مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني سورة المسد أنموذجا «الحلقة الثانية والعشرون»

تدبر ما يتعلق بامرأة أبي لهب من السورة:

ولما أخبر سبحانه وتعالى بكمال التَّباب الذي هو نهاية الخسار، وكان أشق ما على الإنسان هتك ما يصونه من حريمه حتى أنه يبذل نفسه دون ذلك لا سيما العرب، فإنه لا يدانيهم في ذلك أحد، زاده تحقيرا بذكر من يصونها معبرا عنها بما صدرها بَازِرًا صورة وأشنعها، فقال مشيرا إلى أن خلطة الأشرار غاية الخسار، فإن الطبع وإن كان جيدا يسرق من الرديء، فكيف إذا كان رديئا وإن أرضى الناس بما يسخط الله أعظم الهلاك[1]، وفي ذلك يقول عز من قائل: « وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد»[المسد: 5-6]، وقوله «وامرأته»؛ أي زوجة أبي لهب، وهي أم جميل أروى بنت حرب بن أُمَيَّة، أخت أبي سفيان بن حرب[2]، وهي عطف على ضمير «يَصْلَى»، سوغه الفصل بالمفعول وصفته، وهي أم جميل، وكانت عوراء، وماتت مخنوقة بحبلها[3]؛ والمعنى: ستصلى امرأته نارا ذات لهب، فهي تعذب مثل عذاب أبي لهب، لأنها كانت مشاركة له في جرائمه ضد رسول الله ودعوته، فقد كانت تحمل الحطب ذا الشوك فتطرحه ليلا في طريق النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء له ولأصحابه، وذكر مجاهد وقتادة والسّدي، أنها كانت تمشي بالنميمة لتفسد بين الناس، ومن المتعارف عليه عند العرب أنهم كانوا يكنون عمن يمشي بين الناس بالنميمة بعبارة حمال الحطب، أي: هو نمام بين بيوت العرب ويستر غرضه من التنقل بأنه يحمل الحطب الذي يجلبه ليبيعه على أصحاب البيوت، ولعلها كانت عادة الحَطَّابِين بين العرب، فصار حمل الحطب كناية عن النَّميمة، وصار يُكنّى عن النّمام بعبارة: حمّال الحطب، وقد كانت نميمة أم جميل هذه وسيلة من وسائل تقطيع الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومقاومة دعوته لشدة عداوتها[4]. و«حمَّالةَ الحطب» قُرِئ بالنصب على الشّتم؛ قال الزمخشري: وأنا استحب هذه القراءة[5]، وقرئ بالرفع على النعت لامرأته، وجاز ذلك لأن الإضافة حقيقته؛ إذ المراد المضي، أو على أنها بدل؛ لأنها تشبه الجوامد بسبب تمحض الإضافة، أو على أنها خبر لمبتدأ محذوف[6]، وقال ابن خالويه: وفي حرف ابن مسعود «مريئته» مصغرا. والعرب تقول: هذه مرأتي وامرأتي، وزوجي، وزوجتي، وحنتي، وطلتي، وشاعتي، وإزاري، ومحل إزاري، وخضلتي، وحرثي؛ قال الشاعر:[7]

إِذَا أَكَلَ الجَرَادُ حُرُوثَ قَوْمٍ /// فَحَرْثِي هَمُّهُ أَكْلُ الجَرَادِ

فحَمَّالَة على وزن فَعَّالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً[8]

وحَطَبَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ: سَعَى بِهِ، وقوله تعَالى في سُورة تَبَّتْ: «وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ»؛ قيل: هو النَّمِيمة؛ وقيل: إِنَّهَا كانت تَحْمِل الشَّوْك، شَوْكَ العِضاهِ، فتُلقِيه على طريقِ سيِّدنا رَسُول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطريقِ أَصحابه، رضي اللَّه عنهم. قال الأَزهري: جاءَ فِي التَّفسِير أَنَّها أُمُّ جَميل امرأَةُ أَبي لَهَب، وكانتْ تَمْشي بالنَّمِيمة؛ ومِن ذلك قولُ الشّاعر:

مِن البِيضِ لَمْ تُصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لأْمَةٍ، /// وَلَمْ تَمْشِ، بينَ الحَيِّ، بالحَطَبِ الرَّطْبِ

يعني بالحَطَبِ الرَّطْبِ النَّمِيمةَ[9]، وجعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ففيه إيغال حسن، وكذا قول الراجز: [10]

إِنَّ بَنِي الأَدْرَمِ حَمَّالُو الحَطَبْ /// هُمُ الوُشَاةُ فِي الرِّضَا وَالغَضَبْ

فهي الحاملة أقصى ما يمكن حمله من حطب جهنم بما كانت تمشي به وتبالغ فيه من حمل حطب البهت والنميمة الذي تحمل به على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم.[11]

التعبير بلفظ المرأة دون الزوجة في سورة المسد:

للمرأة في العرف اللغوي العام والخاص دلالتان: إحداهما: الدلالة على «الأنوثة» المقابلة لـ «الرجولة»، والمقصود بهما هنا: النوع.

والثانية: الدلالة على «الزوجة» وبخاصة إذا أضيفت إلى الزوج، مثل: «امرأة نوح» يعني زوجته أو «زوجه» بدون تاء التأنيث، فهذه الكلمة وردت في لغة القرآن، ولها فيه استعمال خاص، فيه اعتبارات بديعة، لطيفة، حكيمة، هي من سمات إعجاز القرآن البياني اللغوي، فالقرآن يستعمل مفردات اللغة استعمالا «أمثل» لا نجد له نظيرا في كلام البشر، مهما علا حظهم من البلاغة والفصاحة ونصاعة البيان.

وأمثلية استعمال القرآن لمفردات اللغة له خصائص منها كاستعماله الكلمة في موضع لا تصلح له غيرها مهما كان بينهما من تشابه واتصال، وكتوزيع مادة الكلمة الواحدة على منهج بديع، فيستعمل بعض صورها في معنى لا يستعمل فيه صورة أخرى من صورها، وكأن الكلمة الواحدة فيه كلمات بحسب ما تدل عليه، وليست كلمة واحدة، فكلمة امرأة تحمل من سمات الإعجاز القرآني البلاغي اللغوي ما يدعو على الدهش وشدة الإعجاب[12]، ومن عجائب البيان هذه الآيات البينات التي ذكرت فيها لفظة امرأة، وفيها يقول عز وجل:

« وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ»[النساء: 12].

« وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ»[يوسف: 30].

« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا »[التحريم: 10].

« وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ »[هود: 81].

« وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ »[هود: 71].

« وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ »[آل عمران: 40].

« قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا »[مريم: 8].

« فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ »[البقرة: 282].

« وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ »[القصص: 23].

« وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا »[النساء: 128]

من النظر في الآيات التي ذكرناها يتبين:

– أن القرآن يؤثر أن يطلق على زوجة الرجل كلمة امرأة إذا اختلت عرى الحياة الزوجية، أيا كان نوع ذلك الاختلال سواء كان بموت أحد الزوجين كآية الكلالة التي ذكرناها، ومثلها مما لم نذكره، يقول تعالى:

« إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا»[آل عمران: 35].

– أو حدث نزاع بين الزوجين سواء أدى إلى طلاق أو لم يؤد مثل: « وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا »[النساء: 128].

– أو لاختلاف الدين بين الزوجين مثل: « وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ»[هود: 81] لأن امرأة لوط عليه السلام كانت على دين قومها.

– أو كانت العلاقة الزوجية قائمة على دين غير صحيح، مثل ما جاء عن أبي لهب وامرأته «وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب »[المسد: 4] لم يقل: زوجه.

– أو كانت الحياة الزوجية لا إنجاب فيها مثل: «وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا »[مريم: 8]

– أو كانت المرأة غير ذات زوج، مثل ما جاء في ابنتي شعيب: « وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ »[القصص: 23].

أو كان الزواج لا مدخل له في المعنى المراد، مثل ما جاء في الشهادة على الدين: « فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء »[البقرة: 282].

فالشهادة تصح من المرأة سواء كانت ذات زوج أو لم تكن، والسر في هذا أن المرأة أو الزوجة في الحالات التي أشرنا إليها ليست أهلا للوصف بالزوج أو الزوجة؛ لأن معاني الزوج في اللغة الاثنان المضموم أحدهما إلى الآخر، ولذلك سمي الزوج زوجا مضموما إلى زوجته، وسميت الزوجة زوجة مضمومة إلى زوجها، وهذا الضم لا يكون على كماله إلا في حالات الوئام التام، والوفاق الكامل والصفاء الخالص، بين عميدي الأسرة، والعقم سواء كان من الرجل أو المرأة أو هما معا يهز العلاقات الزوجية، ويوهن الروابط بينهما ويعرض اقترانهما للزوال. [13]

منهج القرآن في استعمال كلمتي: «امرأة» و «زوج»:

أولا يطلق القرآن كلمة امرأة في حالة الإفراد على الزوجة إذا أصاب العلاقات الزوجية اختلال كنشوب نزاع بين الزوجين، أو عقم لدى أحدهما أو كليهما، أو اختلاف دين أحدهما عن الآخر، أو حدث تفريق بينهما بطلاق، أو موت، أو وقعت خيانة في العلاقات الزوجية…

كما يطلق كلمة امرأة في الحالات التي لا يكون للوصف بالزوجية علاقة بالمعنى المراد كمقام الإشهاد على الديون أو إرث الكلالة.

ويطلق كلمة زوج إفرادا لا جمعا في كل الأحوال التي لا يعكر صفو الحياة الزوجية فيها شيء، طبيعيا كان أو مكتسبا كالعقم واختلاف الدين.

في حالات الجمع يؤثر كلمة أزواج دون امرآت جمع امرأة، لأن هذا الجمع غير مستعمل لغة فضلا عن ثقله وخشونة جرسه.

قد يؤثر كلمة زوج إفرادا في بعض حالات النزاع المكدرة لصفو الحياة الزوجية لعدم الاعتداد بالنزاع ولمطابقتها لمقتضى الحال.[14]

وبناء على ما سبق فإن إيثار كلمة المرأة عل الزوجة لما في ذلك من مزيد تحقير مستفاد من المقام، فلفظ الزوجية يشعر بالتكريم والمودة والمحبة، وليس المقام هنا مما يقتضي ذلك، بل المقام يستدعي التحقير والإهانة، كما أن العلاقة الرابطة بين أبي لهب وامرأته ليست قائمة على أسس صحيحة ولا قواعد متينة ناشئة من دين صحيح، وأما سر وصفها بهذا الوصف فمن تحقيرها وتخسيسها وتصويراً لهَا بصورةِ بعضِ الحطاباتِ من المواهنِ لتمتعضَ من ذلكَ ويتمعضَ بعلُها وهُما في بيتِ العزِّ والشرفِ.[15]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 8/573.

[2] معارج التفكر ودقائق التدبر، الميداني، 1/388.

[3] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 8/441.

[4] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/389.

[5] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، 4/810.

[6] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/441-442.

[7] إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، ابن خالويه، ص: 224،  مطبعة دار الكتب المصرية (1360هـ -1941م).

[8] تفسير البحر المحيط، أبي حيان الأندلسي، 8/527، دار الكتب العلمية – لبنان/بيروت – 1422 هـ – 2001 م، الطبعة : الأولى.

[9] لسان العرب، ابن منظور،  1/322 – 323، دار صادر بيروت، الطبعة: الثالثة- 1414هـ.

[10] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، 15/500، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ.

[11] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 8/574.

[12]  دراسات جديدة في إعجاز القرآن الكريم [مناهج تطبيقية في «توظيف اللغة»]، المطعني عبد العظيم، ص: 160، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى: 1417هـ/1996م.

[13] نفسه، 162-163.

[14] نفسه، 166-167.

[15] تفسير أبي السعود ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى، 9/211، دار إحياء التراث العربي بيروت.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق