مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

دينامية البعد الصوفي في إحياء قيم الوسطية والاعتدال في ظل التحولات الراهنة

   إن الناظر في الواقع الديني والثقافي الذي تشهده المجتمعات العالمية المعاصرة في ظل التحولات الآنية سيلحظ مدى تنامي التطرف بشتى أشكاله وألونه، وارتباط التطرف الديني والعنف المنظم بسياقات محلية وإقليمية تتميز في مجملها بفرض منطق التطرف والغلو على حسب خاصية الوسطية والاعتدال، ومنطق الصراع والتعصب على حساب خاصية التسامح والتساكن، ومنطق التسيس والفوضى على حساب خاصية التأنيس والاستقرار، كل هذه الآفات والتمظهرات أفرزت مشهدا دينيا وعقديا متسما بالفوضى والتشتت على مستوى الأنماط الدينية الغير متحكم فيها، فأصبح المسلم المعاصر أمام نزعتين:

–  نزعة ظاهرية حرفية جامدة على النص جمودا متشددا ومُغلقاً، ترفض التأويل وتقصي العقل مطلقا، سواء بالاستنباط أو الاستدلال، “وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر؟! أو لا يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر وبرهان العقل الذي عُرف صدقه فيما أخبر”[1].

–  وفي النقيض منها تماما نجد النزعة العقلانية الوضعانية المتطرفة التي يدعو أصحابها إلى تحكيم “العقل المجرد”[2] في التنظير العقدي والديني على حساب النقل؛ فتقع بذلك في العدمية الروحية المفضية بدورها إلى إنعاشِ النزعة الدينية المتشدِّدة “وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر”[3].

    أمام هذا الواقع المرير يأتي الفكر الصوفي ذي النزعة السنية التجديدية والذي هو في الحقيقة امتداد للفكر السني الأصيل؛ هذا الفكر المبني على مبادئ الوسطية والاعتدال التي يجمع بين مقتضيات الشرع الحنيف وموجبات “العقل المؤيد”[4] والذوق السليم الراقي دون إفراط ولا تفريط، ليعمل على ترسيخ فضيلة التنوع والاختلاف، وذلك عبر تأسيس سلوك تخاطبي يجمع بين مستويات التخاطب الثلاث: الحوار والمحاورة والتحاور، متوسلا في كل ذلك بمنهج تكاملي وسطي مُستَمد من روح الشرع الحكيم، في أفق تفعيل قيم الوسطية والاعتدال في السلوك البشري.

   ولبسط الكلام عن هذا الطرح أرى لزاما الانطلاق من دعويين ومحاولة الاشتغال بالتدليل عليهما، ويمكن تنضيد هاتين الدعويين كالأتي:

–   الدعوى الأولى: إمكانية إسهام العمل الصوفي في صياغة رؤية إسلامية منفتحة تعزز قيم السلم والسلام في العالم، وتجمع شتات المجتمعات الإسلامية وتلم شملها، وذلك بوصلها بالقيم الروحية الفطرية، وتجديد صلتها بالأخلاق الأصلية التي انبنى عليها الإسلام.

–   الدعوى الثانية: إمكانية إسهام العمل الصوفي في إخراج المجتمعات المعاصرة من مأزق التوجه التشييئي الناتج عن سيطرة “النزعة التقنوية” التي سادت العالم وهيمنت على الإنتاجات الإعلامية والتكنولوجيا الرقمية.

وللتدليل على هاتين الدعويين وإثباتهما سأنطلق من خمس مقدمات نظرية أولية أساسية:

أولا: التجربة الصوفية السنية تجربة مُنطلقها النصين القرآني والحديثي، كما تتخذ من نصوص التراث المباشر لهما قاعدة أساسية، لذلك فَجُل وسائل التعبير عن هذه التجربة مستمدة لا محالة من وسائل هذا النص الأصل نفسه، فيكون التصوف بهذا المعنى هو كمال الدين؛ أي “الوقوف مع آداب الشريعة ظاهرا وباطنا، فيرى [الصوفي] حكمه من الظاهر في الباطن ومن الباطن في الظاهر، فيُحَصل من الحُكمين كمال لم يكن بعده كمال”[5]، ومن هذا المنطلق تكون التجربة الصوفية جزءا “لا يتجزأ من التجربة الدينية، إذ التصوف بُعد من أبعاد هذه الأخيرة”[6].

ثانيا: الرؤية الوجودية للصوفية، رؤية أصيلة وليست دخيلة على الإسلام، منبثقة من صميم التجربة الروحية الحية والعميقة التي يخوضها الصوفي، وهي منقولة بالمعاينة في سلسلة ذهبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتبار التصوف يعتمد الصحبة منهاجا لتحقيق غايته…هذه الغاية هي التَّحقُق بالأخلاق المحمدية والكمال البشري أو ما يصطلح عليه عند القوم بـ “المعرفة بالله” أو الدخول على الله أو “الوصول”[7] ؛ فكلما شعر الصوفي بإشراق واردات حضرة القرب الأزلية اتسع عنده الشعور بالوجود الإلهي في كل الكائنات، شعور يفضي إلى وحدة هذه الكائنات (الكلمات الإلهية) في دلالتها على الواحد الصمد.   

ثالثا: العمل الصوفي عمل يجمع بين التخلق والتفقه من جهة، والتجرد والتسبب من جهة أخرى، وينأى عن منحى التجزيء ويتجه اتجاها تكامليا صريحا يجعل العمل الروحي جزءا من الاشتغال الفقهي والتجردَ جزءا من التسبب؛ فلا تجد صوفيا أخلاقيا إلا وقد أخذ الفقه في معناه الأصلي الواسع، “بل إن أغلبهم [أي الصوفية] شاركوا الفقهاء فيما هم فيه من القيام على أداء الأعمال الظاهرة، بل نافسوهم في ذلك حتى قاموا بما وقف دونه الفقهاء؛ فقد استنبطوا الوسائل التي تُعِين على نشر العقيدة الإسلامية وعلى ترسيخها في النفوس وعلى إقدار العامة على أداء شعائرهم وفرائضهم، إذ انتقلوا إلى البوادي والأصقاع النائية يُعَلِّمون الناس أمور دينهم، مقرّين لأنماط من التعبد كالذكر الجماعي وقراءة القرآن الجماعية، حتى يُسمعوا الغافل ويجلبوا العابر وييسروا الحفظ على الأمي”[8].

رابعا: العطاء الروحي الصوفي عطاء تحويلي، فلا يمكن  أن يكون محل تدخل أو تسلط أو تحكم لأنه عطاء منفتح نابع من قلوب حية متصلة بالله عز وجل، كما أنه عطاء تكاملي لا تجزئي  ينظر إلى الحياة في كليتها وفق منظور ترتبط فيه الذات بنفسها وببارئها وبالآخرين من حولها وبسائر الكائنات في هذا الوجود؛ فهو بهذا المعنى عطاء تواصلي لا نهائي، له بداية وليست له نهاية، عطاء استمراري لا انقطاع فيه بل هو في تبدل مستمر ليست له وتيرة واحدة.

خامسا وأخيرا: الفعل التربوي الصوفي فعل تقريبي يتسم بميسم البساطة والحيوية ويراعي مستويات التلقي عند كافة الناس كيفما كانت أجناسهم وألوانهم… بعيدا عن التكلف والتعقيد؛ فهو فعل طبيعي لا تكلف فيه، وميسر لا تعقيد معه؛ وهذا ما يفسر الإقبال الواسع للفئات الشعبية على التجربة الروحية التي لا يتذوق طعمها ويجد رائحتها إلا من أناخ الركاب، وجالس الذكرين في حلقهم، مستجلبا لأحوالهم ومستمتعا بأذواقهم.

مما سبق يمكن القول:

– التجربة الصوفية تجربة ذوقية ومسار روحي عملي، يستمد أسسه ووسائله من الشرع الحنيف، ليتجاوز بذلك الحدود المكانية والقيود الزمانية إلى آفاق كونية رحبة.

– الرؤية الوجودية للصوفية، رؤية إسلامية حضارية مستمدة من مشكاة النبوة، رؤيةٍ تجديدية تنبذ كل منزع طائفي أو تكفيري؛ رؤية تكاملية تنظر إلى الحياة في كليتها وفق منظور ترتبط فيه الذات بنفسها وببارئها وبالآخرين من حولها وبسائر الكائنات في هذا الوجود.

ضمن هذا الأفق التجديدي تتوجه الأبصار والبصائر إلى أربابُ الذوق لانتشال الإنسان المعاصر من سجون الرتابة وغول الاستهلاك ومظاهر الاختناق المادي التي تحاصره.

ضمن هذا الأفق التجديدي تأتي الحاجة إلى نموذج صادق متحقق يحرر المسلم المعاصر من تلك الممارسات التدينية الاستبدادية التي تزج به في حروب دموية فتاكة باسم الحقيقة المطلقة والمتعالية.

الهوامش

[1] الاقتصاد في الاعتقاد للأمام أبي حامد الغزالي، عني به أنس محم عدنان الشرقاوي، دار المنهاج الطبعة الأولى 1429هـ 2008م ص 66.

[2] للمزيد من التفاصيل عن هذا المستوى من العقل ينظر كتاب: العمل الديني وتجديد العقل للدكتور طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1997، الدار البيضاء.

[3] النشر الطيب على شرح الطيب للشريف إدريس بن أحمد الوزاني، المطبعة المصرية بالأزهر، الطبعة الأولى 1348هـ، ج1 ص 194-195.

[4] للمزيد من التفاصيل عن هذا المستوى من العقل ينظر كتاب: العمل الديني وتجديد العقل للدكتور طه عبد الرحمن

[5] الشيخ ماء العينين، السيف والموسى على قضية الخضر وموسى، طبعة حجرية 1309، ص 17.

[6] عبد المجيد الصغير، التصوف دعوة لا مواجهة، الحركة الصوفية والتحديات الراهنة، الإشارة، السنة الرابعة، العدد 27 ، أبريل 2003، ص 1.

[7] طه عبد الرحمن العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، الطبعة الرابعة، 2006م، ص 164 وما بعدها.

[8] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب الطبعة الأولى، 2000، ص 208-209.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق