- لا سبيلَ إلى الْتماسِها من خارِج كتابِ سيبويْه، وإنّما تُسْتَقْرى من الكتابِ، ثمّ لا سبيلَ إلى استخراجها من الكتابِ إلاّ إذا توسَّلَ المُستخرِجُ بأدواتِ فهمٍ عربيّةٍ خالصةٍ، واشتمَلَ على ذوقٍ عربيّ سليمٍ وأساسٍ لغويّ عربيّ مَتينٍ وتلطُّفٍ في حضرةٍ كتابِ سيبويْه، وسَمتٍ علميّ مكينٍ، وصبرٍ على استعصاءِ النُّصوصِ وتمنُّعِها، وقدرةٍ عاليةٍ على تركيبِ الشّتاتِ المتناثِرِ في ثَنايا الكتابِ لاستصفاءِ صورةِ النّظريّةِ المتكاملة.

يُفهَمُ من عنوانِ هذا الكتابِ (نظرية الموضع في كتابِ سيبويه) أنّ سيبويْه لم يَقتحمْ حِمى العربيّةِ لوَصفها وتَفسيرِها إلاّ وهو مزوَّدُ الذّهنِ بنظريّةٍ مُحكَمَةٍ متكاملةٍ واضحةِ المَعالمِ، متناسقةِ الأجزاءِ عن خارطَةِ المَواضعِ ورُتبتِها في البنيةِ التّركيبيّةِ للجملة العربيّةِ، وأنّ هذه النّظريّةَ مضبوطةٌ بجملةٍ من المَبادئ التي تُظلُّها، ونتجَ عن تطبيق سيبويه لنظريّته مواضعُ رئيسةٌ، في بناءِ التّركيبِ العربيّ المجرّد، وأخرى مُحتمَلَةٌ.

ولا يَغيبَنّ عن أذهان القُرّاءِ أنّ البحثَ في كتابِ سيبويه ليس بالأمرِ الهيّن، ومرجعُ الصّعوبةِ إلى أسلوبِ سيبويْه في مُعالجةِ ظواهرِ العربيّةِ، فالعباراتُ التي يستعملُها ويتخذُها مُصطلحاً تتعدّد للمُسمّى الواحدِ، والشّروحُ لا تُسعفُ بالمَطلوبِ إذ تجدُ الشرحَ ينتقي الموادَّ المشروحةَ فيأخذُ ويَذَرُ، وبعضُ الشروح لَمّا يُحقَّقْ، والنحاةُ الذينَ خَلَفوا من بعدِ سيبويْه لم يكملوا مَشروعَه النّظريّ الذي بدأه، بل لم يستوعبْه كثيرٌ منه، فظلّ عالقاً يحتاجُ إلى الباحثين ذوي عُدّةٍ نَظريّةِ وزادٍ مَعرفيّ، ولا يَسَعُ الباحثَ أمامَ هذه المُشكلاتِ والعَوائقِ إلاّ أن يقتحمَ غمارَ البحثِ عن مَعالم النظريّةِ بزادٍ واسعٍ من الفهم والعلم والصّبرِ.

اجتهَدَ الباحثُ في استخراجِ معالمِ نظريةِ الموضعِ، وهو وظيفةُ الاسمِ النّحويّةُ في بناءِ تَركيبِ الجملةِ العربيّة، انطلاقاً من افتراضِ وجودِ تصوّرٍ ذهنيّ صدرَ عنه سيبويْه في نظريّتِه ووزّعَ بمُقتَضاه قواعدَ للاسم وقَوانينَ في ذاته وفي علاقاته بالأسماءِ والأفعال والحروفِ وفي عامليّتِه ومَعموليّته.

يأتي هذا الكتابُ النفيسُ ليُعيدَ تركيبَ التّصوّرِ الذّهنيّ أو الخارطةِ الذّهنيّةِ التي صدَرَ عنها سيبويْه في بناءِ نظريّتِه التّركيبيّةِ العربيّةِ، والمهمّ في الأمرِ أنّ هذه النّظريّةَ المتناسقةَ الأجزاءِ المبنيّةً بناءً منطقياً دقيقاً، التي لم تُغفِلْ ما ندّ عن القاعدةِ وشذّ، لم يبدُ منها إلاّ أثرُها، وهذا الأثرُ هو أقوالُ سيبويْه المنثورةُ في الكتابِ وأوصافُه للعربيّةِ وتحليلُه لوجوهها الصرفيةِ والتّركيبيّةِ والدّلاليّةِ، ثُمّ جاءَ الباحثُ بكتابِه هذا ليكشفَ عن النظريّةِ المُجرّدَة وليبسطَ القولَ في تفاصيلها، وفي تَنزيلِها على إنجازِ الكلامِ وتحقّقِها في حركةِ التواصُل بين أركانِ الاتّصالِ الثّلاثة وهي الرسالة والمرسِل والمُخاطَب. ففي كتابِ الباحثِ تجريدٌ وتجديدٌ؛ تجريدٌ للنظريّة من الأقوالِ والشّواهدِ والأمثلةِ لاستخراجِ معالمِ نظريّةِ الموضع، وتجديدٌ لمنهاجِ البحثِ في كتابِ سيبويْه وفي تركيب اللغة العربيّة.

ولم يَخلُ طريقُ البحثِ من عَوائقَ اعْترَضَت في أثناءِ البَحثِ عن المُفرَداتِ الدّالةِ على المَفْهومِ المُرادِ، فليسَت كلُّ كلمةِ “مَوْضعٍ” ورَدَت في كتابِ سيبويْه تدخلُ في حيّزِ القصدِ من نظريّةِ الموضعِ؛ لأنّ مرادَ النظريّة كلُّ لفظٍ دالٍّ بنفسِه أو بمَعْناه وسياقِه على المَعنى المَطلوب، ومعنى ذلِك أنّ حزونةَ البحثِ إنّما في انتقاءِ ما يدخلُ في الحيّزِ واستبعادِ ما لا يدخلُ، حتّى يكونَ بناءُ الصّورةِ الكاملةِ لنظريّةِ الموضعِ مبنياً على استقراءٍ منهجيٍّ دقيقٍ، وهكذا فقد نبّه الباحثُ على المَعاني المعجميّة لكلمة موضع في الكتابِ، ممّا لا يدخلُ في مجالِ النظريّةِ أو يدخلُ دخولاً جزئياً، وهي خمسةَ عشرَ معنىً، ثمّ ورَدَ لفظُ “الموضع” بمَعناه الاصطلاحيّ المرادِ، وهو الوظيفَة الاسميّةُ النحويّة في البناءِ التّركيبيّ للجملة العربيّة، وهو مَعقدُ العناية والاهتمامِ في البحثِ.

لقد حاولُ الباحثُ الكريمُ أن يبرهنَ على أنّ صاحبَ الكتابِ، نشأت في ذهنه صورةُ النّظريّة بعدَ أن ثَقِفَ لسانَ العربِ واستقْرى نُصوصَ العربيّةِ، فانقَدَحَت عندَه شرارةُ العلم النظريّ المجرَّد، ثمّ صاغَ في ذهنه خريطةَ التركيبِ المجرّد للعربيّة، ثمّ طفقَ يتنقّلُ من النصوصِ إلى النظريّةِ لتَجريد الصّورةِ الذّهنيّةِ، ثمّ من النّظريّة إلى النّصوصِ للتّمحيصِ واختبارِ قوّةِ البناءِ.

هذا وقد بسَط الباحثُ في الفصلِ الثاني من الكتابِ، قوامَ النّظريّةِ، نظريّةِ سيبويْه في الموضعِ، وفصّل الكلامَ في مَبادئها الاثني عشَرَ، ثمّ تلا ذلِك ذكرٌ للمبادئ العامّة التي تنظّمُ رتبةَ المواضعِ وهي سَبعُة مبادئَ.

ومن مقوّماتِ النّظريّةِ بعدَ المبادئِ أيضاً، المواضعُ الرّئيسةُ والمواضعُ المُحتمَلَةُ في البناءِ التّركيبيّ المجرّد للعربيّة؛ وقد قسّمَ المَواضعَ بحسَب الوظائفِ النّحويّةِ التي يؤدّيها كلّ موضوعٍ في التّركيبِ؛ فمنها ما لا يَقومُ التّركيبُ العربيّ إلاّ به، ومنها ما يكونُ على سبيلِ الزّيادةِ والتّقويةِ للتّركيبِ كلّما احتاجَ المتكلّمُ إلى وظيفةٍ من الوظائفِ المحتمَلَة، ومن المفيدِ أن يُشارَ في هذا السياقِ إلى أنّ الباحثَ نبّه على التّفريقِ بين الفَهمِ الصّحيحِ للتركيبِ العربيّ حسب ما تُمليه نظريّةُ سيبويْه وبين الفَهم الذي درجَ عليه النّحويّون الخالفونَ من بعدِه الذين اختزَلوا أنماط الوظائفِ في العُمَدِ والفضلاتِ، وهو أمرٌ لم يُردْه سيبويْه ولم يَرمْه، خاصّةً أنّه يُعالجُ التّركيبَ العربيّ بوصفه رسالةً بين متكلّمٍ ومتلقٍّ في سياقٍ ومَقاصدَ، وهذه الأطرافُ كلُّها تضبطُها نظريّةٌ مُحكَمَةُ الصّنعِ مَضبوطةٌ بمَبادئَ عامّةٍ مُستخرَجَةٍ من صميمِ الكَلامِ العربيّ الفَصيحِ شعرِه ونثرِه.

ومن مقوّمات النظريّة أيضاً الرتبةُ الأصليّةُ للمواضعِ، والمقصودُ بها الرّتبةُ الأصليّةُ بين المواضعِ وليسَ بين الكلماتِ كَما جَرى عليْه النّحويّونَ قديماً والباحثونَ المُعاصرونَ، ثمّ يأتي الحديثُ عن الفعلِ بوصفه يؤدّي علاقةً إسناديّةً في التّركيب، ثم الحرفُ بوصفه رابطاً وليس له موقعٌ إعرابيّ.

ومن المقوّماتِ أيضاً عناصرُ الاتّصالِ التي هي المُرسِلُ والمتلقّي والرّسالةُ؛ فعلى المتكلّمِ الالتزامُ بما نطقَت به العربُ واتّباعُهم وتَقليدُهم في ذلِكَ، وعلى المرسِلِ بناءُ الكلامِ وفقَ المَقاصدِ والأغراضِ، وعلى المتلقّي أن يلتزمَ بما يلتزمُ به المتكلّمُ من نظامِ المَواقعِ وأن يكونَ على علمٍ بالمَواضعِ المُحتمَلَة حتّى يتوصّلَ إلى وضعِ كلّ وظيفةٍ في موضعها من التّركيب، ومَلءِ ما سكتَ المتكلمُ عن اللفظِ به وهو يريدُه، اقتصاداً في الكلامِ وتخفيفاً، ولما في صدرِه من العلمِ به.

هذا وقد عقدَ الباحثُ فصلاً برمّته لمبحثٍ لا شكّ أنه يُجيبُ به –وإن لم يُصرّحْ- عن سؤالٍ ضمنيّ سيبْتدرُ إلى ذهنِ كلّ قارئ لكتابِه أو لعنوان كتابِه، وهو ما أثرُ النّظامِ الموضعيّ في العربيّة، فيُجيبُ بأنّ نظامَ التّركيبِ في العربيّة لبناتٌ يُبْنى بعضُها على بعضٍ، ويُؤلَّفُ فيها اللاحقُ على السّابق، وأنّ « المَواضعَ/الوظائفَ الاسميّةَ في جملةٍ ما تكونُ مبنيّةً على ما يُبدأ به التّركيبُ…»، ولا يؤثّرُ هذا الوضعُ البنائيّ في حركيّةِ الطّبيعةِ النّظريّةِ للمواضعِ.

ثمّ يُضافُ إلى ذلِك تأثيرٌ آخرُ وهو أنه إذا حُذفَ ما يؤسَّسُ عليه التّركيبُ جازَ أكثرُ من وجهٍ إعرابيّ في تقديرِ المحذوفِ، من الوجهةِ النّظريّةِ، ما لم يَنطق المتكلّمُ بوجه إعرابيّ ما فيُخصّصَ المُحتمَل ويَتَعَيّن. ومن المَظاهرِ النظريّة للنظامِ الموضعيّ في العربيّة أيضاً، صفتا الامتدادِ والتراكُمِ في حدودِ المسموحِ به في كلامِ العرب، اللّتانِ يمكنُ أن تملآ المواقعَ، وإذا امتلأت المواضعُ أمكنَ الوُقوفُ واستئنافُ جملةٍ جديدةٍ…

وما زالَ الباحثُ يزيدُ مفهومَ الموضعِ بَسطاً وإيضاحاً ويميزُه عن اللفظِ الحالّ فيه، ويبين وجه التفاعل بينه وبين الكلامِ، وعلاقة العامل بالموضعِ…

ثمّ يأتي الفصلُ الرابعُ، آخرُ الفُصولِ، وفيه حديثٌ عن مظاهرِ النّظريّةِ في معالجةِ سيبويه العربيّةَ؛ فقَد استعملَ سيبويه طرقاً للاستدلالِ على الموضعِ، منها الاستبْدالُ، وهو استبدالُ لفظ بلفظٍ أو مفردٌ بجملة، يشتركانِ في أداءِ الوظيفةِ نفسِها في الجملة، ومنها إعادَة ترتيبِ ما يؤدّي الوَظائفَ الاسميّةَ في الجملةِ المُتحدَّث بها بما يُطابقُ رتبةَ المواضع في البناءِ التّركيبيّ المجرَّد للجملةِ العربيّة. ومنها «تغييرُ ترتيب ما يؤدّي الوظائفَ الاسميّةَ لبيانِ أنّ المعنى المُرادَ يختلّ بالتّرتيبِ الجديد»، ومنها إدخالُ زيادة في الجملة، لبيانِ الموضعِ، والإتيانُ بمُعادلٍ لبيان الموضعِ، ومنها إثارةُ سيبويه السّؤالَ لتبيين الموضع، ومنها الاستناد إلى مراد المرسِل لبيانِ موضع مشغولٍ في جملةٍ ما.

أمّا مَظاهرُ النّظريّة في تحليلِ سيبويه فتظهرُ في تعدُّد التوجيه الإعرابيّ لتعدّد احتمالات الاستعمالِ التي تسمحُ بها المواضعُ، وفي تفسيرِ الغرض من استعمالِ ظواهرَ لغويّةٍ كضميرِ الفصل، وفي الحُكم على اسم ما بأنّه لغوٌ لا يؤدّي وظيفةً اسميّةً نحويّةً في الكلام، وفي عدمِ الوقوفِ عند اللفظِ الظّاهرِ أثناءَ التّحليلِ، كاللفظِ المبنيّ لزوماً فهو في موضعٍ من مواضع الجملةِ ويؤدّي الوظيفةَ النحويّةَ التي يؤدّيها الاسمُ المُعرَبُ، ومن مظاهرِ النّظريّة التّفسيرُ بالمُجاورةِ أو الجوارِ في الإعراب.

ثمّ انتهى الباحثُ في خاتمةِ الكتابِ إلى أنّ الاعتمادَ على نظريّة الموضعِ يُعدُّ مستوىً في تحليل الجملة، بل أرى أنّ تَحكيمَ نظريّة الموضعِ ييسّرُ تصوّرَ الخَريطةِ التي وجَّهَت تفكيرَ سيبويْه وهو يصفُ نُصوصَ العربيّةِ ويُفسّرُها. لأن البحثَ الذي يَقومُ على افتراضِ وجودِ نظريّةٍ موجِّهةٍ تتحكّمُ في كلّياتِ العملِ المدْروسِ وجزيّاتِه، وفي مُفرداتِه ومُصطلحاتِه، وفي آلاتِه وأدواتِه، وفي طرائقِه ومَسالكِه، ليُعدُّ بحثاً علمياً أكاديمياً أصيلاً يمتازُ بالجهدِ والإبْداعِ والتّجديدِ، وإنّ استكشافَ الهيكل النّظريّ للمصنّفاتِ الكُبْرى إنّما هو بحقّ دفعٌ للبحثِ إلى الأمامِ وإخْراجٌ للبُحوثِ من دائرةِ الجمودِ والتّقليدِ. ولم يفُت الباحثَ وهو يُقدّمُ هذا العملَ العلميَّ الأصيلَ الجديدَ أن يُنبّهَ على ضرورةِ اعتمادِ نظريّةِ الموضِعِ في قراءَة النّحوِ العربيّ وعَرضِ مادّتِه التّركيبيّةِ. وهذه التّوصيةُ في ذاتِها إسهامٌ في تجديدِ النّحوِ العربيّ، ووضعٌ له في مَصافِّ الأنحاءِ اللغويّةِ واللّسانيّةِ المتطوِّرَة الكُبْرى.

ويُعزّزُ هذا الحُكمَ أنّ الباحثَ لم يفرغْ من بحثِه المبدِع الأصيلِ إلاّ بعدَ أن رسمَ خريطةً لنظريّة المَوْضِع المُفترَضَة أبرز فيها جميعَ المواضعِ المُحتمَلَة والمملوءَة والروابط التي تربطُ المواضعَ بالوظائفِ النّحويّة التّركيبيّة، وبيَّنَ في هذا الرّسمِ المُشجَّر أنّ لسانَ العربِ بناءٌ متماسكٌ متّسقٌ يشدّ بعضُه بعضاً، وأنّ أقربَ طريقٍ لاكتشافِ الترابُط والوُقوفِ على العلاقاتِ الواصلَة بين ظواهرِ اللغةِ، طريقُ التّنظيرِ، وأنّ أسلَمَ أسلوبٍ لاستكشافِ النّظريّة هو استخراجُ مَعالمِها من نسَقِ المادّةِ المَدْروسَة ومنطقِها، من غيرِ إقحامٍ أجسامٍ غريبةٍ من خارِج النَّسَقِ.

وهكذا يُلاحظُ أنّ الباحثَ ظلّ وفيّاً للبناءِ النّظريّ الذي بَناه لبحثِه، ولم يَحِدْ قِيدَ أنملةٍ عن تلمّسِ مظاهرِ النظر في كتابِ سيبويْه بعامّة، ونظريّةِ الموضعِ بصفةٍ خاصّةٍ، فجاء البحثُ كلّه من فاتحته إلى خاتمته بناءً نظرياً منطقياً متماسكاً منسجماً يشرحُ ويفسّرُ ويُعلّلُ نظريةَ سيبويه ويُحصي الأدلّةَ والبَراهينَ على ذلِك ممّا تيسّرَ جمعُه وتتبُّعه من منهجِ سيبويه في التحليل والتعليل وطرائقِه في التعامُل مع الشّواهدِ والأمثلةِ.

و اعتمد الباحث الكريمُ في معالجته لنصوص الكتاب، واستخراجِه بعضَ معالمِ بنائه النظريّ، على منهج أصيل وذوقٍ عربيّ سليمٍ، صافٍ لا تشوبُه عُجمةٌ ولا إسقاطٌ ولا تأثّرٌ، وهو نهج أصيل يَقوم على قراءةٍ ووصفٍ وتفسيرٍ لقضايا العربيّةِ يعتمدُ أسلوبَ استئنافِ مَشْروعِ الأسُس المعرفيّةِ الرّاسخَةِ التي تشدُّ بُنيانَ علوم العربيةِ نحوِها وصرفِها وبلاغتِها ومُعجمِها، وهي علومٌ قائمةٌ على أسُسٍ وأصولٍ عربيّةٍ خالصةٍ ذاتِ طابعٍ أصيلٍ، نابعةٍ من نَسَقِ اللّغة العربيّةِ ذاتِه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق