مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء -33- محمدُ بن عبد الله بن عُمرَ بن عليّ بن إسماعيلَ بن عُمرَ الأنصاريُّ الأوْسيُّ ابن الصفار،

الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء

(من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي ت703ه‍)

-33- محمدُ بن عبد الله بن عُمرَ بن عليّ بن إسماعيلَ بن عُمرَ الأنصاريُّ الأوْسيُّ ابن الصفار، البرنامج(1)

قُرطُبيٌّ سَكَن مَرّاكُشَ طويلًا، ثم تحوَّل بعدَ تجوُّلٍ إلى تونُسَ فاستَوْطنَها، أبو عبد الله، ابنُ الصَّفار والبَرنامَج؛ إمّا لِما جَمَعَ من فنونِ المعارف، وإمّا لِما استَوْلَى على كثرِ أعضائه من الآفات، فقَلَّ عضوٌ من أعضائه سَلِم من آفة، وهذا الاعتبارُ في شُهرتِه أعرَفُ عندَ الناس.

تَلا بالسَّبع على أبي القاسم الشَّرّاط، رَوى عنه «الهِدايةَ» لمكِّيٍّ سَماعًا وأجاز له، وسَمِع من خَلْقٍ لا يُحصَوْنَ كثرةً، منهم: أبو بكرٍ ابنُ الجَدّ وسمع عليه «الموطَّأ» والصَّحيحين و«سُننَ أبي داود» وأجاز له، وأبو الحَسَن نَجَبةُ، تَلا عليه بالسَّبع وقرَأَ عليه من حِفظِه «تيسيرَ» أبي عَمْرو و«سِيَرَ» ابن إسحاق و«كاملَ» المُبرِّد، وسَمِع عليه «صحيحَ البُخاريّ» وغيرَ ذلك، وأجاز له؛ وأبو ذَرٍّ الخُشَنيُّ، وأبو خالد يَزيدُ ابن رِفاعةَ، وأبو سُليمانَ داودُ بن يَزيدَ السَّعديُّ، وأبَوا عبد الله: ابنُ زَرْقُون وسمع عليه «أماليَ القالي» وأجاز له، وابنُ الفَخّار، سَمِع عليه «الموطأَ» و«صحيحَ مُسلم» وأجاز له؛ وأبو العبّاس بن مَضَاء، سَمِعَ عليه الصَّحيحين و«أقضيةَ» ابنِ الطَّلّاع، وناوَلَه تأليفَه في العربيّة وأجاز له ما رَواه، وآباءُ القاسم: ابنُ بَشْكُوال، سَمِعَ عليه «شِهابَ» القُضَاعيّ، وابنُ حُبَيْش: سَمِع عليه بمُرْسِيَةَ «الموطَّأَ» والصَّحيحينِ و«مَغازيَ موسى بن عُقْبة»، وأجاز له؛ وآباءُ محمد: ابنُ عُبَيد الله: عَرَضَ عليه عن ظَهْرِ قلب «مُلخَّص القابِسيّ» وسَمِعَ الصَّحيحَيْنِ و«مصنفَ النَّسَويّ» و«سُننَ» أبي داودَ والدارَقُطنيِّ، وأجاز له، وابنُ يزيدَ السَّعْديُّ: سَمِعَ عليه «أمثالَ» أبي عُبَيْدٍ وابنِ الفَرَس.

وكتَبَ إليه مُجيزًا: أبوا بكر: ابنُ خَيْر وابنُ أبي جَمْرة، وأبو الحَسَن بن كَوْثَر، وأبو عبد الله بن حَمِيد، وأبو العطاءِ بنُ نَذير وغيرُهم.

ورَحَلَ إلى المشرِق، فلقِيَ بالمَهْديّة أبا القاسم بنَ مَجَكان، وأبا يحيى ابن الحدّاد، وهما من أصحابِ أبي عبد الله المازَريّ، وأجازا له. وحدّث بالإجازة العامّة عن أبي الطاهِر السِّلَفيّ.

رَوى عنه أبو الحَجّاج بنُ موسى بن لاهِيَةَ، وأبو عبد الله ابنُ الأبّار، وحدَّثنا عنه القاضي أبو محمدٍ حَسَنُ ابنُ القَطّان.

وكان أحفَظَ أهلِ زمانِه لأنواع العلوم، بارعًا في النَّحو حاضرَ الذِّكر للآدابِ والتواريخ، شاعرًا مُفْلِقًا، كاتبًا محُسِنًا، مُمتِعَ المُجالَسة حارَّ النادرة سريعَ الجواب، مُبادرًا إلى قضاءِ حوائج إخوانِه، نَفّاعًا بجاهِه، وجالَ في بلاد الأندَلُس وبَرِّ العُدوة شرقًا وغَرْبًا، ودَخَلَ بغدادَ، وأسمَعَ الحديثَ ودرَّس الأدبَ والنَّحوَ حيثما حَلَّ من البلاد، وقَفَل إلى المغرِب ولم يحُجّ. ومن شعرِه مُجِيبًا عن قصيدةٍ نَظَمَها أبو زيدٍ الفازَازيُّ عن المأمونِ أبي العلاءِ إدريس ابن المنصُور، وبَعَثَ بها إلى النَّجم هلالِ بن مُقَدَّم الخلْطِيِّ أحدِ أُمراءِ العرب، وذلك من إشبيليةَ، سنةَ خمس وعشرينَ وخمس مئة، لخبرٍ فيه طُول، مُقتضَبُه: أنّ أهلَ الحلِّ والعَقْدِ من أهل مَرّاكُشَ اقتضَى رأيُهم التَّدْبير الذي كان سببًا في خَرابِ بلدِهم وإبادة مُلكِهم، فرأَوْا خَلْعَ أبي محمد عبدِ الواحد بن يوسُف بن عبد المُؤْمن وتقديمَ ابن أخيه أبي محمدٍ عبد الله بن يعقوبَ المنصور، وتلقَّبَ أبو محمدٍ هذا بالعادل، ثم خَلَعوهُ وكتَبوا إلى أخيه أبي العلاءِ المأمون مُبايعِين، ثم استَبْطأوه فنكثوا عليه وبايَعوا أبا زكريّا يحيى الملقَّبَ بالمعتصِم ابنَ الناصِر أبي عبد الله أخي المأمون، فامتَعضَ المأمونُ لعمِّه أبي محمد ولأخيه العادل ولنفسِه، وجَمَعَ جُموعًا من أصنافِ الخَلْق من عرَب وبَرْبَر مُعظَمُهم هسكُورةُ، وهي قبيلةٌ من قبائلِ البَرْبَر الكائنينَ بشَرْقي مَرّاكُش، واستَنْصرَ بهم وبجَمْع من النَّصارى، وزَحَفَ بالجميع إلى مَرّاكُش، وتقابَلَ بظاهرِها معَ ابن أخيه أبي زكريّا، فكان الظَّفَرُ للمأمون، واستَوْلَى على مَرّاكُش، وقَتَلَ من أكابرِ الدّولة وصَناديدِها في مجلسٍ واحد صَبْرًا أزَيدَ من أربعينَ نَفْسًا، ثم استَحرَّ القَتْل فيمن شَذَّ عن ذلك المجلس منهم ومن قبائِلهم على طبقاتِهم، فقَتَلَ منهم أُلوفًا لا تُحصىَ كثرةً، وكانت فتنة مُظلِمة وحوادثُ شَنيعة لذِكْرِها موضعٌ غيرُ هذا، وإنّما ألمَعْتُ بهذه النُّبذة من ذِكْرِها انجرارًا من إيرادِ قصيدتَي الفازَازيِّ والبَرنامَج؛ فكتَبَ أبو زيدٍ الفازَازيُّ عن المأمونِ إلى أبي النَّجم هلالٍ الخلْطِيِّ يُحرِّضُه على الطاعة:

الطَّعنُ والضَّربُ منسوبانِ للعرَبِ ... بالسَّمْهَريّةِ والهِنْديّةِ القُضُبِ

والحربُ تَبعَثُ منها كلَّ معترَكٍ ... حَفائظًا تترُكُ الأعداءَ في حرَبِ

حازوا الوفاءَ إلى الإقدام وانتَسَبوا ... إلى خِلالِ المعالي كلَّ منتسبِ

تجشَّمَتْ جُشَم نَصْرَ المعدِّ لها ... أسنَى الجوائزِ من مالٍ ومن نَشَبِ

وجاءت الخُلَطُ المشكورُ مَقْدمُها ... كالأُسْدِ تبدو عليها سَوْرَةُ الغَضبِ

خَفُّوا إلى نَصْرِ حزبِ الله واحتَفَلوا ... في عسكرٍ صَخِبٍ أو جَحْفَلٍ لجبِ

كتائب ضاقتِ الأرضُ الفضاءُ بها ... في ظلِّ أَلويةٍ منشورةِ العَذَبِ

فمن صَوارمَ مثلِ النارِ في صُعُدٍ ... ومن سَوابقَ مثلِ الماءِ في صَبَبِ

بحرٌ على البرِّ مرتَج غَواربُهُ ... من فوقِه قِطَعُ الرّاياتِ كالسُّحُبِ

شواهدٌ صَدَقتْ فيهمْ مَخايلُها ... بما لهمْ من صميم الدِّين والحسَبِ

تذكَّروا مِنَنَ المنصُورِ فاعتَرفوا ... لنَجْلِه بعدَ كرَّاتٍ من الحِقَبِ

والفضلُ يبدو على الأحرارِ رَونقُهُ ... وليس يَخفَى على الباقي من العَقِبِ

أمّا هلالٌ فقد أوفَى بذمّتِهِ ... وفاءَ راعٍ لحقِّ الدِّين والأدبِ

رأى الخلافةَ حلَّتْ غيرَ موضعِها ... فأدركَتْه عليها غَيْرةُ العربِ

وقال: لا سِلمَ حتى يستقادَ لها ... من ظُلْم مُستلبٍ أو جَوْرِ مغتصِبِ

وسَلَّمَ الأمرَ للأَوْلى الأحقِّ بهِ ... بالرَّغم من أنْفِ أهلِ الغدرِ والكذبِ

وافتْ مُصرِّحةً بالوُدِّ بيعتُهُ ... طليعةً بجزيلِ النَّصر والغَلَبِ

جَمْعًا لفضلَيْنِ يلقى الحُسْنَيَيْن بهِ ... نَصرُ الكتائبِ في الهيجاءِ والكُتُبِ

صَبْرًا أبا النَّجم صبرًا إنّها قُحَمٌ ... تُجْلَى وتُمحى بفضلِ الله عن كثَبِ

ودُمْ على حالةٍ تَجْني عواقبَها ... أذكى من المِسكِ في أحلى من الضَّرَبِ

وعندَنا لكَ إيثار ومرتبةٌ ... تنحَطُّ عنها مزايا سائرِ الرُّتَبِ

وسوف تلقَى بعَوْنِ الله مَأْثُرةً ... تحظَى براحتِها من ذلك التّعبِ

فقال أبو عبد الله البَرنامَجُ يُجيبُه عنها:

نسَبْتَ شرَّ عَبيدِ العُجْم للعرَبِ ... جهلًا بفضلِ رسُولِ الله والنَّسَبِ

أصِخْ لتسمعَ أنسابَ الذين همُ ... شعارُكمْ في الخطوبِ السُّودِ والنُّوَبِ

كانت عَبيدَ العصا للقُرْمطي فإذا ... وافَى الموفَّقُ لاذتْ منه بالهَرَبِ

حَلَّت محُلَّأةً بيرًا وقد رحَلتْ ... عنها بنو جُشَمٍ من مائها الأَشِبِ

خالتْهمُ الخيلُ رِعيانَ الشِّياه لها ... فلم تَضِرْها وجَدَّتْ بعدُ في الطَّلبِ

لو أعلمَتْ وائلٌ يومًا بدعوتِها ... فيها لَما شربتْ ماءً من القُلُبِ

ونيطتِ الخُلَطُ الرَّذْلَى بهمْ نسبًا ... كأنّها القَبَسُ الصيفيُّ بالذَّنَبِ

فإن تكنْ في الوغَى من طلحةٍ سَلِمتْ ... فذا الموفَّقُ وَصْفًا ليس باللَّقبِ

وليس من رَهَبٍ يُنجيهمُ هَرَبٌ ... ما يَبعَدوا يَقْرُبوا للحَيْنِ والشَّجبِ

أمّا هلالٌ فقد حاقَ المَحاقُ بهِ ... لاقَى الوَبَالَيْنِ من حَرْبٍ ومن حَرَبِ

حلَّ الحضيضَ سقوطًا وهْو مُحترِقٌ ... تحتَ الشُّعاعِ بشُهْبِ الهندِ لا الشُّهُبِ

وغرَّهُ خُلَّبٌ من شاعرٍ مَلِقٍ ... فنال صاعقة لا واكفَ السُّحُبِ

وظلَّ من رُتَبِ العليا على عِدَةٍ ... فالتُّربُ يَعْلوهُ ما يرقَى على الرُّتَبِ

وصار يطمَعُ في مالٍ وفي نشَبٍ ... فصار مُنتشِبًا في بَرْثَنِ النشَبِ

فقُلْ له: لو أراد الخيرَ فازَ بهِ ... الصَّيفَ ضيَّعْتَ جَهْلًا حافلَ الحَلَبِ

لمّا أوَتْ عاصمٌ للدِّين واعتصمَتْ ... بحَبْلهِ نالتِ الدُّنيا بلا نصبِ

فإن يكنْ مُهتدٍ منها بكمْ فكما ... تُلْفَى خلالَ رمادٍ قطعةُ الذَّهبِ

ومَن عصَى منكمُ فالموتُ يَطلُبُهُ ... يُمسي ويُصبُح معدودًا من النَّهبِ

والحقُّ شمسٌ سَناها ليس يَحجُبُهُ ... وإنْ تَراكمَ غَيْمُ الزُّورِ والكذبِ

يحيى خليفةُ ربِّ العالمينَ ومن ... يَجْهَلْهُ يُعْلِمْهُ خطُّ السُّمْرِ والقُضُبِ

نال الخلافةَ عن خُبْرٍ وعن خَبَرٍ ... محقَّقٍ وبإرثٍ من أخٍ وأبِ

اختارَهُ اللهُ فاختارتْه صَفْوتُهُ ... من البَرِيّة، أهلُ الدِّين والحَسبِ

لم يَذْخُروا نُصحَهُمْ للدِّين واجتَهدوا ... ما كان عن رَهَبٍ منهمْ ولا رَغَبِ

ليست بنكثٍ ولا كُتْبٍ قد اختَلفَتْ ... ولا كتائبُ أهل البغيِ والصُّلُبِ

لم ينتصِرْ بالنَّصارى والبُغاةِ على الـ ... ـمُطهَّرِينَ من الأدناسِ والرِّيَبِ

خليفةٌ مرتضًى أنصارُ دعوتِهِ ... أنصارُ أمرِ الهدى الباقي على الحِقَبِ

طعنُ الصُّدورِ وضَرْبُ الهامِ عندَهمُ ... ماءُ الحيا شَبِمًا قد شُجَّ بالضَّرَبِ

قُبْحُ الوغَى عندَهمْ حُسْنٌ وراحتُهمْ ... ما نالهم في اعتلاءِ الدِّينِ من تعبِ

وحرُّ جاحمِها بَرْدُ العشيَّةِ في ... رَوْضٍ عليلٍ نَسيمًا غِبَّ مُنسكبِ

أيا إمامَ الهُدى إنَّ البلادَ لكمْ ... شَرْقًا وغربًا، فنائِيها كمُقترِبِ

وإن يُجادِلْكَ بالمنصورِ ذو جَدَلٍ ... فنَجْلُ نوحٍ ثَوى في قسمةِ العَطَبِ

وإن يقُلْ: هُو عمٌّ, فالجوابُ لهُ: ... عمُّ النبيِّ بلا شكٍّ أبو لهبِ

هل يَمُتُّ بشيءٍ لا تمُتُّ بهِ ... بل زِدتَ فخرًا، ملأتَ الدَّلوَ للكربِ

إذا عصاكَ مُطيعٌ ليس مُنتفِعًا ... يومَ القيامةِ بالطاعاتِ والقُرَبِ

وُيرتَجى العفوُ للعاصي بطاعتِكمْ ... فإنّها سببٌ ناهيكَ من سببِ

أيُمْنَحُ المرءُ والقهّارُ يمنَعُه ... ويوهَبُ الأمرُ والوهّابُ لم يَهَبِ؟!

فدُمتَ للدِّينِ تحميهِ وتحفَظُهُ ... من كلِّ باغٍ وعادٍ عابدِ الصُّلُبِ

مولدُه بقُرطُبةَ سنةَ ستينَ وخمس مئة، وتوفِّي بتونُسَ ضَحْوةَ يوم الأربعاء لثلاثَ عشْرةَ ليلةً خَلَت من جُمادى الأخرى سنةَ تسع وثلاثينَ وست مئة، وصُلِّي عليه إثْرَ العصر ذلك اليوم بالجامع الأعظم، ودُفن بمقرُبة من المُصَلَّى بظاهرِ تونُس.

  • الذيل والتكملة 4/ 314-320(1) .

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق