مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكأعلام

الحافظ أحمد بن يوسف الفاسي

الدكتورة: فاطمة نافع

أستاذة التعليم العالي كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس

حفل تاريخ المغرب الأقصى بوجود أعلام وعلماء كان لهم الأثر البين في نمذجة البناء الثقافي والعلمي المغربي، من خلال إسهامهم في التشكيل العقلي والذهني للمكون المجتمعي، وذلك عبر ممارساتهم المعرفية، وإنجازاتهم العلمية، وتمفصلهم ضمن شريان العملية التعليمية التعلمية، وتبنيهم للمواقف المسؤولة اتجاه قضايا البلاد.

ونتحدث في هذا الإطار عن العالم أحمد بن يوسف الفاسي، أحد رجال القرن الحادي عشر الهجري /السابع عشر الميلاد، وذلك باستحضار الأبعاد التي نحتت مكانته في المشهد التاريخي المغربي.

  الأرومة والمحتد:

ينحدر الحافظ أحمد بن يوسف الفاسي، من أرومة بني الجد من أهل الأندلس، انتقلوا إلى فاس في حدود 880 هـ . و يورد عبد الحفيظ الفاسي في كتابه ” معجم الشيوخ” قوله : « مرجع بيتنا الفاسي إلى بني الجد، الذين كانوا في جزيرة الأندلس من ذرية ذي الوزارتين أبي زكرياء يحي بن فرج بن الجد… ثم من ولد حفيده عالم الأندلس وخطيبها وحافظ المحدثين، وإمام الفقهاء بها، الإمام المتبحر النظار أبي بكر محمد بن يحيى ذي الوزارتين المذكور».1

ويتحدث عن توطن أسلافه قائلا :

« وكانت مساكن أسلافنا الأول القيروان وقرطبة، ثم انجلوا عنهما إلى لبلة من أعمال اشبيلية، ثم انتقل بعضهم إلى مالقة و البعض  إلى اشبيلية، ثم خرجوا منها حين استولت اسبانيا عليها سابع وعشرين من شهر رمضان سنة 646هـ ، فانحاشوا إلى رهطهم بمالقة، ومنها انتقلوا إلى فاس، في حدود سنة 880 هـ .»2

وأول من حل منهم بفاس عبد الرحمان بن أبي بكر محمد الحفيد مع أخ له، وأنجب عبد الرحمان ولدا أسماه: أبا الحجاج يوسف الذي اشتغل بالتجارة، ولتردده في تجارته على القصر من فاس غلب عليه لقب الفاسي، وهو أول الحاملين لهذا اللقب، وجرى على بنيه من بعده.

فلما توفي أبو الحجاج يوسف بالقصر سنة 920هـ، خلف عقبه بها، ثم انتقل حفيده أبو المحاسن يوسف إلى فاس واستقر بها، وعنه تفرعت الشجرة الفاسية بفاس والقصر الكبير وتطوان.3

إلى هذا المحتد ينتسب أحمد بن يوسف الفاسي. وقد كانت ولادته بالقصر الكبير وبه نشأ وتلقى تعليمه الأولي، ثم استوطن فاس مع والده أبي المحاسن.

وفي تحليته يقول عبد الله الفاسي في كتابه، ” الإعلام بمن غبر من أهل القرن الحادي عشر” :  « الحافظ الأكبر، والبحر الأزخر، والعالم العامل المتقن الأشهر، والجهبذ الذي فضله أكثر من أن يحصى، وعلمه أشهر من أن ينكر»4.

ووصفه شقيقه محمد العربي الفاسي، في مصنفه ” مرآة المحاسن”،  بأنه: « كان بحرا من بحار العلم… غزير الحفظ، ثاقب الفهم، متفننا في أنواع العلوم، مشاركا فيها أحسن مشاركة. »5

ووسمه محمد مخلوف في كتابه، ” شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ” بقوله : « الإمام الفقيه العلامة، المتفنن في العلوم الفهامة، العالم العامل، الولي الكامل».6

وكلها شهادات تعكس الحضور العلمي للمترجم، ومشاركته في أنواع  المعارف التي عاصرها.

 التعاطي العلمي :

تميز المسار العلمي لأحمد الفاسي بالحرص على تحصيل واكتساب المعرفة بموازاة العمل على إنتاجها .

فقد رحل إلى فاس صحبة عمه أبي محمد عبد الرحمان، في سبيل طلب العلم، وسكنا معا بمدرسة الصفارين. ثم اتصل بأعلام المدينة، وأخذ عن جلة منهم. فأخذ العربية عن العلامة أبي عبد الله محمد بن يوسف الزياتي، وعن شيخ المقرئين والنحاة أبي العباس أحمد القدومي، كما أخذ أصول الفقه والبيان عن الشيخ أحمد بن علي المنجور. وأخذ الفقه عن الشيخ أبي زكرياء يحي بن محمد السراج، وعن الشيخ قاضي الجماعة أبي مالك عبد الواحد الحميدي. وقرأ المنطق على الشيخ أبي القاسم بن سودة، وتتلمذ على غير هؤلاء المشايخ. ثم لازم الشيخ محمد القصار فأخذ عنه الموطأ والصحيحين وغيرها من الكتب الحديثية، وأجازه إجازة عامة، كما أخذ عن والده علم الأصول والتفسير والحديث7.

ونظرا لمثابرته الحثيثة أصبح أحمد الفاسي متضلعا في علم الحديث ومن المرجوع إليهم في هذا الأمر، حتى نال درجة الحافظ، وهو ما أشار إليه عبد الله كنون، في مصنفه ” النبوغ المغربي”: «وطلب الحديث بفاس فبرز فيه حتى كان يحفظ أحاديث الصحيحين جميعها، ويستحضر ما اتفقا عليه، وما انفرد به أحدهما عن الآخر، وما خالف في متن أو سند. فكانت نسخ البخاري ومسلم تصحح من حفظه. وضم إلى ذلك المعرفة البليغة بالرجال والعلل، وكل ما هو من وظيفة المحدث، وبوصف ديانته الكاملة أيضا صح أن يطلق عليه الحافظ الضابط الثقة”8

وهو نظير ما ذهب إليه شقيق المترجم محمد العربي الفاسي، في شرحه على نظمه في الاصطلاح، حيث يقول: «كان إمام وقته بعد القصار في الحديث … وجد في الطلب مع قوة الحفظ وتوقد الذهن، إلى أن صار نسيج وحده لا يدرك في ذلك شأوه، وكان لا يشذ عنه شيء من حديث الصحيحين»9.

لذلك عد أحمد الفاسي أحد الحفاظ المغاربة الثلاثة في أوانه. فمحمد بن أبي بكر الدلائي حين تحدث عن حفاظ عصره ومحدثي زمانه، قال: «حفاظ المغرب ثلاثة: حافظ ضابط ثقة وهو أحمد بن يوسف الفاسي، وحافظ ضابط غير ثقة وهو أحمد المقري، وحافظ غير ضابط ولا ثقة وهو عبد الله بن علي بن طاهر الحسني».10

واتساع عارضته في الحفظ، وفي اكتساب العلوم، أهله لتأليف عدد من المصنفات، في مشارب شتى، أورد جلها أبو حامد الفاسي، في”مرآة المحاسن”، يذكر: « وصنف كتبا مفيدة، منها شرح الشريشية في السلوك، ومنها شرح ” عمدة الأحكام ” للحافظ عبد الغني المقدسي، وله جزء في الكلام على ليلة النصف من شعبان، سماه:  «الدرر الحسان في الكلام على ليلة النصف من شعبان»،  بين فيها حكمها فقها وحديثا. وله جزء في الكلام على الذكر جماعة، وله حاشية على شرح الصغرى للسنوسي، وله جزء في وزن الأعمال وتكفير السيئات بالأعمال الصالحات، وله جزء في أولاد المشركين، وجزء في السماع وما يتعلق به» 11، وتأليف المنح الصافية في الأسانيد اليوسفية12،  وتأليف في أسانيد الشيخ أبي بكر الدلائي.13

وشرع في تصنيف كتب أخرى منها حاشية على صحيح مسلم، كتب منها جزءا

 وله أجوبة مطولة ومختصرة، وتقاييد جمة14 .

وإلى جانب تعاطيه للتأليف فقد تصدر للتدريس، وتخرج على يده عدد من الأعلام. يذكر صنوه، في ”مرآة المحاسن”: «وكان …له مجلس لقراءة الحديث والفقه وغيرهما، وكان دائم المطالعة، كثير المذاكرة، و درس في أنواع العلوم، ونفع وأفاد وقيد كثيرا».15

كما ذكر الإفراني في كتابه “صفوة من انتشر”: « كان مجلسه غاصا بالأكابر وأعيان الطلبة، وإذا تكلم أنصتوا له… »16

وفي ”غاية أولي المجد”، للمولى سليمان: «أخذ عنه جماعة وافرة من الأشياخ المعتبرين… » 17

وهذه النصوص معطيات تبين حركة الحافظ أحمد الفاسي الدائبة في تأطير وتشكيل المخزون الثقافي المغربي، ومساهمته إلى جانب علماء فاس في تخريج طاقات علمية كرست بدورها الاستمرارية المعرفية.

البعد الوجداني:

كان أحمد بن يوسف الفاسي متشبعا بالروح الصوفية، لا غرو فهو سليل بيت ولاية و صلاح، نشأ في أحضان الزاوية الفاسية، وفي حجر والده الشيخ أبي المحاسن يوسف الفاسي، حيث تلقى مبادئ علم التصوف، وكان والده عمدته في الطريق.

ويخبر صاحب” مرآة المحاسن”: « كان أبو العباس بحرا من بحار العلم وجبلا من جبال الدين، متحققا بالعرفان وعلوم أرباب القلوب، واسع المعرفة بطرق القوم ومذاهبهم، حسن الكلام عليها، عارفا بمآخذ الصوفية من الكتاب والسنة مستحضرا لها…، صادق اللهجة، معروفا بالصدق منذ الصبا، كثير التهجد مقسما لليل، كثير النظر في ملكوت السماء، لا يطلع الفجر إلا وهو يرقبه، كثير التلاوة والذكر والنوافل والأوراد، حريصا على نصح الخلق وهدايتهم ونفعهم»18.

ويذكر القادري في ”نشر المثاني”: «وقرأ على والده الشيخ أبي المحاسن كتب التصوف.. »19.

والأمر نفسه أورده ليڤي بروڤنصال، قائلا: « وأخذ عن والده التصوف فأشرقت عليه أنوار اليقين»20.

وكلها دلالات على الدائرة الصوفية التي نسجت خيوط البعد الوجداني للحافظ أحمد الفاسي. ولعمق هذا البعد لديه، نجده يلتقي بالشيخ عبد الرحمان المجذوب. ويقوم بزيارة الشيخ أبي بكر الدلائي في زاويته بالدلاء ترسيخا للوشائج الروحية بين الزاوية الفاسية والزاوية الدلائية.

   موقفه من تسليم العرائش :

كان الحافظ أحمد بن يوسف الفاسي من ضمن العلماء الذين فروا من مدينة فاس، لدى استصدار الشيخ المامون السعدي لفتوى يطالب فيها بتجويز تسليمه مدينة العرائش للإسبان.

ذلك أنه بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي السلطان السعدي، احتدم الصراع بين أبنائه، حول من يتولى العرش، ونجم عن ذلك اشتباكات عسكرية بين الإخوة زيدان وأبي فارس والشيخ المامون. فلما انهزم هذا الأخير أمام إخوته، فر إلى العرائش ومنها عبر البحر إلى إسبانيا مستنجدا بملكها، للوقوف ضد من ينازعه الحكم.

وطلب المامون من الملك الإسباني أن يمده بالمال والرجال مقابل أن يترك أبناءه رهينة عنده. لكن الملك الإسباني لم يرض بهذه الصفقة، و اشترط بدلها أن  يتنازل له عن مدينة العرائش مقابل الإمدادات العسكرية.

فعاد الأمير السعدي إلى المغرب و أخلى مدينة العرائش من سكانها قسرا، وسلمها للإسبان في 4 رمضان 1019ﻫ /1610م.

ولما خاف من إنكار العامة والخاصة لهذا الإجراء الذي أقدم عليه، كتب سؤالا لعلماء فاس يذكر لهم فيه أنه لما حل بإسبانيا صحبة أبنائه منعه الإسبان من الخروج حتى يتنازل لهم عن العرائش، وأنه لما رفض هذا العرض، أخذوا أبناءه رهينة حتى يمكنهم مما أرادوا. فهل يجوز أن يفدي أولاده بإعطائها لهم أم لا ؟

فأجابه بعض العلماء بالإيجاب خوفا على أنفسهم. و فر جماعة منهم خارج مدينة فاس، حتى لا يفتوا في واقعة مست حرمة أرض المسلمين .

وهذا الموقف يبرهن على أن علماء المغرب لم يكونوا بمعزل عن قضايا البلاد، بل كان رأيهم مفصليا في الحوادث التي طبعت مسارها التاريخي.

وكان الحافظ أحمد بن يوسف الفاسي من بين العلماء الذين غادروا مدينة فاس استبراء لدينهم من أن يصدروا هذه الفتوى التي تخول للإسبان الاستحواذ على جزء من التراب المغربي.

فرحل المترجم صحبة شقيقه أبي حامد العربي الفاسي بمعية أهليهم، وخرجوا إلى البوادي ، قاصدين بوزيري من بلاد مصمودة، و نزلوا بمنزل الشيخ عبد الرحمان المجذوب، حيث لبثوا هنالك بعيدا عما شهدته فاس من وقائع .

ولم يلبث الحافظ أحمد الفاسي طويلا، حيث أصيب بمرض مصاحب بحمى لزمه إلى أن توفي في 21 ربيع الثاني سنة1021ﻫ ببوزيري، ودفن بموضع يسمى المنيزلة بالروضة المنسوبة لمحمد السبع بن الشيخ عبد الرحمان المجذوب. وصلى عليه شقيقه علي بن أبي المحاسن وجم غفير من سكان القبائل المجاورة.

والوقوف عند ترجمة هذا العلم من أعلام الحاضرة الفاسية الذين ساهموا في مسارها  العلمي خلال القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي، يأتي في سياق الحفاظ على الذاكرة الجمعية من أن تصيبها  آفة  النسيان،  فتتنكر لأبنائها وأعلامها الذين كان لهم نصيب في إذكاء الروح المعرفية داخل النسيج المجتمعي المغربي.

الهوامش:


1  – عبد الحفيظ الفاسي، معجم الشيوخ / ص : 21

2  –  عبد الحفيظ ، معجم: 22

3  – نفسه ، ص 23 .

4 – عبد الله الفاسي ، الأعلام بمن غبر ، ص :96 .

5  -محمد العربي الفاسي ، مراة المحاسن ، ص : 317

6  – محمود مخلوف ، شجرة النور الزكية ، المجلد الأول، ص : 430.

7 – انظر المولى سليمان ، عناية اولي المجد ، ص : 23 . ومحمد العربي الفاسي، مراة المحاسن، ص : 318 و 319 .

 8 -عبد الله كنون النبوغ المغربي، الجزء الاول، ص : 248 .

9 -انظر عبد الحي الكتاني، فهرس الفهارس، الجزء الثاني، ص: 603 .

10 – محمد حجي، الزاوية الدلائية،  ص : 82-83.

11  – محمد العربي الفاسي، المصدر السابق، ص: 321.

12  – ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، ص: 171.

13  – حجي، الزاوية الدلائية، ص 67.

14  – العربي الفاسي، المصدر السابق، ص: 321.

15  – نفسه، ص :320.

16   -الإفراني،صفوة،حي:105.

17  – المولى سليمان، عناية أولى المجد،ص:24.

18  – العربي الفاسي ،مرآة، ص: 317-318.

19 – القادري، نشر المثاني، الجزء الأول، ص: 162.

20  – ليڨي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء،ص:170.

الدكتورة فاطمة نافع

-أستاذة بشعبة التاريخ ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق