مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

تقريب مفهوم التعلق

 

مفهوم التعلق من المفاهيم الإجرائية التي تداولها أهل النظر الأشعري في بحوثهم العقدية المستفيضة المتعلقة بمبحث الصفات الإلهية، وهو مفهوم محوري وضروري في فهم بعض معاني صفات الباري تعالى وتعقل اقتضاءاتها وتقرير العقائد المتصلة بها، ولتقريب هذا المفهوم الدقيق، من الأفيد التمهيدُ باستحضار سياقين مفهومين أساسين بهما ينجلي المفهوم وتتضح معالمه؛ أولهما يرتبط ببيان أقسام الحكم العقلي، وثانيهما يتعلق بتقريب مفهوم الصفات وأقسامها، كل ذلك على شرط العقد الأشعري.

1- الحكم العقلي: ماهيته وأقسامه.

يعتبر الحكم العقلي من المفاهيم الإجرائية اللازمة في بناء النظر العقدي الأشعري؛ إذ يقوم مقام الآليات المفيدة في تحقيق هذا النظر وتقرير مسائله وقضاياه؛ مفاهيمَ واستدلالات

[1]. يقول العلامة اللقاني مشيرا إلى هذا الملحظ: “وينبغي الاعتناء بمعرفة هذه الأحكام والارتياض عليها؛ لأن إمام الحرمين ادعى أن معرفتها هي العقل بناءً على أنه العلم بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات”[2]. وبناء عليه تقرر لدى أهل النظر الأشعري أن معرفة أقسام الحكم العقلي هي من آكد الواجبات؛ إذ “يتوقف عليها فهمُ العقائد، فتكون هذه الثلاثة واجبة على كل مكلف من ذكر أو أنثى؛ لأن ما يتوقف عليه الواجب يكون واجبا”[3].

والقول المختصر في معنى الحكم اصطلاحا أنه عبارة عن إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه[4]، وتقريب ذلك “أن من أدرك أمرا من الأمور؛ فإما أن يتصور معناه فقط، ولم يحكم بثبوته ولا بنفيه، فهذا الإدراك يسمى في الاصطلاح: تصورا، كإدراكنا مثلا أن معنى الحدوث: الوجود بعد العدم، ولم نثبته لأمر ولا نفيناه عنه. وإما أن يَتصور مع ذلك ثبوت ذلك المعنى لأمر أو نفيَه عنه، فهذا الإدراك يُسمى في الاصطلاح: تصديقا، ويسمى أيضا: حكما، كإثباتِنا الحدوثَ -مثلا بعد تصورنا لمعناه- للعوالم، وهي ما سوى المولى تبارك وتعالى، فنقول: العوالم حادثة، أو نفيِهِ عمن وجب قدمُه، وهو مولانا تبارك وتعالى، فنقول: مولانا جل وعلا ليس بحادث. فإثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، هو المسمى: حكما”[5].

أما باعتبار المستند ف”الحكم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي وعادي وعقلي، وذلك أن الثبوت أو النفي اللذين في الحكم إن أسندا إلى الشرع بحيث لا يمكن أن يعلما إلا منه فهو الحكم الشرعي، ولذا نسب إلى الشرع، كقولنا في الإثبات: الصلوات الخمس واجبة، وقولنا في النفي: صوم يوم عاشوراء ليس بواجب. وإن لم يستند إلى الشرع فإن كفى العقل في إدراكه من غير أن يحتاج إلى تكرر ولا اختبار فهو الحكم العقلي، ولما توصل إليه العقل من غير أن يتوقف على شيء آخر نسب إلى العقل، وذلك كقولنا في الإثبات: (العشرة زوج)، وفي النفي: (السبعة ليست بزوج)، وإن لم يستند النفي أو الإثبات اللذان في الحكم إلى شرع ولا كفى العقل في التوصل إليهما، بل احتاج إلى تكرر واختبار وعادة فهو الحكم العادي؛ نسب إلى العادة لأن بها توصل إليه لا بشرعٍ ولا بعقلٍ، وذلك كقولنا في الإثبات: شراب السكنجبين مسكن للصفراء، وفي النفي: الخبز الفطير ليس بسريع الانهضام. ثم ينقسم هذا العادي إلى قسمين: عادي قولي كرفع الفاعل ونصب المفعول ونحو ذلك من الأحكام النحوية أو اللغوية، وعادي فعلي كالمثالين المذكورين”[6].

والخاصية المميزة للحكم كيفما كان مستنده تتحدد بكونه “لا تُعلم له حقيقة إلا بالإضافة إلى محكوم به عليه، كما تقول: حكم عقلي، أو شرعي، أو عادي؛ فالحكم من حيث هو هو لا تعلم له حقيقة حتى يضاف إما إلى العقل، أو إلى الشرع أو إلى العادة”[7].

كما يتفرع كل قسم من أقسام الحكم الثلاثة؛ أي الشرعي والعقلي والعادي-باعتبار طريق التحصيل- إلى قسمين: قسم سبيله الفطرة والضرورة وهو ما يدرك ثبوته أو نفيه بلا تأمل أو إعمال للنظر، وقسم سبيله النظر والاستدلال[8].

أما الحكم العقلي – متعلق النظر الكلامي ومدار سائر مباحثه- فتنحصر أقسام مقتضاه في ثلاثة أقسام هي الوجوب والاستحالة والجواز، وبيان ذلك “أن ما يحكم به العقل إما أن يقبل الثبوت دون النفي فهو الواجب عقلا، وإما عكسه بأن يقبل النفي دون الثبوت فهو المحال عقلا، وإما أن يقبل الأمرين أي الثبوت والنفي فهو الجائز عقلا، ويسمى الممكن أيضا”[9].

والمراد بالواجب العقلي “ما لا يتصور في العقل عدمه، إما ضرورة كالتحيز للجرم مثلا، وإما نظرا كوجوب القدم لمولانا جل وعز”[10] وهو قسمان:

الواجب الذاتي: ومعناه ما لا يقبل في العقل الانتفاء في الخارج بكل نظر واعتبار.

الواجب العرضي: “وهو الممكن الذي تعلق علم الله تعالى بوقوعه كثواب المطيع وعقاب الكافر، فإنه يقبل النفي باعتبار دون اعتبار؛ لأنه إن نظر إليه في حد ذاته فهو يقبل العدم فيكون جائزا، وإن نظر إليه من حيث تعلق علم الله تعالى بوقوعه فلا يقبل العدم، فيكون واجبا، فهو في نفسه جائز، وبالنظر إلى خارج عن ذاته واجب”[11].

والمقصود بالمحال العقلي (أو المستحيل): “ما لا يتصور في العقل وجوده، إما ضرورة كتعري الجرم عن الحركة والسكون، وإما نظرا كالشريك لمولانا جل وعز”[12]، ويشتمل على قسمين:

المحال الذاتي: وهو ما يمنع في العقل الثبوت في الخارج بكل نظر واعتبار، كوجود شريك لمولانا تبارك وتعالى فهو محال لذاته.

المحال العرَضي: “وهو الممكن الذي استحال لتعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه كإيمان أبوي جهل ولهب، فإنه ممتنع الثبوت باعتبار دون اعتبار؛ إذ هو بالنظر إلى ذاته لا يمتنع ثبوته فيكون ممكنا، وبالنظر لتعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه يمتنع ثبوته فيكون محالا، فلما استحال بالنظر إلى خارج عن ذاته سمي محالا عرضيا”[13].

أما الجائز العقلي فهو الذي يقبل الثبوت والانتفاء في الخارج، أو هو “ما يصح في العقل وجوده وعدمه، إما ضرورة كالحركة لنا، وإما نظرا كتعذيب المطيع وإثابة العاصي”[14]، ويندرج فيه ثلاثة أقسام:

– الأول وهو الجائز المقطوع بوجوده، ومثاله اتصاف الجرم[15] بخصوص البياض أو السكون أو الحركة، وكالبعث والثواب والعقاب، وهو من الواجب العرضي الذي علِمنا تعلقَ مشيئة الله تعالى وعلمه بوقوعه دون عدمه.

– والثاني هو الجائز المقطوع بعدمه كدخول الكافر الجنة، وهو من المستحيل العرضي الذي علمنا تعلق المشيئة بعدمه دون وقوعه.

– وأما الثالث فهو الجائز المحتمل للوجود والعدم، وهو الذي لم نطلع على مشيئة الله فيه كقبول الطاعات منا، وفوزنا بحسن الخاتمة، وسلامتنا من عذاب الآخرة، “وهذا القسم أيضا إما واجب عرضي أو محال عرضي؛ لأن مشيئة الله تعالى وعلمه إما أن يتعلقا بوقوعه فواجب، أو بعدم وقوعه فمحال”[16].

1 2 3الصفحة التالية

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق