وحدة الإحياءدراسات عامة

الاستنباط من المصادر الإسلاميَّة.. استنباط مصداقيَّة السُنَّة من الكتاب وما يتبعه من استنباطات داخليَّة تختص بالسُنَّة

الاستنباط هو منهج ينتقل فيه الذهن من القوانين إلى الظواهر، بعكس الاستقراء الذي ينتقل فيه الذهن من الظواهر إلى القوانين؛ وهو حَمْليٌّ إذا كانت مقدِّماته مسَلَّمات نهائيَّة، أو فرضِيٌّ إذا كانت مقدِّماته مسَلَّماتٍ مؤقتة.

للاستنباط Deductive على أساس من ذلك صفة متعاليَّة على التجربة بوصفها مُتغيِّراً ضمن سلسلة من وقائع المتغيِّرات، ونستطيع أن نقول إن ما هو استنباطي يصلُح أن يكون ناظماً يَنقِل شموليَّة نموذجه إلى التغيرات التي يتعدَّل بواسطته انحرافها، خاصَّةً في علم السلوك من المنظور الديني.

والمصدران الإسلاميَّان الأساسيَّان هما: القرآن، والسُنَّة، وسوف نقوم في هذا البحث بمُقاربةٍ تحليليَّةٍ قد تكون قديمةً جديدةً في آنٍ واحد.

وهذه المُقارَبة هي استنباط مصداقيّة مصدر من مصدر آخر. وهو أمر صار مُلحَّاً وضرورياً منذ أن تجاوزت بعض الأصوات العالية نداءها المشروع بغربَلِة السُنَّة؛ أي “من الإسرائيليات، والأساطير، والمقولات واضحة الاختلاق” على ندائها بنَبذ السُنَّة حديثاً، وفعلاً، والتشكيك في صوابها استناداً إلى مزاعم متهافتة تتصل بالمعياريَّة، وعدم كفاية شروط السلامة من إسناد، وجَرح، وتعديل، وعرض للأحاديث والأفعال على بعضها البعض، وشروط مراعاة السياق والمناسبة…

القوانين

  1. الرسول، صلى الله عليه وآله وسلّم، هو الإنسان الكامل المعصوم، وهو الواسطة بين الله تعالى وعباده، ولذلك فقد مثَّل “النموذج” الذي ينبغي على الجميع إدراك منهجه قولاً وفعلاً، وفهم هذا المنهج، واستبصاره؛ للعمل على هُداه بقدر الطاقة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن: 16)، وقد عبَّر هذا القانون عن نفسه في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(الأحزاب: 21).
  2. قول الرسول، صلى الله عليه وآله وسلّم، أو فعله: إما أن يكون عن وحي كما في هذا النَمَط الخطابي في قوله، صلى الله عليه وسلّم: “أتاني جبريل فقال لي…” أو “أُلقى في رَوعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي أجلها…” أو “إن الله تعالى يقول كذا، أو يفعل كذا…” وما شابه ذلك، وإما أن يكون عن رأي كما في واقعة تأبير النخل، أو أن يكون عن سجيَّة وطبع كما في “الشمائل” مثل أنه، صلى الله عليه وسلّم، كان لا يحب الطعام الحارّ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلّم، كان يحب النظر إلى الخُضرة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلّم، كان أحب الطِيب إليه الفاغيّة… الخ. فإن كان عن وحي فهو سُنَّة مُلزِمة، وإن كان عن رأي أو سجيَّة وطبع فيحتمل الصواب والخطأ والاستحسان وغير الاستحسان.
  3. الأمر والنهي الشرعيَّان على لسانه صلى الله عليه وآله وسلّم، مُلزِمان؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: 7).
  4. الطاعة لا تتجزَّأ أبعاضاً، فطاعة الرسول هي طاعة الله بعينها؛ لقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (النساء: 79).
  5. الاتباع طريق إلى محبة الله تعالى؛ لقوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (آل عمران: 31).
  6. الله سبحانه وتعالى، هو صاحب الحق الوحيد في تنبيه النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، إلى تمام حق القول والفعل لو حدث من الهفوات، أو الهنَّات ما قد ينال قليلاً من حقيقته، كما قال في عتابه تعالى له بصدد واقعة انصرافه عن الأعمى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (عبس: 1-4)، فهو تعالى أعلم به، وأقرب إليه، إذ أدَّبه كما قال، صلى الله عليه وسلّم: فأحسَنَ تأديبه.

الظواهر

  1. ظاهرة الهيئة.
  2. ظاهرة العدد.
  3. ظاهرة العلائق.
  4. ظاهرة العلاج الذاتي.
  5. ظاهرة إنماء الاستعداد والذائقة.

المثال التحليلي

القرآن الكريم مُكتَفٍ بنفسه نصّاً ومضموناً، ولكنه ليس مُكتَفياً بنفسه شرحاً وتفصيلاً لرسم العبوديَّة الذي يتحقق بها نصّه ومضمونه. ومن هنا كانت السُنَّة نصاً وفعلاً موازيان له على التساوي فقال، صلى الله عليه وآله وسلّم: “ألا إنني أُوتيتُ القرآن ومثله معه، فمن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي”[1].

ولنأخذ مثالاً تحليلياً هو الصلاة:

ما هيأتها؟ وما عدد الصلوات؟ وما عدد ركعاتها؟ وما علاقة الصلاة بالله من حيث هي عبادة؟ وما علاقتها بالعبد من حيث هي استجلاب للعون والمدد؟ وما علاقتها بالآخر من حيث هي مساواة في حقيقة المُثُول للحق “فيَمثُلُ بين يدي الله الملِك والشحّاذ في حالةٍ واحدةٍ”؟ وكيف تُعالج الصلاة في جوهرها، أمراض القلوب والنفوس؟ وكيف تُنْمي استعداد المشاركة لدى الفرد؟ وتُفَعِّل من ذائقة الجمال الروحي؟

هذه ظواهر قد يشير إلى بعضها القرآن إشارة يسيرة، ولكن لا يفي بأبعادها، ويستقصي أحوالها، ويُمايز بين وقائعها سوى السُنَّة، فالسُنَّة بذلك هي: “علم التمييز والاستيفاء” لعلم القوانين الكليّة الذي هو القرآن الكريم. وليس هناك كليّات بلا تمييز، وتمايز، واستيفاء، واستقصاء لمكنونها، وإلا أصبحت أُطُراً عامة بلا سياقات، وهنا قد يعمل الزَيغ عمله في غرس سياقات وضعيَّة لا علاقة لها بماهيتها الأصليّة، أو هي تحريف لها، وابتداع مريب على أقل تقدير. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة: 2)، وقال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(طه: 13)، وقال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (النساء: 102)، وقال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين (البقرة: 236)، وقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (الكوثر: 2).

هنا لمَ يأت ذكر الصلاة إلا في عمومها، ولَم يذكر الله سبحانه وتعالى، تفصيلات الميقات، والهيأة، والعدد، وغيرها. فتقوم السُنَّة النبويّة بهذا الدور المهم من التعيين، والتحديد، والتمييز.. الخ.

ويقول، صلى الله عليه وآله وسلّم،: “صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي”، وهكذا يختصر الأمر كله في الإتِّباع هيئةً وعدداً وزمناً، ولكن ثَمَّة وجهاً آخر ينمُّ عنه الحال المَرئي تفصيلاً وملاحظة، بحسب الرائي الموثوق به: “أنه صلى الله عليه وآله وسلّم، كان إذا قام إلى الصلاة رفع يده مدَّاً”[2]، “وكان إذا سجد جَافَى حتى يُرى بياض إِبطَيه”[3]، “وكان إذا كبَّر للصلاة نشر أصابعه”[4]، “وأنه صلى الله عليه وآله وسلم، كان أخف الناس صلاةً في تمام”[5]، “وكان إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك”[6].

أما فيما يتعلَّق بالصلاة من حيث ذاتها من تمثيل لها، أو لخصائصها فقد أفاض النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، أيضاً في ذلك كي يُضيف إلى متابعة الصحابة له، ولكيفيَّات حركاته، ومشهود حاله عليه الصلاة والسلام، نوعاً من الوعي والإدراك المقترنين بطبيعة الفعل، وسببه، ونتائجه: صلاة الوسطى هي صلاة العصر، عن أبي هريرة، وابن عباس، وعليّ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وصلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذّ، عن أبي هريرة، عن النبي، وصلاة القاعد نصف صلاة القائم، عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام، وصلاة المغرب وتر النهار، عن ابن عمر، عن النبي عليه الصلاة والسلام، وصلاتان لا يُصلَّى بعدهما: الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس، عن سعد، عن النبي، عليه الصلاة والسلام، وفي حديث الإسراء والمعراج أن الله تعالى، قد فرض على النبي وأُمَّته خمسين صلاة فمازال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يُراجعه حتى جعلها خمساً، وهذه الصلوات هي ما نعرفه من الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.

وعن أبي الدرداء وأبي ذرّ ونعيم بن عمّار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، قال: “قال الله تعالى: يا ابن آدم صلّ لي أربع ركعات من أول النهار أكفِك آخره”[7] والمقصود صلاة الفجر وسُنَّته، فمجموعها ركعات أربع، وعن النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، قال: “مَن صلّى الصبح فهو في ذمة الله”[8]، وعنه، صلى الله عليه وآله وسلّم، أنه قال: “مَن صلّى البَردَين دخل الجنَّة”[9]، وعنه، صلى الله عليه وآله وسلّم، أنه قال: “مَن صلّى العشاء في جماعة فقد أخذ بحظّه من ليلة القدر”[10]، وعنه، صلى الله عليه وآله وسلّم، أنه قال: “مَن صلّى خلف إمام فليقرأ بفاتحة الكتاب”[11].

وكان النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، إذا فزعه أمر قام إلى الصلاة، وكان يقول: أرِحنا بها يا بلال، فكأنها نوع من مداوَمة السقم النفسي من يأسٍ، وحزنٍ، وهمٍّ، وغمٍّ، وكربٍ، وعناءٍ، وكأن هذه العلاقة بين الرَب والعبد علاقة استمداد للرحمة، وإنماء لاستعداد الاستنارة الروحيَّة بالحركة والذكر مما يدفع البلايا، والأرزاء، والمصائب الخارجية المحدقة بالأنا التي تتدافعها ضوضاء الحياة، وتهافتها، وتتوفزّها خصومات الآخرين، ومكائدهم، ومماحكاتهم.

وهكذا الأمر في الصوم، والزكاة، والحج، وكل الطُقُوس الأدائيَّة الأخرى التي تخُص العبد المسلم، فالقرآن يأتي بالقانون الكُلِّي، ويترك للسُنَّة النبويَّة الكريمة تفصيل الظواهر وشرحها، والذهن هنا يُهبِط من القوانين إلى الظواهر بفعلٍ من أفعال التدبُّر الذي يضع هذه الظواهر في مساقاتها، ومناسباتها، واختلافات مواقعها بحسب مواقع الأنا والحياة وملابساتهما الشتَّى في هذه اللحظة أو تلك.

ومن هنا جاءت التباينات الفرعيَّة في المذاهب، فكان فقه مالك بن أنس مخالفاً من بعض الوجوه لفقه الشافعي، وكان فقه الشافعي مخالفاً من بعض الوجوه لفقه أحمد بن حنبل، وكان فقه أحمد بن حنبل مخالفاً من بعض الوجوه لفقه أبي حنيفة النعمان. وعلى ذلك قام فقه المقاصد الذي يضع نَصْب عينيه تكييف السلوك وفقاً لأولويات الحفاظ على النفس، والمال، والعِرض، وغيرها بدون أن يَمَسَّ جوهر القانون، أو شكله، وبدون أن يُغَيِّر من مفهوم الظاهرة، أو طبيعة غايتها.

ولمّا كان الأصل في كثير من الفرائض والسُنن هو الذكر، كان لنا أن نضرب به مثالاً تحليليَّاً آخر لنُبَيِّن أهميّة السُنَّة النبويّة في بسط المسائل الكُليَّة، واستقصاء أبعادها: قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (البقرة: 151)، وقال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (البقرة: 199)، وقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: 191)، وقال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ (الأحزاب: 35).

ويُفَصل النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، الأمر فيقول: “الاستغفار ممحاة للذنوب”[12]، وقال: “أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله”[13]، وقال: “مَن قال سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر”[14]، وقال: “مَن قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كَفَتاه”[15]، وقال: “مَن قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد﴾ ألف مرة فقد اشترى نفسه من الله”[16]، وقال: “مَن قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس”[17]، ويقول الصوفيَّة: إن ذكر اللسان على حالٍ من الإخلاص ينتهي على ذكر القلب، وهو أعظم؛ لأنه نُطق الجوارح الداخليّة كلها بالعبوديَّة الحقَّة؛ لذلك قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم: “أذكروا الله ذكراً خاملاً، قيل: وما الذكر الخامل؟ قال: “الذكر الخفيّ”[18].

ومن مُتَضمَّنات الهيئة، والعلاقة أيضاً، ذكر الخلوة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ذاكِر الله خالياً كمبارزة إلى الكفَّار من بين الصفوف خالياً”[19].

ويرفع النبي، صلى الله عليه وسلّم، مقام الذكر حتى يبلغ به ما هو فوق مقام الجهاد فيقول: “ألا أنبِّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عن مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله”[20]، وقال الترمذي وابن ماجة والحاكم[21].

ولذلك ربط النبي، صلى الله عليه وسلّم، بين الذكر وعلاج عَثَرات الحياة من ناحية، ثم ربط بينه وبين علاج النفس (الضيق والاكتئاب والقلق والحزن) من ناحية أخرى، فعلى المستوى الأول جاء قوله لعليّ كرَّم الله وجهه: “ألا أُعلِّمك كلمات لو كان عليك مثل جبل صبير دَيناً أدَّاه الله عنك؟ قُل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سواك” رواه عن علي بن أبي طالب، أحمد في مسنده، والترمذي والحاكم وقالوا: (حديث حسن)، وعلى المستوى الثاني جاء قوله: “ألا أعلِّمك كلمات تقولهنَّ عند الكرب؟ الله الله ربي لا أُشرك به شيئاً” لأحمد في مسنده، وأبي داوود والحاكم عن أسماء بنت عُمَيس، وقال: “إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم إنّي أحتسبُ عندك مصيبتي فأْجُرْني فيها، وأبدِلني بها خيراً منها”[22]، وقال: “لا حول ولا قوَّة إلا بالله، دواء من تسعة وتسعين داء أيسرهُما الهمّ” لابن أبي الدنيا، عن أبي هريرة، وقالوا: (حديث حسن).

تُرى هل كانت الأمور -بدون السُنَّة النبويَّة- تُفْهَم على هذا النحو من الاتساع، والتحديد، وتخصيص الشيء بالشيء؟ كلَّا بالطبع.

السُنَّة إذن: توزيع وتحديد وتخصيص للجوامع الشاملة العامَّة من المسائل التي تُعَبِّر عنها القوانين الأساسيَّة؛ لذلك قال صلى الله عليه وآله وسلّم: “إنما هما اثنتان: الكلام والهدى، فأحسَن الكلام كلام الله، وأحسَن الهدى هدى محمد” رواه ابن ماجّة عن ابن مسعود، وقال: “كل أمَّتي يدخلون الجنَّة إلا مَن أَبَى: مَن أطاعني دخل الجنَّة، ومَن عصاني فقد أَبَى” للبخاري عن أبي هريرة والتعبير بـ(مَن أطاعني) يعني مَن آمَن بي قولاً وفعلاً، وآمَن بسُنَّتي، وحاكى ما تنطوي عليه من وصايا، وأحكام، ونصائح. بل إن الأمر يصل إلى الحضِّ على تبليغ المقال ليظل حبلاً ممدوداً بينه، صلى الله عليه وآله وسلّم، والعبد المؤمن فيقول: “إنّي أحدّثكم الحديث فليُحَدِّث الحاضر منكم الغائب” عن عبادة بن الصامت[23]، ويقول صلى الله عليه وآله وسلّم: “طُوبى لمَن رآني، ولمَن رأى مَن رآني، وآمَن بي”[24].

وإنما جعل النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، فقط سكوته عن الأمر من الأمور سبباً وحيداً للانصراف عن استنطاقه عن ذلك الأمر، فقال: “ذروني ما تركتكم فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكُم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكُم عن شيء فدَعوه” لأحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة، وقال صلى الله عليه وآله وسلّم: طُوبى لمَن آمَن بي ولم يرني (ثلاث مرات)[25].

والقول بأنه لم يصح عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، إلا أربعة أحاديث، وأن اختلاطها قد أفسدها فلا يُعرَف صحيحها من سقيمها، ولذلك فهي ظنّيَّة على النقيض من القرآن الكريم بوصفه صريحاً، وقطعيَّاً، هو قول تَعَمَّد أن يختَزِل المصادر الشرعيَّة أو المرجعيَّة الأصليَّة إلى ما يمكن تفسيره بدافع الأهواء، والمنحنيات الشخصيَّة على وجه من الوجوه المراوِغة والزيغ، والتعويم المريب أو المقصود. ومن بصيرة النبي صلى الله عليه وسلّم، أن يعلم حدوث ذلك، ويُنكِره إنكاراً شديداً فيقول: “ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله”[26].

وسوف نسمِّي ذلك الاستنباط الأساسي الذي يمثِّل قاعدة رئيسيَّة تحسم اقتران السُنَّة بالقرآن اقتراناً عُضويَّاً، ووظيفيَّاً ليس له أن ينحلَّ بحالٍ: “استنباط اللزوم” أي: استنباط ما هو لازم لِما هو ألزَم. وسوف ننتقل بعد ذلك على سبيل التَدرُّج الطبيعي، إلى ما هو لازم لما هو لازم كإجراء احتياطي زائد. فبالإضافة إلى ما قرَّرَه علماء الحديث باتفاقٍ جامعٍ من شروط قياسٍ لصحَّة الحديث، وحُسنه، وغرابته، وضعفه… الخ، فنقترح، على سبيل المثال، أخذ ما يلي من استنباطات في الاعتبار بحكم الذهاب إلى أبعد في موضوع غربَلة السُنَّة، وفلتَرَتهاfiltrating .

1. استنباط البديهة العقليَّة

وهو ما يَرْجَحُ الإقرار به على سبيل القطع مثل “ما خَابَ مَن استشار، ولا نَدِم من استشار، ولا عَالَ مَن اقتَصَد” للطبراني في الأوسط عن أنس[27]، وهو مما يُعرَف في البلاغة بأسلوب الحكيم، ولكن هناك أشياء قد تتعَالَى على العقل، وإن لم تكن مستحيلة حدوثاً -ونحن نجد ذلك في العلوم الطبيعيَّة الحديثة نفسها كظاهرة الأنفاق الزمنيَّة في الفيزياء- فيرجح الإقرار بها على سبيل الاحتمال غير القطعي مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: “ماء زمزم لما شُرِبَ له”، مَن شرِبه لمرض شفاه الله، أو لجوعٍ أشبعه الله، أو لحاجةٍ قضاها الله” ورد للمستغفري في الطب عن جابر[28].

2. استنباط القياس إلى الواقع

وهو ما يتوقَّف عليه حدوث الشيء خاصَّةً فيما يتّصل بمسألة النبوءة الصادقة، فما تحقق حدوثه لم يعد في صوابه ظنٌ، ولا ترجيح؛ لأنه يستدعي اليقين بوقوعه. وذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: “لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد” لأحمد في مسنده، وابن حبَّان في صحيحه، كلاهما عن أنس[29]. أو مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “لا تقوم الساعة حتى يكون الإسلام غريباً، وتبدوا الشحناء بين الناس، ويُقْبَض العلم؛ أي العلم بالله تعالى، ويهرم الزمان، وتنقص الأعمار، ويُكَذَّب الصادق، ويُصَدَّق الكاذب، ويكثُر الهَرَج وهو القتل” رواه الطبراني في الكبير، وابن عساكر في التاريخ، من حديث أبي موسى الأشعري، ومثل هذه الأحاديث كثير مما يُنْبئ بما وقع، أو يقع، أو سيقع، وما سيقع يتعلّق العمل بهذا الاستنباط فيه بما يقوله أو يؤكده العلم مثل: “وتكثُر الزلازل” أو “وتفشوا الأمراض والأوضاع” أو غيرهما، وذلك أن علماء متعددين الآن يضعون سيناريوهات مستقبليَّة قريبة عن “الكوارث الطبيعيَّة” وعن “طاعون القيامة” وعن كافَّة الأحداث السيئة التي تنتظر البشر والمخلوقات الأخرى بعد كذا وكذا من السنوات.

  • استنباط حدّ المُلائَمَة

ويعني مثلاً أن هناك من أحاديث التطبيب، والجدوى الصحيَّة لهذا الشيء أو ذاك غير قليل مما يحتمل سوء الظن أو ضعف الأرجحيَّة مثل “ربيع أُمَّتي العنب والبطيخ” أو “خير الدواء الحِجامة والفصادة”، وقد يكون صاحب زرعٍ أو حجَّامٍ هو مَن وضع على لسان النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، ذلك القول لترويج سلعته، وندَّ عن ذلك أشياءٌ أُخرى مما أثبت العلم في كل العصور، وما زال يثبت فائدتها القصوى كعسل النحل على سبيل المثال: “جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلاً، فسقاه ثم جاءه فقال: لم يزدْه إلا استطلاقاً، فقال له ذلك ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم،: صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبَرَأ” رواه البخاري، ومسلم عن أبي سعيد الخدري. و”صدق الله” إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ (النحل: 69) ومما أثبت العلم عظيم نفعه كذلك الحبَّة السوداء، وعن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، يقول: “إنّ في الحبَّة السوداء شفاء من كل داء إلا السام؛ أي الموت”[30]، والحبَّة السوداء علاج للروماتيزم، والسكر، والحصوات، والإسهال، والقِيء، وهي مما يرفع درجة المقاوَمة للجهاز المناعي للإنسان، ويُنَشِّط من عمله، وقد ورد مثل ذلك، مما أثبَتَت بعض التجارب العلميَّة جدواه الواضحة عن ألبان الإبل، وعن السَّنا والسنوت على اختلافٍ فيما هما، وفي جميعها أحاديث نبويَّة مشهورة، وذائِعَة الصِيت.

فاستنباط عدم المنفعة أو المُلائَمَة هو استنباط للمجَّاني من اللامجَّاني من القول، وللمُجرَّب من العفوي المباشر، وللدائم من العرضيّ من الأشياء.

4. استنباط صحة الصحة في السند

هل لِوضَّاعٍ خبيرٍ أن يختَلِق سنداً له كل شروط الصحّة ليفتري على النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، كذباً؟ هذا السؤال في حاجة إلى إجابة شافية، وقد تكون الإجابة بـ”نعم” إن جمعت عدداً من الرجال كلهم ثقاة، وعاش كل منهم في فترة يُتاح من خلالها لقاؤه بالآخر، والرواية عنه، وتجمَّعت ظروف موائمة لذلك اللقاء، وتلك الرواية… إلى غير ذلك من مظانِّ الإصابة والصحَّة مما عدَّده علماء الحديث.

ما أبسط ضمانات الصحَّة اللازمة لصحة السند إذن؟

 بداءةً من الممكن أن نقول أن من أبسط هذه الضمانات:

أ. تواتر الحديث عن أكثر من طريق ورواية.

ب. الثبوت التاريخي للظروف التي قيلت فيها بعض الأحاديث.

ج. مواءمة السياق الاجتماعي، والسياسي، والذهني، والأسلوبي، وغيرها من السياقات للقول المنسوب إليه، صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ رُويَ عنه أنه قال: أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم”، ولابد لهذا القدر من نظيره الذي انبثق عنه من مستويات مختلفة بعضها اجتماعي وعُرفي وأخلاقي، وبعضها ثقافي، وبعضها سياسي، أو شبه سياسي… وهكذا.

وقد تكون هناك -ولابد- ضمانات أكثر سبراً لموضوع صحة الصحة في السند تنتظر مَن يكشف عنها، ويضيئها، ولكن ما ينبغي لنا أن نتَّفق عليه في كل الأحوال -لزوماً- أن السُنَّة قرين لازم لكتاب الله تعالى، وأن أهميَّتها ذات خطرٍ عظيمٍ بما تمتلك من بيان التشريع المُفصَّل، والاستيفاء، والتمييز المبَيَّنَين، وأن الإقلال من دورها أو الغضُّ منه لا يمثِّل إلا ضلالاً، وتضليلاً، وتعميةً تُعَرْقِل السير في الطريق بدلاً من دفعه عبر آفاقها في طواعية، ومُروُنة، ورحابةً في المُضيِّ نحو الغاية.

الهوامش

[1] حديث صحيح.

[2] روي عن أبي هريرة.

[3] روي عن جابر بن عبد الله.

[4] روي عن أبي هريرة.

[5] روي عن أنس بن مالك.

[6] روي عن عائشة.

[7] حديث حسن غريب.

[8] رواه أبو موسى.

[9] المصدر نفسه.

[10] رواه أبو أمامة.

[11] رواه عبادة ابن الصامت.

[12] رواه حذيفة بن اليمان.

[13] رواه جابر بن عبد الله.

[14] رواه أبو هريرة.

[15] رواه ابن مسعود.

[16] رواه حذيفة بن اليمان.

[17] رواه ابن عمران.

[18] رواه ضمرة بن حبيب مُرسلاً.

[19] رواه ابن عباس.

[20] رواه أبو الدرداء.

[21] حديث صحيح.

[22] رواه الترمذيّ، وابن ماجة عن أبي سلمه.

[23] حديث حَسَن.

[24] للطبراني عن عبد الله بن بسر.

[25] للطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر.

[26] رواه الدارمي، وأبو داوود، وابن ماجة عن المِقدام بن مَعْد يكرب.

[27] حديث حسن.

[28] حديث حسن.

[29] حديث صحيح.

[30] رواه البخاري ومسلم.

Science
الوسوم

د. وليد منير

أستاذ الدراسات الأدبية والثقافية وتحليل الخطاب بالجامعة الإسلامية، ماليزيا

من مؤلفاته:

النص القرآني من الجملة إلى العالم (1997)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق