كثيرا ما يرمى الفقه المالكي بأنه فقه غير مؤصل، تحكى فيه المسائل مجردة من الدليل، ويستند فيها إلى أقوال الرجال بدل الاستناد إلى النصوص، من الكتاب والسنة أو هما معا، والواقع أن هذا الحكم إن كان فيه شيء من الحق في ظاهره، فإن فيه كثيرا من المغالطات في داخله، ذلك بأن الفقه المالكي كغيره من فقه المذاهب، يقوم على الدليل أولا وأخيرا، ذكر هذا الدليل أو لم يذكر، وذلك في المسائل المشرعة بالنص، أما ما يرجع إلى المستنبطات فتجرى على طريقة الاستناد إلى القواعد الكلية، والمبادئ العامة، إذ ما كل المسائل الفقهية شرعت بالنص، كما لا يخفى، ومن زعم أن النص وارد في كل مسألة بعينها، وفي كل نازلة بخصوصها، فقد أبعد النجعة، فكثيرة هي المسائل التي لم يرد فيها نص صريح، فالنصوص، كما هو معلوم، محدودة، والنوازل والقضايا ممدودة، ومحال أن يقاس، ما هو محدود بما هو ممدود، فالحوادث تتجدد باستمرار، وتختلف باختلاف البلدان، والعالم كل يوم يزداد بالتجارب الإنسانية، لا يملك إزاءها فقيه مشرع أن يسقطها من حسابه، والمجتمع الإنساني قد تطور من حياة البداوة إلى حياة الحضارة والمدينة، وانتقل الإنسان من البيئة الصحراوية والأرياف، إلى المدن الآهلة، وتحولت الحياة البسيطة إلى الحياة الاجتماعية المتحضرة المعقدة، وتبعا لذلك، فإن التشريع يجب أن يلاحق هذا التطور وهذا التغير، وذلك ببناء الفروع على الأصول، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق، حتى يحفظ أصالته وثباته، ويضمن بذلك صلاحيته للبقاء والاستمرار في الظروف الاجتماعية المتطورة.
ولأمر ما رأينا أصحاب المذاهب الإسلامية أحدثوا مقاييس للرأي، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط، وألوانا من الاجتهاد، فكانت تختلف مذاهبهم في ذلك، فيرفض بعضهم وجهة نظر الآخر في الحكم، وكان القياس أول هذه المعايير التي استعملها أصحاب المذاهب، ومن هذه المعايير: المصلحة المرسلة، والاستحسان، وسد الذرائع، وقاعدة شرع من قبلنا، وقول الصحابي، وتحكيم العرف والعادات الصالحة، وما جرى به عمل الحكام...وما إلى ذلك من المصادر التكميلية التي اضطر الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلامي ألوان جديدة من السياسة والإدارة والنظم، ولم تكن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لتشمل تلك المظاهر الاجتماعية المستحدثة بحكم، فلم يجد الفقهاء بدا من الالتجاء إلى إعمال الرأي والاجتهاد في مثل هذه المسائل مما لا نص فيه، وتشبعت بذلك مدارس الفقه الإسلامي، وصيغت الأفكار في صيغة علمية محددة، حتى أصبح علم أصول الفقه صناعة علمية لها أصولها وقواعدها.
فالشريعة إنما جاءت بالكليات والمبادئ العامة، وتركت الجزئيات والتفاصيل إلى العقل، يوجهها حسبما تتطلبه المصلحة البشرية، وحسب التطورات الزمانية والمكانية.
ولا يفهم من هذا أن شريعة الإسلام قاصرة، أو عاجزة عن استيعاب المستجدات، فشريعة الله وسعت كل شيء علما، ما كان واقعا على عهد نزول الوحي، وما جاء بعده، ولكن النبي عليه السلام، كان يراعي في إبلاغ الحكم، جانب الناس، ومقتضيات الظروف الزمانية؛ ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
والرأي السائد لدى جمهور العلماء، أنه لم يقدر لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يستوعب إلا القواعد الكلية للتشريع، وجانبا من الأحكام الفقهية التي تتصل بحياة الناس وواقعهم.
يقول الحفيد ابن رشد: "إن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى[1].
وإلى هذا الرأي يجنح ابن خلدون، فهو يرى أن الوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص، وما كان فيها غير ظاهر في النصوص؛ فيحمل على المنصوص لمشابهة بينهما"[2].
وجاء في الملل والنحل للشهرستاني: "إن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات لا تقبل الحصر والعد، ونعلم قطعا، أيضا، أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور أيضا ذلك؛ والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بعدد كل حادثة اجتهاد[3].
وما وجد الاجتهاد إلا ليملأ الفراغ التشريعي الذي يحصل عند سكوت النصوص أو فقدانها.
إن علينا أن نعلم أن فقه المعاملات قليله يرجع إلى النقل، وكثيره يرجع إلى الاجتهاد فما كان منه مبنيا على النقل لا يرتاب أحد في صوابه كله، إذ لا فضل للفقيه فيه إلا أنه بنى المسائل على أصولها الثابتة، فالمسائل التي جاء دليل عليها من الكتاب والسنة، أو من إجماع الأمة، لا يمكن أن تضاف إلى أي مذهب، وأما ما يرجع إلى محض اجتهاد، فيحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، لأنه قائم على فهم بشري، ولا يسلم أي عمل بشري من النقص والخطأ مهما بذل فيه صاحبه من جهد، وصرف فيه من طاقة، إذ لا يعرف تشريع بشري مبرأ من الوهم والقصور، لكن يبقى لأصحابه مع ذلك فضل الاجتهاد، أخطؤوا أم أصابوا، وهذا ما فعله المالكية كما فعله غيرهم.
فإذا كانت المسائل لها أصل نقلي بينوه وبنوا عليه، أما إذا كانت تستند إلى مطلق الاستدلال، طبقوا نفس المنهج الذي طبقه غيرهم بلا فارق.
لا ننكر أن بعض المالكية أحجموا عن ذكر الدليل، ولكن هذا لم يكن هو الغالب من أمرهم في كل العصور التي مر بها هذا الفقه، وإنما جاء ذلك في مرحلة طغت فيها كتب المختصرات التي لا تتسع بحكم طبيعتها لسرد الأدلة، ويحرص أصحابها على إعطاء الحكم الفقهي المجرد، وهذا حصل للمالكية كما حصل لغيرهم، فما كل فروع الشافعية والحنابلة مؤصلة، دع عنك فروع الأحناف.
على أنهم حين يوردون المسائل مجردة، فليس معنى ذلك أنها لا تستند إلى الدليل، فهم وإن لم يصرحوا به، إلا أنهم لاحظوه ضمنا.
على أن بعض الباحثين زعم أن فروع المالكية من أكثر الفروع جريا على الأدلة لا يماثلها في ذلك أي مذهب من المذاهب المدونة فروعها، ذلك أن مذهب الشافعي وأحمد معروفان بأنهما من مدرسة أهل الحديث، ومذهب أبي حنيفة معروف بالرأي، وقد جمع مذهب مالك الأخذ من الكتاب والسنة والقياس[4].
ونحن في عصرنا هذا كثيرا ما نسمع بعض الطعون توجه إلى هذا المذهب ورجالاته كقولهم من أين لخليل هذا، ومن أين لصاحب الرسالة هذا؟... الحجة في كتاب الله، وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو طعن سبق للعلامة ابن حزم أن شنع به على مالكية عصره حينما قال: "وأما أهل بلادنا فليسوا ممن يتعنى بطلب دليل على مسائلهم، وطالبه منهم –في الندرة– إنما يطلبه كما ذكرنا آنفا، فيعرضون كلام الله تعالى وكلام الرسول، عليه السلام، على قول صاحبهم، وهو مخلوق مذنب يخطئ ويصيب، فإن وافق قول الله وقول رسوله عليه السلام، قول صاحبهم، أخذوا به، وإن خالفاه تركوا قول الله جانبا، وقوله عليه السلام ظهريا، وثبتوا على قول صاحبهم"[5].
وقبله كان القاضي منذر بن سعيد البلوطي عاب على المالكية تقليدهم الأعمى لإمامهم في أبيات مشهورة أوردها الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله[6]. ومن هذه الأبيات:
عذيري من قوم يقولون كلمــا طلبت دليلا هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك
فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فـهو آفـك
فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعا أنت قرن مماحـك
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكا في ترك ذاك المسالـك
لكن يجب أن نعلم أن المالكية عندما يكتفون بنسبة الأقوال إلى قائليها دون أن يربطوها بالدليل، لا يرجع ذلك إلى جهلهم بالدليل، وإنما لثقتهم بأئمة المذهب الذين مهدوا لهم الفقه، ودونوا فروعه عن صاحبه، فثقتهم بهم أغنتهم عن البحث في الدليل، بل إن البعض منهم كان يرى أن البحث عن الدليل، ينافي الأدب معهم، لأنهم ما دونوا هذه الفروع، إلا بعد أن وقفوا على أدلتها، ومن ثم فلا ينبغي أن يحملنا فعلهم هذا على التشكيك في سلامة هذا الفقه.
إن الفقهاء المالكية كانوا كغيرهم من أهل العلم، على إطلاع بالحديث ومصنفاته، وكانوا لا يبنون مسائل فروعهم إلا على أحكامه تصريحا أو تلويحا، فاهتمامهم بالفقه، كان كاهتمامهم بالحديث، ولا نتصور إطلاقا أن فقيها تصدى للتأليف أو إفتاء الناس، أو الحكم بينهم، وهو يجهل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاسيما إذا كان من أهل التخريج والاستنباط.
ومسألة تعامل المالكية مع كتب السنة شيء لا يناقش، ولا ينبغي أن يتطرق إليه الشك، فقد كانوا على اتصال تام بمصنفاته ورجاله، ولهم في هذا المجال إضافات قيمة يشهد عليها ما خلفوه من إنتاج في هذا الميدان. وما من كتاب حديثي عرف في المشرق، إلا وراج في المغرب وتعامل معه أهله، دراسة وشرحا وتعليقا، فكتب الصحيح والمساند والمصنفات والمواطآت، كلها اهتم بها المغاربة، بل إنهم كانوا في تعاملهم مع كتب السنة طوائف:
أ. طائفة منهم وهم الفقهاء الخلص آثروا التعامل مع سنن أبي داود وأضرابه، وهذا شيء طبيعي، ما دام الفقهاء يهمهم استنباط الأحكام الفقهية[7].
ب. وطائفة ثانية حصرت اهتمامها في كتاب الموطأ، على اعتبار أنه أصل المذهب وأساسه، وهي طائفة المنظرين للمذهب المالكي، المهتمين بتأصيل قواعده، وبناء الفروع على الأصول.
ج. وطائفة آثرت التعامل مع كتب السنة عموما، وهم طائفة المحدثين.
وهذا التقسيم لا يعني أنه لم يكن هناك تداخل بين الطوائف الثلاث، كما لا يعني أن هناك انفصاما بينها، وإنما هذا بحسب الغالب، وإلا فكل طائفة كانت تكمل الأخرى.
ولئن تفاوتت عناية المغاربة في الاهتمام بالمصنفات الحديثية، فإن المؤكد أنهم كانوا يهتمون بها جميعا، وإن المتصفح لكتب الفهارس والإثبات المغربية يجد سيلا من الكتب الحديثية الأولى التي كان الشيوخ يدرسونها، ويجيزون بها طلابهم، ومن هذه المصنفات ما يذكره ابن خير في فهرسه: مثل مسند حديث الأوزاعي، ومسند حديث ابن جريج، ومسند حديث الزهري وعلله، ومسند حديث سفيان الثوري، ومسند حديث سفيان بن عينية، ومسند حديث شعبة بن الحجاج، ومسند حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، ومصنف سفيان بن عينية، ومصنف عبد الرزاق، ومصنف وكيع بن الجراح، وكلها كانت رائجة بالأندلس في وقت متقدم، فما الظن بكتب الصحاح والسنن والمسانيد، التي جاءت في وقت أصبح فيه المغرب بلد حديث ورواية؟
لقد بدأت كتب الحديث تعرف طريقها نحو المغرب، أواخر القرن الثاني الهجري، وازداد انتشارها في القرن الثالث، ويستفاد من بعض الروايات الموثقة، أن موطأ مالك – وهو كتاب حديث وفقه – دخل الأندلس أواخر القرن الثاني الهجري على يد الغاز بن قبس المتوفى سنة 199هـ، كما دخل إلى تونس على يد علي بن زياد التونسي المتوفى سنة 183هـ في التاريخ نفسه، ثم تبعته كتب أخرى مثل: مصنف ابن أبي شيبة الذي دخل على يد بقي بن مخلد المتوفى سنة 276هـ، وفي القرن الثالث الهجري دخل مصنف أبي داود السجستاني المتوفى سنة 275هـ، وجامع الترمذي المتوفى سنة 279هـ، وسنن النسائي المتوفى سنة 303هـ، ومسند الإمام أحمد المتوفى سنة 241هـ، وسنن البيهقي المتوفى عام 458هـ، وسنن الدارقطني المتوفى سنة 385هـ، وسنن البزار سنة 286هـ، وغيرها...
كما دخل صحيح البخاري المتوفى سنة 256هـ، على يد الإمام أبي عبد الله الأصيلي، المتوفى سنة 392هـ، بعدما رواه عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف الفريري، في الوقت الذي أدخله إلى تونس أبو الحسن القابسي المتوفى سنة 403هـ.
وتفيد بعض الروايات أن صحيح مسلم دخل إلى المغرب قبل صحيح البخاري، وأن كتب السنن كانت أسبق دخولا من الصحاح.
ومنذ أن دخلت كتب الصحيح إلى المغرب، والمغاربة يتعاهدونها ويهتمون بها ويعتنون بأمرها، وتتجلى مظاهر هذه العناية في تلك الأوضاع التي وضعوها عليها، من شروح وتعليقات واختصارات، وتعريف برواتها، وعللها ونكتها الفقهية، كما تظهر أهمية هذه الأعمال في كونها صدرت من علماء كبار أمثال:
بقي بن مخلد (276هـ)، وابن وضاح (289هـ)، وقاسم بن أصبع (340هـ)، وابن الفرضي(403هـ)، وابن بطال(444هـ)، وأبي علي الجياني (498هـ)، وابن عبد البر (463هـ)، والحميدي (488هـ)، وأبي الوليد الباجي (494هـ)، وابن العربي (543هـ)، وأبي علي الصدفي (514هـ)، والمازري (536هـ)، وعياض (544هـ)، وابن التين الصفاقسي (611هـ)، وأبي الحسن القابسي (403هـ)، وأبي العباس القرطبي الأنصاري (656هـ)، صاحب المفهم في شرح مسلم، وأضرابهم من الفحول، بحيث تعتبر أعمالهم في مجملها قمة الإبداع المغربي في الشرح والتعليق والإضافة، وتعطي الدليل على تفوق المغاربة في صناعة فن التحديث، كما تتميز بجودة مضمونها وانفرادها بأشياء امتازت بها، فإذا أضفنا إلى ذلك أن معظم هذه الأعمال متقدمة في الزمن، وأن كبار علماء الحديث من المشارقة اعتمدوها فيما كتبوه حول الصحيحين من أمثال النووي، وابن حجر. والسيوطي، والقسطلاني، وغيرهم، اتضحت لنا جودة هذه الأعمال وقيمتها.
وإن أبرز شيء امتاز به المغاربة في هذا الميدان: خدمتهم للمصنفات الحديثية، خدمة فقهية، بحيث حرصوا على إبراز الجانب الفقهي فيما تضمنته كتب الحديث من أحاديث الأحكام، للتدليل على أن كتب الحديث لا ينبغي التعامل معها على جهة التبرك فقط، ولكن للاستفادة منها علميا، ولا شك أن هدف المغاربة من هذا الصنيع هو إضفاء مسحة حديثية على الفروع، ولدينا طائفة مهمة من الشروح التي نحا بها أصحابها هذا المنحى، نذكر على سبيل المثال أبا الحسن علي بن بطال 444هـ الذي شرح صحيح البخاري في أسفار متعددة ما تزال مكتبة القرويين تحتفظ ببعض أجزائه، توخى فيه استنباط الأحكام الفقهية من عمومات نصوصه، وربطها بالمذهب المالكي تأصيلا له، وكذلك الشأن بالنسبة لعبد الواحد ابن التين السفاقسي 611هـ نهج النهج نفسه، والمهلب بن أبي صفرة 435هـ أو 436هـ. ومن المتأخرين رأينا الفقيه المحدث محمد الطالب الولاتي 1330هـ شرح صحيح البخاري، شرحا امتاز بالتنبيه على كل حديث تمسك به مالك في الموطأ، والفقيه المحدث الفضيل ابن الفاطمي الشبيهي الزرهوني، المتوفى سنة 1318هـ شرح صحيح البخاري شرحا طبق فيه فروع المالكية على أصولها[8] .اعتبره الكتاني أنفس وأعلى ما كتبه المتأخرون من المالكية على الصحيح مطلقا[9].
على أن المغرب والحمد لله، ما خلا من حفاظ السنة، والمدافعين عنها، والممكنين لها، في أي عصر من العصور، وحتى في عصرنا هذا الذي ينعت بالجفاف الفكري عموما، وجدنا من ينقطع لدراسة السنة وخدمتها.
وإذن، فما يشاع من أن المالكية لشدة تعلقهم بالفروع أغفلوا الأصول، هذه كلمة تحتاج إلى مراجعة.
وإذا كان فقهاؤنا المتأخرون رحمهم الله قد سلكوا في التأليف مسلكا ارتضوه لأنفسهم وهو تجريدهم الفروع من النصوص، فإن هذه مرحلة متأخرة طغت عليها ظاهرة المختصرات التي لا تتسع بطبيعتها لسرد الأدلة، ومع ذلك لم تسلم من الطعن، والنقد من طرف كثير من الشيوخ، ولا علينا نحن اليوم إذا نهجنا نهجا يخالف نهجهم.
ونرتئي في دراسة هذا الفقه غير ما ارتضوه، لنعود به إلى سالف عهده يوم أن كان يصاغ بصياغة الفحول من رجاله محررا مؤصلا نقلا وعقلا، أمثال الإمام سحنون الذي وثق مسائل المدونة بالاحتجاج لها بالأحاديث والآثار ولذلك أسس قاعدة رد المسائل إلى أصولها الأولى وكما فعل الإمام أبو بكر الأبهري (ت 395هـ)، برسالة ابن أبي زيد القيرواني إذ أسند مسائلها في كتاب سماه "مسلك الجلالة في مسند الرسالة" التأليف ونهضته بالمغرب 1/32، والحافظ ابن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر ابن العربي، وأبي الحسن الطليطلي، والإمام المارزي، والشيخ أبي جعفر بن رزق القرطبي، وتلميذه الإمام ابن رشد، والرجراجي وأمثالهم، ربطا لحاضره بماضيه.
وقد لاحظنا هذا التوجه فعلا في الدراسات التي أنجزها بعض العلماء المتأخرين الذين جمعوا بين علم الفقه، ورواية الحديث، أمثال: المرحوم محمد المدني بلحسني الذي تصدى لشرح خليل والمرشد المعين بالدليل، والحافظ المحدث أحمد بن الصديق الغماري، الذي شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني بشرح مطول خرج فيه دلائل ما اشتملت عليه من الفروع الفقهية، بإيراد الأحاديث الواردة في كل مسألة، سماه تخريج الدلائل لما في رسالة القيرواني من الفروع والمسائل، ثم اختصره في جزء سماه: "مسالك الدلالة على مسائل الرسالة" وهو مطبوع متداول، وهو ما فعله شقيقه العلامة المحدث عبد العزيز بجزء من العشماوية، فقد أصل مسائلها في جزء سماه: "إتحاف ذوي الهمم العالية بشرح العشماوية" وهو مطبوع كذلك، كما أن أحد الشناقطة وهو الشيخ أحمد بن المختار الجنكي شرح مختصر خليل، بالطريقة نفسها، أي أصل المسائل التي وردت في المختصر، وسمى عمله هذا بمواهب الجليل من أدلة خليل وقد طبع في أربعة أجزاء، وعلى نفس الطريق سار الشيخ محمد الشيباني الشنقيطي في شرح منظومة تدريب السالك إلى أقرب المسالك، صدر من شرحه حتى الآن ثلاثة أجزاء، وهو ما فعله بديله الشيخ محمد الداه الموريتاني في شرح الرسالة القيروانية الموسوم شرحه بالفتح الرباني وهو مطبوع كذلك، وقبل هؤلاء جميعا، تصدى الشيخ الفقيه المحدث الأصولي محمد الولاتي الحوضي لتأليف في الفروع سماه منبع العلم والتقى أتى فيه على كل مسألة بدليلها من الكتاب والسنة على مذهب الإمام مالك وشرحه شرحا نفسيا سماه العروة الوثقى، وغير هؤلاء...
فهذه المؤلفات وغيرها مما لم نذكره دليل قاطع على أن الفقه المالكي فقه له أدلته، ولو كان على غير ذلك، لما استطاع هؤلاء أن يردوا مسائله إلى أصولها.
نعم هناك بعض الفقهاء ممن لم يرزقوا فهم الحديث، ولا اهتموا بكتبه ورجالاته، وإنما جمدوا مع الفروع، هم الذين إذا سئلوا عن مسألة يجيبون عنها بقال خليل، أو قال صاحب الرسالة، أو فلان أو فلان، بدل الرجوع إلى آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، غير أن هؤلاء لا يمكننا أن نعتبرهم فقهاء بالمعنى الصحيح، فمن ليس له معرفة بالحديث، وتضلع بالأصول، لا يعتبر فقيها في عرف العلماء، وإنما الفقيه حقا هو الذي يستطيع رد المسائل الفرعية إلى أصولها من الكتاب والسنة أو القياس عليهما، مع الربط لها بالتقسيم والتحصيل لمعانيها، وما اتفق عليه أهل العلم من ذلك أو اختلفوا فيه، ووجه بنائها على الدليل، وردها إليه، والناس يخيل إليهم أن كل مسألة لها دليل من الكتاب والسنة، فإذا قرؤوا كتابا في الفروع ووجدوا ما فيه من مسائل غير مربوطة بنص قرآني أو حديثي، اعتقدوا أنها مخالفة للشرع، والواقع ليس كذلك، فهناك مسائل، كما قدمنا، لم يرد فيها نص نقلي، فيبنيها الفقيه على القياس أو الاستحسان أو المصالح، أو مراعاة للضرورة.
ومما يجدر ذكره هنا وهو أمر طريف أن المالكية كانوا يؤصلون بعض الفنون الأخرى غير الفقه، فيذكر أبو سالم العياشي في رحلته أن عبد الكريم بن الفكون القسنطيني شرح شواهد الشريف على الأجرومية، والتزم عقب كل شاهد، ذكر حديث مناسب للشاهد[10].
(انظر العدد 3 من مجلة الإحياء)
الهوامش
- بداية المجتهد، 1/2.
- المقدمة، ص445 ط، التجارية.
- الملل والنحل، 1/199.
- انظر مواهب الجليل، للجنكي 1/8.
- الأحكام، ص837.
- جامع بيان العلم وفضله، 2/172.
- لا يفهم من هذا أن سنن أبي داود انفرد بهذه المزية، فصحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما، تضمنا الكثير من أحاديث الأحكام، وإنما الأمر يرجع إلى سهولة التناول فالفقهاء كثيرا ما يتعاملون مع هذا المصنف أكثر من غيره، حتى قيل في شأنه: "لو أن رجلا لم يكن عنده شيء من كتب العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله تعالى ثم كتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم البتة.
- الإتحاف، 5/519.
- فهرس الفهارس، 2/929.
- رحلة العياشي، 2/206.