أسس علم المناظر أقليدس – بطليموس – ابن الهيثم نموذجا
الباحث عبد الغني زيدان
مركز ابن البنا المراكشي
تقديم:
يعالج هذا المقال علم المناظر من الناحية التاريخية، كما يدرس الصيرورة الزمنية التي ظهر فيها هذا العلم و المراحل التي تطور فيها عند العلماء و الفلاسفة الذين أسهموا في نشأته و تطوره، فـ - ليس من السهل الحديث عن تطور المعرفة الوضعية في ميدان علم البصريات أو المناظر قبل العصر الحديث، من دون أن نتطرق إلى المعرفة المثالية أو الطابع المثالي الذي وُسِمَ به هذا العلم من طرف أصحاب نظرية الشعاع[1].
و قبل التطرق للمعالم الكبرى لعلم المناظر لابد أن نقف في هذا التقديم عند تعريف هذا العلم، و في هذا الصدد يقول كمال الدين الفارسي: "إن المناظر هو علم يعلم منه أحوال حاسة البصر من جهة ما يشعر بمحسوساتها مطلقا، و الإبصار هو إدراك النفس ما من شأنها إدراكه"[2].
إن بداية البحث العلمي في الظواهر البصرية انطلق بشكل تدريجي منذ البداية على يد علماء الهندسة و الرياضيات في اليونان القديمة و قد ترتب عن كل هذه الاتجاهات العظيمة الوصول إلى نتائج مخالفة بسبب غياب المنهج التجريبي، إلا أن جاء ابن الهيثم العالم الفذ الذي وصَّل مستوى هذا العلم إلى درجات رفيعة من خلال استيعابه للتركيبات النظرية المندمجة بين الطروحات المتعارضة القديمة و بين التجديدات المتميزة التي توصل إليها بواسطة المنهج التجريبي الذي اعتمد عليه في دراسة علم البصريات.
المحور الأول: علم المناظر عند أوقليدس.
وضع أقليدس نظريته في الضوء و الإبصار في كتابه المعروف بكتاب أقليدس في اختلاف المناظر خلال القرن الثالث قبل الميلاد، و تجدر الإشارة إلى وجود ست نسخ لكتاب علم المناظر الأقليدي، النسخة الأولى هي التي استخرجها هيبرغ Heiberg باعتبارها نسخة أصلية، بينما اعتبر النسخة الثانية تنقيحا تعود لثيونTheon الإسكندري، أما النسخة الثالثة فهي ترجمة عربية في حين ترجع النسخة الرابعة لنص شرحه الكندي في كتابه تقويم الخطأ و المشكلات التي لأوقليدس في كتابه الموسوم بالمناظر، علاوة على وجود نسخة خامسة لنص كتاب المناظر من تحرير نصير الدين الطوسي، أما النسخة السادسة و الأخيرة فقد قام بتحريرها بن أبي جرادة[3]أشهر مؤرخي القرن السابع الهجري.
لا شك أن كتاب أقليدس في اختلاف المناظر يعتبر المصدر الأساسي لعلم البصريات، و الذي يتألف من سبع تعريفات و التي هي عبارة عن فرضيات أو مسلمات[4] يتخذها أصولا أساسية في علم المناظر.
يتناول أقليدس في المسلمة الأولى *الخطوط المستقيمة الخارجة من العين تنتشر على فاصل مقادير كبرى*، يمكن أن نستشف من خلال هذه المسلمة أن الإبصار يقوم في نظر أقليدس على شعاع تصدره العين و يتجه هذا الشعاع نحو الأشياء في اتجاه مستقيمي، إلا أن صاحب كتاب المناظر لم يقم بالبرهنة على ذلك بطريقة إمبيريقة تعتمد على المعطيات التجريبية، كما يعتبر أقليدس أن العين بمثابة آلة الإبصار و هذا الإبصار يتم بالتدريج، إذ ينتقل من شيء إلى شيء، و نظرا لسرعته يعتقد أنه يتم في شكله الكلي منذ الوهلة الأولى، فيُظن لسرعة انتقاله أنه يُرى جميعا معا.
بينما يرنو أقليدس في المسلمة الثانية إلى تحديد شكل الأشعة البصرية، و في هذا الصدد يقول: *الشكل الذي تحتويه الأشعة البصرية/ الشكل الشعاعي/[5] هو مخروط رأسه في العين و قاعدته على مستوى أطراف ما يرى[6]، و هذا أكبر دليل يؤكد أن علم المناظر يقوم على تصور أصحاب الشعاع، اللذين يعتبرون أن للعين دورا فعالا في عملية الإبصار ذلك أن الإبصار يكون بشعاع تصدره العين على هيئة مخروط رأسه و قاعدته المبصر أي العالم الخارجي.
نخلص من خلال المسلمات التي وضعها أقليدس أن الأمر يتعلق بصياغة رياضية لقوانين الإبصار، ولهذا نجده يقتصر في ذلك على الجانب الهندسي للمنظور بعيدا عن التصورات الميتافيزيقية، ولهذا يمكن القول أن الفترة التي عاش فيها أقليدس شكلت لحظة حاسمة في انتقال الظاهرة البصرية من التناول الفلسفي إلى التحليل العلمي، وهذا يدل على وجود تقليد علمي سعى إلى فهم الظواهر بشكل و ضعي في ذلك الوقت.
المحور الثاني: علم المناظر عند بطليموس.
يتكون كتاب البصريات لبطليموس (90-168م) من خمسة كتب أو كما كان يسميها التقليد العربي مقالات، وقد ضاعت المقالة الأولى كاملة كما ضاع الجزء الأخير من المقالة الخامسة، و حفظت من الضياع نسخة من الترجمة اللاتينية عن الأصل اليوناني لبصريات بطليموس، بينما فقدت كل من الترجمة اليونانية و الترجمة العربية لها، و يتسم الكتاب بلغة رياضية واضحة قدمت على شكل مسلمات تلخص مختلف نتائج التجارب التي استخلصها على شكل مبادئ نظرية. و تتمثل أعمال بطليموس تطوير أعمال أقليدس و يظهر ذلك بوضوح من خلال نهجه لـ مذهب القائلين بخروج الشعاع من العين[7].
و إذا كان بطليموس من أتباع أقليدس فلا يعني ذلك أنه اقتفى أثره دون أن يحيد عن أهدافه، بل يمكن القول إن بطليموس قد تناول مجموعة من القضايا التي لم يتطرق إليها أقليدس، و تتمثل هذه القضايا أولا في كون بطليموس أثار مسألة مهمة في المقالة الثانية من كتاب البصريات و المتجلية في وقوفه عند معنى بُعد المُبْصر عن البصر، أي وقوفه عند أهمية دراسة المسافة الفاصلة بين الأداة التي نبصر بها (العين) و ما يتم إبصاره (المُبصَر)، إذ يرى أن خروج الشعاع من البصر ووقوفه على المُبصر يترتب عليه إدراك بُعد المُبصر عن البصر.[8]
نستنتج إذن أن علم البصريات يقوم على دراية الرؤية اعتمادا على المنهج الهندسي و علاقة ذلك بالإبصار، كما أن الاهتمام بالجانب الهندسي للإبصار عند كل من أوقليدس و بطليموس كان حاجزا أمام تمحيص فكرة صدور الأشعة من العين نحو الأشياء.
لقد استمر هذا الرأي القائل بأن الشعاع مصدره العين حتى جاء العالم و الرياضي الكبير الحسن بن الهيثم الذي استند في أبحاثه على التجربة و الفحص، و هذا ما مكنه من تقويض فكرة انبعاث الضوء من البصر نحو الأشياء، بل أكد بالدليل الحسي و القاطع أن الضوء ينبعث من المصدر المضيء ليسقط على العين، و قد أصبح هذا الرأي القائل حول طبيعة الضوء بمثابة حجر الزاوية لكل الأبحاث التي أجريت حول علم الضوء[9] بعد الحسن بن الهيثم.
المحور الثالث: علم المناظر عند ابن الهيثم.
قبل الحديث عن كتاب علم المناظر للعالم الرياضي و الفلكي الحسن بن الهيثم، لابد أن نضع تعريفا مقتضبا عن حياة هذا العالم الفذ و نذكر بعض المراجع التي أثبت فيها رجاحته العلمية.
يأتي ذكر ابن الهيثم في كتب الطبقات و التراجم في بعض المصادر، من أهمهما تاريخ الحكماء للقفطي المتوفي سنة 648 هـ/1247م وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668هـ/1270م.
هو الحسن بن الحسن بن الهيثم أبو علي المهندس البصري نزيل مصر صاحب التواليف و التصانيف المتميزة في الهندسة و الفلك، ولد سنة 354هـ/965م و توفي بالقاهرة حوالي 431هـ/1040م[10]
ألف ابن الهيثم الكثير من الكتب القيمة يمكن تصنيفها و ترتيبها في ثلاث مجموعات[11] تتضمن الأولى منها عشر رسائل، يدرس فيها الحسن ابن الهيثم الحسابات الفلكية مثل خطوط الساعات و الرخامات الأفقية و القبلة و ارتفاع القطب، أما المجموعة الثانية تتكون من رسالتين في الأرصاد و ما يقع فيها من أغلاط. فيما يخص المجموعة الثالثة و الأخيرة فتحتوي على رسائله في الهيئة و التي بدورها تنقسم إلى فئتين، الأولى منها تتكون من:
- الشكوك على بطليموس.
- تهذيب المجسطي.
- في حل شكوك المجسطي.
و الفئة الثانية تتكون بدورها من:
- في حركة الالتفاف.
- في حل شكوك حركة الالتفاف.
- في حركة القمر.
- في اختلاف ارتفاع الكواكب.
ينقسم كتاب علم المناظر إلى قسمين كبيرين، القسم الأول يبتدأ بإشراق الأضواء، ورؤية المبصرات على الاستقامة، أما القسم الثاني فيدرس انعكاس الأضواء، انعطافها، ما يترتب عليهما من إدراك المبصرات في المرايا المختلفة الأشكال و في الأجسام المشفة. و الكتاب في مجمله يحتوي سبع مقالات و كل مقالة تحتوي فصولا، تتناول من خلالها سيكولوجيا إبصار الأشياء و الأوهام البصرية.
في البداية يقسم ابن الهيثم آراء المشتغلين بعلم البصريات إلى فئتين: الفئة الأولى تشتغل بعلم الطبيعة و تقول أن الابصار إنما يكون من صورة ترد المبصر إلى البصر، منها يدرك صورة البصر صورة المبصر[12]، أما الفئة الثانية ـ و هم أصحاب التعاليم الذين يتفقون بالإجماع على أن "الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البَصَرِ إلى المُبْصِر و به يدرك البَصَرَ المُبْصِرَ، و أن هذا الشعاع يمتد على سموت مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر"[13].
تظهر أبعاد المشكلة الحقيقية في علم المناظر من خلال تبيان ابن الهيثم لاختلاف آراء المتقدمين في عدم استقرارهم على رأي واحد، و اختلافهم في الاستنتاجات الأولية و قد عبر عن هذا الاختلاف بلفظ الظنون، كل ذلك دفع بابن الهيثم إلى الانصراف إلى استئناف النظر في مبادئه و مقدماته، يقول في هذا الصدد: "و نبتدأ في البحث باستقراء الموجودات، و تصفح أحوال المبصرات، و نميز خواص الجزئيات، و نلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حالة الإبصار...ثم نترقى في البحث و المقاييس على التدريج و الترتيب، مع انتقاد المقدمات و التحفظ في النتائج، و نجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه و نتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، و نتحرى في سائر ما نميزه و ننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء[14].
خاتمة:
لعبت بصريات ابن الهيثم أدوار مهمة و متميزة في توجيه البصريات الغربية إلى مسارات جديدة، لأن هذا العالم الفذ لم يدرس خصائص الضوء من خلال رأي القدماء الذين سبقوه في دراسة هذا المجال، بل عمد إلى دراسة الإبصار باستناده إلى المنهج التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة و الدقة في النتائج.
كان هدف ابن الهيثم، هو تأسيس انطلاقة جديدة و غير مسبوقة لهذا العلم- و هو الذي ــ نقض فكرة انبعاث الضوء من البصر ليثبت أن الضوء ينبعث من المصدر المضيء سواء كان ذلك الضوء ذاتيا أو عرضيا.
إن مساهمات ابن الهيثم العلمية و الفكرية مترابطة بشكل وثيق في جوهر الثقافة الغربية في مرحلة ما بعد القرون الوسطى و كل ذلك جعله يحقق ثورة علمية في مجال البصريات، كما أنه أقام في نفس الوقت تمييزا بين العلوم الطبيعية و العلوم الرياضية.
[1] - آراء الفلاسفة و العلماء اليونانيين الذين سبقوا ابن الهيثم و الذين كان لهم رأي ثابت في موضوع علم الضوء و خصوصا في موضوع الإبصار و كيفيته.
[2] - الفارسي، كمال الدين، تنقيح المناظر لذوي الإبصار و البصائر، ص 47.
[3] - للمزيد من التفاصيل، انظر رشدي راشد. علم المناظر و علم انعكاس الضوء ( أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي)، مركز دراسات الوحدة العربية ضمن سلسلة تاريخ العلوم عند العرب (6)، الطبعة الأولى، بيروت، 2003. ص 31-72.
[4] - المصدر نفسه، من ضر 107 إلى ص 116.
[5] - وردت هذه العبارة في مخطوط لتحرير المناظر لحسن بن شاكر، انظر: نظيف مصطفى، الحسن بن الهيثم بحوثه و كشوفه النظرية، ص 150.
[6] - رشدي راشد. علم المناظر و علم انعكاس الضوء ( أبو يوسف يعقوب ابن اسحق الكندي)، من ص 107 إلى 116.
[7] - نظيف مصطفى، الحسن بن الهيثم و كشوفه النظرية، ص 154.
[9]- الفارسي، كمال الدين، كتاب تنقيح المناظر لذوي الأبصار و البصائر، تحقيق، مصطفى حجازي، مراجعة، د، محمود مختار، ج1، القاهرة، ص 29.
[10]- أبطوي، محمد 2004. من علم الحيل إلى علم الأثقال: ولادة ثانية للميكانيكا، ضمن مفهوم التقدم في العلم، تنسيق سالم يفوت، ط1، الرباط، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية، ص 95.
[11]- انظر، رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم و فلسفتها، ص 218-219.
[12] - ابن الهيثم، الحسن، كتاب المناظر، ص 60.
[13] - المرجع نفسه، ص 60.
[14] - المرجع نفسه، ص 62