مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

الأنصاص والأرجاز القرآنية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وكل من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
لقد عني المغاربة بضبط متشابه الكتاب اعتناء عز نظيره، فحرصوا على إتقان ضبطه بوضع قواعد مسعفة لاستحضار رسمه عند تدوينه، و لتكون عونا للطالب على كتابته في لوحه، يؤكد هذه المقالة تلك الجهود التي نتلمسها من معلمي القرآن، حيث نلفي تراثا زاخرا من النصوص والأرجاز التي دونت لخدمة النص القرآني؛ ضبطا لمتشابهه، وإحاقا للنظير بنظيره، وتبريز المتفرد في رسمه وضبطه، وتقعيدا وتأصيلا لكتابة حرفه، وتجد لكل جهة من جهات هذا البلد الأمين نصوصا وأرجازا متداولة في ذلك القطر أو الجهة، بل إن الطالب نفسه قد يضع لنفسه إشارات ورموزا ونحوتا القصد منها ضبط نص الكتاب، مما يجعل الدارس يجد نفسه أمام تراث زاخر من المستحيل حصره وضبطه، ومن الدراسات الأكاديمية الجادة في هذا الباب الرسالة التي تقدم بها الأستاذ الدكتور لنيل شهادة الدكتوراه عبد العزيز العيادي العروسي «الأنصاص القرآنية» إذ تحصل بين يديه أزيد من 6000 نص انتخب منها 1200، درسها دراسة علمية رصينة، عزى فيها الكلمات القرآنية لمظانها من السور، مسترشدا في ذلك بما سطره الأولون في هذا الباب.
وهو تراث ناتج عما دبجه الفقهاء وطلبة القرآن في خاتمة اللوح، وللوح شأن عظيم عند أهل المغرب خاصة، وبعض بلدان إفرقية عامة، فعن طريق اللوح يحفظون القرءان، و به يستظهرون مسائل العلم، وبه يُقيِّمون مستوى العالم،وقد ارتبطت الكتابة في اللوح في ثقافتهم بالحفظ وسرعة الاستحضار، حتى قال بعضهم «إن العلم الذي أخذ عن طريق اللوح يورث العلم والفهم» ،واستأنسوا لذلك بقوله تعالى «وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء [الأعراف:145] ،ومما يروى في هذا الصدد أن بعض الطلاب درس باب التركة من «مختصر خليل» فاستعصى عليه فهم مسائل العول والانكسار، فأمره شيخه أن يكتب الباب كله في لوحه ويقرأه قراءة تدبر، فامتثل الطالب أمر شيخه، فانكشف الغطاء بينه وبين مسائل العول والانكسار، و لذلك سحبوا عليه من القداسة مثل ما للقرآن الكريم، فجعلوا مس اللوح الذي كتب عليه القرءان كحكم مس المصحف سواء، ومن نوادر تعلقهم باللوح أن بعض القراء، كان يكتب ورده اليومي في اللوح ،وكان قد تجاوز الثمانين، فقيل له في ذلك، فقال أحب أن يأتيني الموت والقرآن في لوحي، ونظير ها ما ذكر في ترجمة أبي عبد الله الصُّغيِّر النيجي أحد شيوخ ابن غازي أنه مات والقرءان في لوحه.
فكانوا يذيلون خاتمته بأنصاص وأرجاز، تعين الطالب على حفظ المتشابه وضبط المرسوم.
وإذا أردنا تصنيف هذه النصوص والأرجاز عامة فإنا نجدها:
1 إما أن تكون من باب ضبط المتشابه وتبصير الطالب بمحل كل موضع، كقولهم مثلا:

  • بعد الذي من بعد في الأعــوان وبعدما في الرعد ياخليــلي
    وقولهم:
  • ثلاثة فاعلم فنجينَّــــــــــــه واتل أنومن كذا رشــــداه
    2 حصر الشاذ عن القاعدة العامة المعتبرة، كحصرهم مواضع الكتاب الثابت الألف في قولهم:
  • كتاب معلوم كتاب يمحـــوا من كتاب ربك وكتـــاب
    وقولهم:
    *كبائر بصائر الغفـــــــــــار محذوفة من صاد إلى الناس
    3 الاعتناء بمحور المفصول والموصول فيحصرون كل واحد منها في رجز أو نص يسهل حفظه وتذكره حال الكتابة، كقولهم:
    * ليكة ص والشعرا بلام أوكان الايكة ق وربمــا بلام الف
    وكقولهم:
  • أن ما يدعون باء عددهـــم في الحج ولقمان قد كمــــــلا

4 تقريب قواعد العربية من الطالب المبتدئ، فقد تشتبه عليه حركات بعض الحروف القرآنية تبعا لمحلها الإعرابي، فيحصرون له مواضع الحرف القرآني المتجانس الحركة في نص يستحضره حال تلاوته، كاستقرائهم مثلا أن أربع كلمات قرآنية تأتي بعدها «جهنم» مرفوعة الميم وذلك قولهم:
*فهذه جزا حســــــب ورا جهنـم بالضم قال الكبـــرا
وكتِبيان كيفية كتابة بعض الحروف التي تشكل كتابتها أهي بالصاد أو السين مثلا، أو هي بالألف الممدودة أو المقصورة، وذلك في عبارات بسيطة قد تكون أحيانا بالعامية، كقولهم:
• صرعى صادها قد الكرعى
• تترا ألفها قد المدرا
• وامتازوا رافد عكازوا
• عاليها معلي ، سافلها مدلي.
وربما وضع الفقيه حال تصحيح اللوح أي: ما يسمى ب «الدوازة»، سطرا فوق الكلمة من منعرجين أو ثلاثة، أو يكتب فوقها أربعة مشرقية، لتذكيره بعِدَّة هذا الحرف في القرآن، أو ما يشبهه في الرسم.
كحصرهم حذف الألف بين الراء والتاء في هذه الكلمات الثلاث:
الخيرات / الثمرات / الحجرات.
وإثبات الألف الأولى من هذه الكلم وحذف الثانية:
يابست / راسيت / باسقت.
وإلحاق ثمانية ب ثماني حجج.
وكحصرهم حذف الألف من آخر هذه الأفعال الثلاثة:
باءو/ جاءو/ فاءو.
وحصرهم كذلك للألف الثابت بعد الهاء في ثلاثة مواضع:
لا يتناهون / الناهون / لكنا هو.
وحصر حذف الألف من «أيها» في ثلاثة مواضع:
أيه الساحر / أيه المومنون / أيه الثقلان.
فتكون هذه التقعيدات بمثابة القانون الضابط، كلما مر الطالب على حرف من هذه الحروف يستحضر العلامة التي تذكره بمواطنه وعِدَّته، فلا يتم السلكة حتى تنتقش في ذهنه أحوال الكلمات القرآنية من حذف وإثبات، أو خروج عن القاعدة العامة في الرسم، وهي أنجع وسيلة للحذق بهذا العلم والتمكن من تفريعاته.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق