مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

بين الفقه والتصوف:

أصبح التصوف منذ القرن الثالث الهجري متميزا على علم الفقه من ناحية الموضوع والمنهج والغاية…، ولا شك أنه كان لحركة تدوين العلوم الشرعية التي سبقت تدوين التصوف أثر في ذلك، وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون، حيث قال: “فلما كُتبت العلوم ودُوِّنت، وألف الفقهاء في الفقه وأصوله، والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة- يقصد طريقة الصوفية- في طريقهم، فمنهم من كتب في الورع، ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله المحاسبي في كتاب “الرعاية”، ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم كما فعل القشيري في “الرسالة”…، وصار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط.[1]

ويصف ابن خلدون المقابلة بين علمي الفقه والتصوف، قائلا: “وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفُتيا وهو الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم- يقصد الصوفية- في القيام بهذه المجاهدة- يشير إلى مجاهدة النفس-، ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك”.[2]

وقد أطلق الصوفية منذ هذا العصر وما بعده تسميات خاصة على علمهم، فعرف بعلم الباطن، وبعلم الحقيقة، في مقابل علم الظاهر وعلم الشريعة…، فهذا الإمام الطوسي في كتابه “اللمع” يتحدث عن علم الباطن وعلم الظاهر مبينا الفرق بينهما، قائلا: “إن علم الشريعة علم واحد، وهو اسم واحد يجمع معنيين: الرواية والدراية، فإذا جمعتهما فهو علم الشريعة الداعية إلى الأعمال الظاهرة والباطنة، والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح الظاهرة، وهي العبادات والأحكام، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وغير ذلك، فهذه العبادات، وأما الأحكام فالحدود والطلاق والعتاق والبيوع والفرائض والقصاص وغيرها، فهذا كله على الجوارح الظاهرة، وأما الأعمال الباطنة فكأعمال القلوب، وهي المقامات والأحوال، مثل التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمعرفة والمحبة والرضا والذكر والشكر… الخ، فإذا قلنا: علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي على الجارحة الباطنة وهي القلب، كما إذا قلنا: علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هي على الجوارح الظاهرة”.[3]

والصوفية حين يسمون علمهم بعلم الدراية أو الباطن أو ماشابه ذلك من تسميات، فإنهم يميزون بين علمين: علم نظري بالأحكام، وعلم بكيفية التحقق بها ذوقا وسلوكا، فالأول هو الفقه أو الظاهر، والثاني هو التصوف أو الباطن، هذا فضلا عن أن العلم الأول تجري أحكامه على جوارح الإنسان الظاهرة، في حين أن العلم الثاني تجري أحكامه على الجارحة الباطنة في الإنسان وهي القلب.

على أن هذا التمييز اعتباري، ولا خلاف بين العلمين في الحقيقة، فأحدهما وهو علم الباطن، ثمرة للآخر وهو علم الظاهر، ومتى تحقق العبد بالعمل بأحكام الشريعة، واتجه بقلبه نحو الله، وسلك غمار هذه التجربة الدينية، فقد حصل على العلم الباطن، وإلى ذلك يشير الإمام الشعراني في طبقاته بقوله: “هو- أي علم الباطن- علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة…، والتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة”.[4]

ويصور القشيري في الرسالة العلاقة بين الشريعة والحقيقة تصويرا رائعا، فيقول: “الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فأمرها غير محصول…، والشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق…، والشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدّر، وأخفى وأظهر”.[5]

يفرق الإمام الشاطبي أيضا بين الصوفية والفقهاء قائلا: “هناك فارقا بين الصوفية والفقهاء، فإن الانتساب إلى الأُول أخص من الانتساب إلى الآخرين، ومن مظاهر ذلك أن الصوفي قد يُفتى بقول على الخصوص دون غيره ممن يجري عليه الفقه على العموم، بمعنى أن الصوفي مظنة لأن “يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه، فسقط له طلب الحظ لنفسه، فساغ أن يفتي على حسب حاله، لأنه يقول: هذه حالتي فاحملني على مقتضاها، فلابد أن يحمله على ما تقتضيه، كما لو قال أحد للمفتي:  إني عزمت على أن لا أسأل أحدا شيئا، وأن لا تمس يدي يد مشرك، وما أشبه هذا، فإنه عقد لله على فعل فضل، وقد قال الله تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾.[6] ومدح الله المؤمنين بعهدهم إذا عاهدوا، وهكذا شأن المتجردين لعبادة الله…[7]

غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية، لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال، وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع، فلابد أن يفتيه بمقتضاه، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه،[8] وهذا لا يمنع أن في كل علم ما يخص ويعم، إذ ليس التصوف بأولى من غيره في عمومه وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كلِّ ِ-عموما- وما وراء ذلك على حسب قابله، لا على قدر قائله، لحديث: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله”.[9]

وقد قيل للجنيد: “يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا، فقال: الجواب على قدر السائل، قال عليه الصلاة والسلام: “أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم”.[10]

وقد أكد كثير من المتصوفة صحة ما ذهب إليه الشاطبي من التفرقة بين التصوف والفقه، وأن لكل منهما مجاله الخاص به، قال في ذلك الشيخ زروق: “حكم الفقه عام في العموم، لأن مقصده إقامة رسم الدين، ورفع مناره، وإظهار كلمته. وحكم التصوف خاص في الخصوص، لأنه معاملة بين العبد وربه، من غير زائد على ذلك. ومن تم صحّ إنكار الفقيه على الصوفي، ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه، ولزم الرجوع من التصوف إلى الفقه، ولم يكف التصوف عن الفقه، بل لا يصح دونه، ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به، وإن كان أعلى منه مرتبة، فهو أسلم وأعم منه مصلحة، ولذلك قيل: “كن فقيها صوفيا، ولا تكن صوفيا فقيها”.[11]

وقال الإمام مالك: “من تصوف ولم يتفقه، فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف، فقد تفسّق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”.[12]

قال الشيخ زروق معلقا:

تزندق الأول: لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام.

وتفسّق الثاني: لخلو عمله من التوجه الحاجب منهما عن معصية الله، ومن الإخلاص المشترط في العمل لله.

وتحقّق الثالث: لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق، فاعرف ذلك.[13]

وقال الإمام الشافعي:

فقيها وصوفيا فكن ليس واحدا
فذلك قاس لــم يذق قلبه تُقى

  فإني وحـــــق الله إياك أنصح
وهذا جهول كيف ذو الجهل يصلح[14]

وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف، حالا، وعملا، وذوقا، بخلاف فقيه الصوفية، فإنه المتمكن من حلمه وحاله، ولا يتم له ذلك إلا بفقه صحيح، وذوق صريح.

فعلم الفقه أو علم الظاهر ملازم لعلم التصوف أو علم الباطن تلازم الأرواح للأجساد، ولا يصح أحدها من دون الآخر، وقد أشار إلى ذلك أيضا، الشيخ أحمد زروق، حيث قال: “صِدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه، ولا يصح مشروط بدون شرطه، ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾.[15] فلزم تحقيق الإيمان، ﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾.[16] فلزم العمل بالإسلام. فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه لله تعالى، ولا هما [الفقه والتصوف] إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجميع لتلازمها في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلا فيها، كما لا كمال له إلا بها. فافهم”.[17]

ولهذا التلازم بين الفقه والتصوف فقد حرص علماء المغرب على تحصيلهما وألزموا أنفسهم وغيرهم بها، فجعلت عندهم من الثوابت التي لا يمكن أن يطغى فيها جانب على آخر.

 

الهوامـــــــش

[1]– مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، دراسة وتحقيق: علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة والنشر، ط4، 2006م، 3/991.

[2]– المصدر السابق، 3/991.

[3]– اللمع، الطوسي، تحقيق: عبد الحليم محمود، مكتبة الثقافة الدينية، ط: 1423ھ-2002م، ص: 43-44.

[4]– الطبقات الكبرى، الشعراني، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2006م، ص: 9.

[5]– الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، ط: 1426ھ-2005م، ص: 82-83.

[6]– سورة النحل، الآية: 91.

[7]– الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق: عبد الله دراز، ومحمد عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2009م، ص: 865، المسألة الرابعة عشر في الاجتهاد.

[8]– المصدر السابق، ص : 866.

[9]– رُوي هذا الحديث موقوفا على علي بن أبي طالب، أنظر: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/46.

[10]– قواعد التصوف، أحمد زروق، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1428ھ-2007م، ص: 28.

[11]– قواعد التصوف، أحمد زروق، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1428ھ-2007م، ص: القاعدة: 26، ص: 32.

[12]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 361-362.

[13]– قواعد التصوف، أحمد زروق، القاعدة: 4، ص: 24.

[14]– ديوان الإمام الشافعي، دار المعرفة، بيروت، ط5، 1429ﮪ-2008م، ص: 42.

[15]– سورة الزمر، الآية: 7.

[16]– سورة الزمر، الآية: 7، قوله تعالى: ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى… الآية﴾.

[17]– قواعد التصوف، أحمد زروق، قاعدة: 4، ص: 22.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق