مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويتراث

المحضرة في العرف الثقافي والعلمي في الصحراء المغربية

تعتبر المحضرة من أبرز معاقل العلم في الصحراء المغربية، وقد استطاعت تحقيق نهضة علمية ثقافية نموذجية تحت الخيام، في ظل غياب مدارس ومؤسسات تعليمة، وتعتبر صرحا لتكوين الأجيال وتشبعهم بالهوية الدينية والثقافية في ظروف الترحال والتنقل المستمر، والمحضرة هي بمثابة مدرسة متنقلة، ترافق الفريك في ترحاله، ويدير حلقات الدراسة ومجالسها داخل المحضرة رجل ذو بسطة في العلم يسمى “المرابط”، فكانت المحضرة أداة لنشر العلم والمعرفة وإرساء أسس الدين، ونشره وفق مذهب مرن ومعتدل،  وقد تخرج منها ثلة من علماء أفذاذ…

لم يكن التعليم غائبا لدى المجتمع البدوي المستوطن لمنطقتي الساقية الحمراء ووادي الذهب رغم الظروف الطبيعية القاسية وطبيعة نمط العيش القائم على الترحال والتنقل، فقد ظل التعليم مرافقا لقبائل الصحراء من الرحل، إذ حرصت هذه الأخيرة على تلقين أبنائها منذ نعومة أظافرهم حفظ القرآن وتعلم أحكام الدين وقواعد اللغة العربية، وفي هذا المجال لعبت “الحضرة” ، كمدرسة متنقلة، دورا مركزيا مهما في مجال التربية والتربية والتعليم لدى مجتمع الغرب الصحراوي، فعلى غرار المحضرة الشنقيطية التي ذاع صيتها في العالم العربي الإسلامي، كاشتهرت كذلك بمحاضر الجنوب المغربي بدورها التعليمي والثقافي والاجتماعي والديني، بالرغم من تفاوت الحضور العلمي والأدبي بينهما وبين المحاضر الشنقيطية[1]..

معنى المحضرة:

والمحضرة أو المحظرة، تنطق بالعامية الشنقيطية بالظاء المعجمة، وقد كان الشناقطة أهل البدو يحتظرون فيحيطون منازلهم ومرابض أغنامهم، ومراح أبقارهم ومعاطن إبلهم، بأسيجة من أغصان وجذوع الشجر، وكان الطلبة يتوافدون من كل حدب وصوب إلى الشيخ، فيحضرون مجلسه وينهلون من عمله[2].

وبخصوص معنى هذه التسمية يذكر الخليل النحوي ” …وكان الطلبة ينسلون من كل حدب وصوب إلى شيوخ العلم، فيحضرون دروسهم ومجالسهم أو محاضراتهم”، وقد اختلفت الآراء حول أصل اشتقاق الكلمة، فذهب رأي أنها مشتقة من الحضور لتواتر حضور طلاب العلم ولزومهم حضرة الشيخ، ومال رأي ثان إلى أنها مشتقة من الحظيرة لتشابه في طبيعة مكونات البناء كالحشيش وأغصان الشجر…، فيما يذهب رأي ثالث إلى أن أصل الكلمة مشتقة من الحظر، بمعنى المتجسد في أخلاقيات الطالب المحضري، مراعاة للمحضور الشرعي واقتضاء لحرمة العلم وأهله[3]..

تاريخ نشأة المحضرة:

يؤرخ الخليل النحوي بداية النشاط المحضري بتأسيس رباط عبد الله بن ياسين حوالي سنة 431هـ – 1039م ، فقد اعتبر هذا الرباط محضرة وفقت في جعل الفقه بأمور الدين زادا ووقودا وسلاحا للمجاهد إذا قوى العلم بالدين، ويعرفنا أكثر بهذه المؤسسة التي اعتبرها إحدى مؤسسات التربية العربية الإسلامية الأصلية، فهي جامعة شعبية بدوية متنقلة، فردية التعليم، طوعية الممارسة[4].

ويعرفها المختار محمد موسى، وكذا محمد محفوظ بنفس المواصفات مع التركيز على أن الشيخ الذي يتولى التدريس بها يقوم بالسهر على طلابه أخلاقيا وأدبيا وربما ماديا[5].

وتعيش المحضرة ماعاش شيخها، ولكنها لا تموت إذا مات، وإنما تورث من بعده، يرثها أبناؤه وطلبته الذين تخرجوا على يده، فينشئون محاضر لا محضرة واحدة، إلا أن المؤسسات الجديدة تحمل أسماء شيوخها الجدد، فتبدو وكأنها مؤسسات وليدة، وما هي في الواقع إلا استمرار لمحضرة الشيخ الذي قضى نحبه[6].

وبديهي أن عمر محضرة الشيخ هو عمره العلمي والعملي الذي ينصرف فيه إلى بث العلم ونشره، لكن جل الشيوخ لا يتقاعدون حتى يدركهم الموت أو يحسبهم عن التدريس مرض عضال، ومنهم من ينتصب للتدريس في سن العشرين أو قبل الثلاثين، فإذا عمر عمرت المحضرة معه[7]..

وقد تابع المستشرقون باستغراب الأعداد الكبيرة للطلاب، التي تأتي من كل حدب وصوب في ظروف قاسية، يقطع الطلاب في سبيل تحصيل العلم، تحت خيمة لا تقيهم برد الشتاء ولا تكف عنهم حرارة الصيف، وأيضا شيخ المحضرة الذي يسخر وقته ويبذل كل الجهد لتعليم وتكوين علماء أفذاذ[8]..

أدوات المحضرة:

اللوح : يصنع اللوح الذي يكتب عليه الطلاب من الأخشاب الصلبة الغليضة، وهو عبارة عن قطعة خشبية مستطيلة أو طويلة أو هرمية الشكل، يختلف حجمها حسب مستوى الطالب في الدراسة والمواد المفروض تلقينها، وغالبا ما يتكلف الصانع “الملعم”، المرافق للفريك بصناعتها للطالب، وتصنع عادة من أخشاب “تيشط” أو “أورورا”، فويؤدي عنها ولي الطالب حسب المواد المستهلكة، ويوم يحمل فيه الطالب لوحه هو يوم مميز من حياته فيقال: “رفد اللوح” ، أي بدأ الدراسة[9].

القلم : ويصنع غالبا من أعواد جريد النخل أو “السبط” أو ” الحلفاء” أو “التمام”، يكون طوله مادون الشبر، وقد يملك الطالب أكثر من قلم واحد، ويأخذ في التدرب على الكتابة على اللوح بنفسه بعد أن يكون قد تدرب على الخط باستخدام قلم جاف يتتبع به كتابة شيخه أو من “ينقش له”، من طلبة المحضرة الذين يرشمون له نموذجا يحاكيه[10].

المداد : وغالبا مايكون باللون الأسود ويصنع من العلك” الصمغ العربي” ، والسكر أحيانا، والحديد وأوراق الشجر بحيث يترك الخليط حتى يختمر، ويسمى “الصمغة”، ثم يوضع في المحبرة ” الدواة” ، المجهزة بالصوف لتصفيته من الشوائب[11]..

الدواة : هي عبارة عن حجر يثقبه الصانع خصيصا لاستعمال المداد.

الأوراق : من خلال الاطلاع على تراث محضرة أهل أبا حازم المكتوب، يبدو أن المحضرة استفادت من قربها من المركز التجاري “واد نون”، في الحصول على الورق المجلوب من مدن الشمال أو الجنوب[12]..

أقسام المحضرة:

ويمكن تصنيف المحاضر إلى نوعين :

محاضر متخصصة : مثال محاضر تجكانت تخصصت في علوم القرآن، وتعتبر محضرة أهل أبا حازم بالساحل والصحراء امتدادا لها منهجا ونسبا، ومحاضر أهل محمد سالم تخصصت في الدراسات الفقهية، وهي امتداد لمحاضر “مدلش”، المتخصصة في السيرة النبوية، وتخصصت محضرة لحسن بن الزين في اللغة والنحو والصرف. [13]

المحاضر الموسوعية : فهي التي يدرس فيها الطلاب عدد من العلوم، كالقرآن والتجويد والتفسير  والفقه والحديث والمصطلح والعقيدة والتصوف والسيرة والتاريخ والأنساب والنحو والصرف والبلاغة والعروض والآداب والمنطق وأسرار الحروف والحساب والهندسة والجغرافيا والفلك والطب. [14]

بعض علماء المحضرة أنموذجا :

لقد كان رسل المحضرة دعاة إلى الله مربين، يلتف حولهم العلماء وطلبة العلم إعجابا بما أوتوا من ملكة الحفظ والرواية والدراية، كان لهذه المؤسسة التعليمية الدور الأكبر في نشر الإسلام في إفريقيا الغربية، وقد أشاد بذلك العديد من الباحثين الأجانب.

وسنقف على نماذج تؤكد ذلك من خلال عدة فترات تاريخية :

العصر الوسيط : لقد عم الإسلام السني بلاد الملثمين في أواخر القرن 4هـ، وبداية القرن 5هـ، الموافق 10م، وبداية القرن 11م، مع مجيء عبد الله بن ياسين، تميزت دعوة هذا الأخير بكونها تطبيق لآراء الفقيه أبي عمران القاضي، وعليه صوب طموحه لمواجهة واقع التجزئة التي تعاني منها منطقة الغرب الإسلامي ككل، بعد انتهاء فترة الزناتيين تحت شعار ديني هو الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك وفق مذهب مالكي[15]

العصر الحديث : شكلت حركة ناصر الدين في ق 11هـ  17/م، مبادرة قادتها قبائل “الزوايا”، مقتدية بالتجربة المرابطية، ويروى أن هذه الحركة بنيت على أربعة مبادئ أخلاقية هي: التمسك بالقرآن ، صيانة الكرامة، العدل، مكارم الأخلاق، وقد تبعت أسلويا دعويا قائما على البدء بالدعوة في صفوف المقربين، ثم استقطاب الأتباع والمريدين من المناطق المجاورة[16]..

العصر الحديث : يعتبر الشيخ ماء العنين من أهم علماء الأمة الإسلامية المجددين في ق 19م، استقر أول الأمر بصحراء تيرس ثم بعدها بأرض الساقية الحمراء، …والتف حوله الآف من الأتباع والمريدين جاؤوا للتفقه في الدين، وقد حدد الشيخ ماء العينين ثلاثة مداخل لتحقيق ذلك…وفي محضرة الشبخ ماء العينين درس الأمير سيد أحمد ين سيدي أحمد ولد عيدة، لمدة خمس سنوات، وبعد عودته إلى أهله ببلاد شنقيط، قاد علميات الجهاد ضد الفرنسيين[17]

ولعل تلك أبرز سماتها المميزة، وحين نقول بدوية فإننا لا ننكر ما كان للحواضر من إشعاع ثقافي، فقد احتضنت المحاضر أول أمرها، ومنها انطلقت وفيها تعيش إلى اليوم وإن شاخت، ولكننا نرمي إلى إبراز حقيقة تاريخية، هي أن المحاضر ازدهرت وانتشرب وتبلورت شخصيتها في رحاب البادية، لا في المدن…وليس لمؤسسة هذا شأنها أن تكون قارة ثابتة، بل هي حالة مترحلة متقلبة، تقلب البدو في منتجعاتهم ومسارح إبلهم وأبقارهم[18]..

[1] – دعوة الحق – التعليم العتيق بالصحراء- مقال الأستاذ محمد سبى عدد 400 يونيو 2011م.

[2] – المحظرة الشنقيطية في دفاتر المستشرقين ص 194 دراسات إستشراقية العدد 15 – – 2018م.

[3] – مجلة العلماء الأفارقة  – العدد الأول – ص 243  أكتوبر 2019م.

[4] – مجلة العلماء الأفارقة  – العدد الأول – ص 243  أكتوبر 2019م.

[5] – مجلة العلماء الأفارقة  – العدد الأول – ص 243  أكتوبر 2019م.

[6] – بلاد شنقيط المنارة والرباط ص 152  طبعة 1987م تونس.

[7] – بلاد شنقيط المنارة والرباط ص 152  طبعة 1987م تونس.

[8] – المحظرة الشنقيطية في دفاتر المستشرقين ص 194 دراسات إستشراقية العدد 15 – – 2018م.

[9] – دعوة الحق – التعليم العتيق بالصحراء- مقال الأستاذ محمد سبى عدد 400 يونيو 2011م.

[10] – دعوة الحق – التعليم العتيق بالصحراء- مقال الأستاذ محمد سبى عدد 400 يونيو 2011م.

[11] – دعوة الحق – التعليم العتيق بالصحراء- مقال الأستاذ محمد سبى عدد 400 يونيو 2011م.

[12] – دعوة الحق – التعليم العتيق بالصحراء- مقال الأستاذ محمد سبى عدد 400 يونيو 2011م.

[13] – دعوة الحق – التعليم العتيق بالصحراء- مقال الأستاذ محمد سبى عدد 400 يونيو 2011م.

[14] – دعوة الحق – التعليم العتيق بالصحراء- مقال الأستاذ محمد سبى عدد 400 يونيو 2011م.

[15] – مجلة العلماء الأفارقة  – العدد الأول – ص 246  أكتوبر 2019م.

[16] – مجلة العلماء الأفارقة  – العدد الأول – ص 246  أكتوبر 2019م.

[17] – مجلة العلماء الأفارقة  – العدد الأول – ص 246  أكتوبر 2019م.

[18] – بلاد شنقيط المنارة والرباط ص 55  طبعة 1987م تونس.

ذة. رشيدة برياط

باحثة بمركز علم وعمران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق