وحدة الإحياءدراسات محكمة

يوتوبيا الاتصال وسؤال القيم.. رؤية معرفية

يحظى الاتصال بإجماع عالمي منقطع النظير، ويتم تمجيد الاتصال في كل يوم وفي شتى بقاع العالم؛ إذ يعتبر شرطا لتحقيق التنمية، ومؤشرا على تطور المجتمعات، وضرورة لنجاح المشاريع والمبادرات..

وحرب الصور التي لا تنتهي، وإغراق حواسنا بالمؤثرات التي تتوالى من كل الجهات: تلفاز، حاسوب، إعلانات.. في البيت، في الشارع، وفي العمل.. يجعل من الصعب علينا أن نوقف الزمن ولو للحظات قليلة، ونتساءل عن أصول ما يجري ويقع من أحداث وما يتوافد من أفكار، عن الخيط الخفي الذي ينظم متفرقها، ويلم شعثها: إن هذا الإجماع العالمي حول تمجيد الاتصال، يبدو مريبا، فهو يقفز على الثقافات المتباينة والحضارات المتمايزة، ليحقق الوحدة في عمق الاختلاف.

 وما يبدو من المسلمات البدهية من قِبل: “إذا اتصلنا أكثر سيكون مجتمعنا أفضل”، يبدو في حاجة ماسة إلى تقليب النظر فيه وإعمال الفكر المتبصر في أصوله وأبعاده. ويمكننا أن نشارك ميشيل مافيزولي، بكل ثقة، قوله: “وإذن؛ فإننا بانتباهنا “لعلامات الزمن”، وبمعرفتنا تأويل كل هذه الأحداث العارضة ذات الطابع السديمي، والشحنة الانفعالية العظيمة التي تشكل الحياة اليومية، يمكننا أن نكون قادرين على إدراك قيمة الأسلوب الجديد للحياة الذي ينمو خلسة في جلدة الجسم الاجتماعي[1].”

وأمام موجة الاتصال الجديدة التي أصابت العالم العربي، وظهور بعض الكتابات النقدية التي تناولت أهمية الاتصال، والصورة، والفضائيات؛ وبحثت في بعدها الأخلاقي، فأدانت الأبعاد المادية فيها، وكل أشكال العري والابتذال.. وجدت من اللازم علي أن أتجاوز العارض من مظاهر الاتصال، للوقوف على أصوله من جهة.. ثم استخراج نموذجه المعرفي الكامن، لاستجلاء منظومة القيم التي يستبطنها مفهوم الاتصال، فلعلنا نجد فيه من النواقص القيمية ما هو أكبر من الميوعة وتشييء الإنسان السائدين في الإعلام المرئي؛ لأنهما مجرد عارضين ينبغي الوقوف على أصولهما، فما التلفاز وغيره إلا وسائل للاتصال، تتغذى من فلسفته، وتستكين لتوجيهاته.

وهكذا سنهدف في هذه المحاولة إلى تحقيق أمرين: أولهما: التأصيل للاتصال باعتباره قيمة اجتماعية تتغلغل في عمق حياتنا اليومية وتؤثر فيها؛ أي الاتصال بما هو يوتوبيا؛ وثانيهما: هو طرح سؤال القيم بخصوص هذه اليوتوبيا، لكنه سؤال لن يتوسل بالإشكال الأخلاقي المباشر، بقدر ما سيقوم على النموذج المعرفي الكامن لهذه اليوتوبيا؛ لأنه هو وحده سيكون كافيا للإجابة عن سؤال القيم في كليته، لنعرف إن كنا بصدد قيم وأخلاق تستمد من المطلق المتجاوز؛ أي الله، عز وجل، أو هي قيم تعاقدية تمليها المصلحة المشتركة.

مدخل: من الاتصال إلى يوتوبيا الاتصال

يقول Bernard miège إن علوم الاتصال ظهرت؛ لأن “مجتمع الاتصال يحتاج إلى علم يدرس عمليات الإعلام أو الاتصال الناجمة عن أعمال منظمة، هادفة، مرتكزة إلى التقنيات، ومشاركة في أشكال التواصل الاجتماعية والثقافية[2].

كما يعتبر الباحثان أرمان ماتلار وميشال ماتلار أن المعرفة في الحقل الاجتماعي أصبحت متداخلة وجد مركبة، تتعدى قدرات التخصص، لذا فإن أي محاولة للبحث في تاريخ نظريات الاتصال، يقتضي الإلمام بمفردات السوسيولوجيا، والسياسة، والسيميائيات، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، واللسانيات، والفلسفة، والاقتصاد، والسيبرانية وغيرها…[3].

وقد يكون هذا التعقيد هو الذي حذا ببعض الباحثين إلى تركيز البحث في تاريخ الاتصال على البحث في تاريخ التقنية أكثر من استحضار تاريخ النظرية[4]، في حين فضل باحثون آخرون البحث في تاريخ نظريات الاتصال ومدارسه[5].

رغم تكامل الرؤى والمدارس السابقة، وقدراتها التفسيرية المهمة.. إلا أنها لا تفسر لنا مثلا التغييرات العميقة التي أدخلها الاتصال على حياتنا، وهي أيضا لا تفسر كيف تحيى قيم الاتصال الجديدة وتستمر[6].. إضافة إلى أنها تفتقر إلى تحديد دقيق لتاريخ التفكير في الاتصال كنمط حياة جديد، وكيف ظهر هذا التفكير، وكيف حافظ على بقائه، وكيف أصبح الاتصال محط إجماع عالمي، أو إيديولوجيا تتخلل كل الإيديولوجيات..

عموما، نحتاج إلى البحث في تاريخ الاتصال بمعيار البحث في تاريخ المفاهيم التي غيرت حياتنا، والتي كانت، حينها، إرهاصا بعصرنا الحالي، نحتاج إلى حلقة تربط عصر ما قبل الاتصال (بشكله الحديث) بعصرنا الحالي، وتبين كيف أحدث الاتصال غزوا لأدق أغوار حياتنا الحميمة..

وقد يكون كلامنا هذا من جنس العتاب الذي وجهه فيليب بريتون إلى معاصريه من مفكري ما بعد الحداثة؛ إذ يعاتبهم على عدم اهتمامهم بتحليل الأهمية المتزايدة لتيمة الاتصال في حياتنا بقوله: “جان بودريار Jean Baudrillard، مثلا، صامت حول هذه النقطة. بل أكثر من ذلك: يرفض إثارتها متذرعا بأن ما بعد الحداثة كانت ستبتلع وتمتص تاريخانيتها الذاتية وأننا بالتالي لن نتمكن اليوم من قول شيء حول هذا التاريخ. الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو[7]، ورغم أنه ملاحظ دقيق لـ”مجتمع الاتصال”، فإنه لا يقول شيئا حول أصوله، سوى أنه قد يجسد، ربما، بعض مُثل عصر التنوير. جان فرنسوا ليوتار Jean François Lyotard، هو الآخر لا يستهويه الموضوع، رغم أن الصلة التي يقيمها بين نهاية المقولات الإيديولوجية الكبرى وبين بعض سمات الحداثة هي مسار هام ضمن هذا المنظور. وحده لوسيان سفيز Lucien Sfez يبحث فعلا عن التموقع التاريخي لمنابع هذا التغيير[8].”

يلاحظ بيير ليفي قائلا: “لقد أصبحت الأرض كرة فارغة تعج بصدى أحاديث الإنسانية[9]“، ولعل كثرة هذه الأحاديث، وإيقاع الحياة السريع، والألفة التي سرعان ما نقيمها مع ظواهر الاتصال.. تنسينا التوقف لإعمال النظر فيما يجري: إن المفاهيم التي أضحت تؤطر عالم الإعلام والسياسة والاقتصاد.. نابعة في مجملها من الجهاز التصوري لمجتمع الاتصال كما سنرى ذلك لاحقا.. وكما أشرت إليه سابقا: “فإننا بانتباهنا “لعلامات الزمن”، وبمعرفتنا تأويل كل هذه الأحداث العارضة ذات الطابع السديمي، والشحنة الانفعالية العظيمة التي تشكل الحياة اليومية، يمكننا أن نكون قادرين على إدراك قيمة الأسلوب الجديد للحياة الذي ينمو خلسة في جلدة الجسم الاجتماعي[10].”

من هذا المنطلق، فضلت تجنب الحديث عن الجانب التقني من تطور الاتصال، وعدم الغوص في تياراته ومدارسه ونماذجه.. واخترت البحث في أصول ظهور ذلك الإجماع العالمي حول فكرة الاتصال؛ عن أصول أفكار مثل: “إذا اتصلنا أكثر سيكون مجتمعنا أفضل”.. عن تاريخ تحول الاتصال إلى قيمة موجهة لأنماط العيش المجتمعية؛ وبالضبط عن تاريخ “يوتوبيا الاتصال”.

 ويعود الفضل في تنبيهنا إلى البعد اليوتوبي للاتصال، إلى كتابات “فيليب بريتون[11]” الرائدة، وإن كنت أختلف معه في بعض الجزئيات التي سأناقشها في حينه.

وأستعمل كلمة يوتوبيا هنا كمقابل للكلمة الإنجليزية Utopia والفرنسية Utopie  عن الأصل اللاتيني Utopia، وإن كان المعجم الفلسفي لجميل صليبا[12] يضع مقابلها بالعربية كلمة “طوباوية”، وكذلك الموسوعة الفلسفية[13]، سوى أن هذه الأخيرة تضع لفظة “طوباوية” كمقابل لكلمة “Utopianism”..

وكلاهما يقدمان تعريفا لليوتوبيا يدور حول العناصر التالية:

ـ وضع اللفظ العربي “طوباوية” كمقابل للفظ الأجنبي..

ـ الطوباوية تطلق على المثالي، الذي لا يحتويه مكان على الأرض..

ـ يطلق وصف الطوباوية على كل أجناس الكتابات التي تصف الأنظمة المثالية التي ينبغي أن يعيشها المجتمع..

ـ تحمل الطوباوية أيضا معنى الخيالي كمقابل للواقعي.

وأما اختياري للاحتفاظ بكلمة يوتوبيا الأجنبية وكتابتها بحروف عربية، بدل استعمال لفظ “الطوباوية”، فمرده إلى رغبتي في تجنب الوجه الدلالي السلبي للفظ “طوباوية”؛ إذ وقر في آذان السامعة أن الطوباوي هو نظير الحالم بمعناه السلبي، والبعيد عن الواقع[14]..

كما أنني أستعمل كلمة يوتوبيا هنا لوصف السمة التبشيرية لمفاهيم الاتصال، ومضمونها أننا “كلما اتصلنا أكثر ستكون حياتنا أفضل”، وبهذا سأستخدم لفظ “يوتوبيا” بالمعنى الذي ذهب إليه Lesjek Kolakowski، والذي وصف اليوتوبيا بأنها: “الاعتقاد بمجتمع يتصف ليس فقط باستبعاد مصادر الشر والصراع والعدوان، إنما تتحقق فيه مصالحة تامة بين ما هو عليه الإنسان، وماذا سيصبح، وما يحيط به.[…] وأننا سنستخدم طريقة في التفكير وفي الفعل المضمون، يمكنها أن تقودنا نحو مجتمع خال من النقائص والصراعات وعدم الرضا،[…] وأننا سنعرف ما هو الإنسان بالفعل، مقابل ما يعتقد أنه هو[15]“.

يوتوبيا الاتصال: النشأة والتطور

1.السيبرانية أصلا ليوتوبيا الاتصال

بعد أن تطرق الكاتبان “فيليب بريتون” و”سيرج برولكس” إلى “تقنيات الاتصال عبر التاريخ” وهذا هو عنوان الفصل الأول من كتابهما: “انفجار الاتصال[16]“، يوردان السيبرانية باعتبارها الحقل المعرفي الذي مهد لظهور الاتصال الحديث في الأربعينيات؛ إذ يقول الباحثان: “سيظهر في الأربعينيات حقل معرفي جديد، مكرس بأكمله تقريبا للاتصال؛ وذلك بالموازاة مع موجة الاختراعات وتطوير تقنيات الاتصال الذي ميز تلك الفترة. إن “السيبرانية”، أو كما يقدمها مؤسسها نوربرت فاينر بكونها دراسة “التحكم والاتصالات”، تحددت معالمها بين سنتي 1942 و1948[17]“. وقد عرفت السيبرانية ذروة تألقها في خمسينيات القرن الماضي، لتعرف بعض الخفوت بدءا من الستينات.. ولكنها مع ذلك ستظل حاضرة، بأفكارها الموجهة ومفاهيمها الجديدة، في كل حديث عن الاتصال في بعده الاجتماعي.

وتعتبر السيبرانية بحق، أصل الاتصال باعتباره يوتوبيا، أو قيمة توجه أنماط عيشنا، وتتدخل في تغيير حياتنا نحو الأفضل. فبعد أن تمكن الاتصال النابع من السيبرانية، من توحيد الكثير من الأبحاث العلمية والمجهودات الفردية أو الجماعية التي كانت تشتغل حول مفاهيم الاتصال دون أن تدرك ذلك، انتقل الاتصال من كونه موحدا لهذه المعارف، ليصبح موجها لحياتنا؛ الأمر الذي يؤكده فيليب بريتون بقوله: “المرحلة الأولى في بناء المفهوم الحديث للاتصال، تكمن تحديدا في ردم ما كان يبدو فجوة بين تطبيقات من دون تسمية وبين المعجم الذي يسمح بالإشارة إليها، وهكذا فقد سمح المفهوم الجديد للاتصال، المولود في العالم العلمي، في قلب ما كان يسمى “السيبرانية”، أن يربط ما بين تطبيقات متباينة. لقد كان له، إذن، دور الموحِد في البداية، في انتظار توقع الأفضل؛ دور القيمة ذات الأهمية الأكثر عمومية، والمتماهية في قسم كبير منها مع الحداثة[18]“. غير أنني سأختلف مع الكاتب حول السمة الحداثية لأفكار الاتصال؛ إذ أنني أرى أنها تقترب من النمط الفكري لما بعد الحداثة أكثر. الأمر الذي سوف أبينه لاحقا.

ونستعمل السيبرانية كمقابل للكلمة الفرنسية cybernétique أو cybernetic الإنجليزية، كما ترد ثلاث ترجمات أخر للفظ الأجنبي هي: السبرنتيكا، والسبرنطيقا، و السيبيرية.. ولن أدخل في جدال حول اللفظ الأنسب؛ إذ ما أسعى لبيانه في هذا المقام هو تاريخ السيبرانية بالدرجة الأولى.

ويوجد في الواقع أكثر من خمسين تعريفا للسيبرانية، وإن كان مؤسسها نوربيرت فاينر يرى فيها “علم التحكم والاتصالات[19]“، أو هي “نظرية الأنساق المعقدة التي تراقب نفسها بنفسها، وهي أيضا نظرية التواصل الآلي والحيواني[20]“.

2.محطات تطور مفهوم الاتصال

تعود الإرهاصات الأولى لظهور المفهوم الحديث للاتصال إلى سنة 1942، وهي السنة التي عرفت تنامي العنف والبربرية العالميين: فمن ملايين الجثث التي راكمتها الحرب، إلى معتقلات النازية، وليختم المشهد العنيف بإلقاء القنبلتين النوويتين على كل من هيروشيما وناكازاكي عام 1945، حيث قتل أكبر عدد من البشر(وهم مدنيون) بضربة واحدة.

 وقد تميزت تلك الفترة بشحذ كل الطاقات والإمكانيات في خدمة الحرب؛ توج ذلك بانخراط كبير للعلماء في مشاريع أبحاث علمية كانت تهدف إلى تحقيق التفوق العسكري والفوز في سباق التسلح.. في تلك الأثناء، كان Norbert Wiener[21] رياضياتيا، وأستاذ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا MIT..

إضافة إلى عبقريته التقنية وبراعته في العلوم الدقيقة، كان فاينر مفكرا لامعا، أجاد طول حياته فهم الأحداث الجارية واستشراف المستقبل، وكانت نبوءاته دائمة التحقق، إضافة إلى أن أفكاره حول الاتصال هي الموجهة دوما لمجتمع الاتصال الحديث، لهذا يقول عنه بيير ليفي المتخصص في فلسفة المعلوميات: “لقد توقع تقريبا المفكر العبقري روبيرت وينر Robert Wiener كل ذلك. ففي عز الازدهار الاقتصادي تحدث هو عن خطر استنفاذ الموارد الطبيعية وعن علم البيئة وعن أسطورة التقدم. أعلن خلال عصر الرخاء، التدهور الديموغرافي للغرب، وتوقع انخفاض مستوى التعليم الثانوي. وقد ألح على أهمية العمليات غير الخطية مستبقا بذلك على ما هو كارثي ومأساوي. إن كتابه: “السيبرنيتيقا والمجتمع” كتاب ما يزال يتمتع بآنية عجيبة، يدين لها الكثير من المعاصرين بالشيء الكثير. ونجد فيه كذلك عرضا دقيقا للمظهر السياسي لنظرية الإعلام[22].”

وقد تبلورت أفكار وملامح يوتوبيا الاتصال من خلال السيبرانية عبر المحطات التالية:

أ. المحطة الأولى

كانت البداية بتشكيل فريق من العلماء ذوي اختصاصات مختلفة تحت قيادة الأمريكي نوربرت فاينر، وبتمويل من مؤسسة Macy[23].. ولعل القاسم الوحيد المشترك بين كل أولئك العلماء هو رغبتهم في تشارك نتائج أبحاثهم المبدعة مع علماء آخرين، رغم اختلاف تخصصاتهم.. ومن بين أهم الإنجازات الفردية لأعضاء الفريق، والتي ستؤثر على إنجازاته الموالية فيما بعد؛ نذكر ما توصل إليه كل من عالم فيزيولوجيا الأعصاب وارن ماك كولوش وعالم المنطق والتربية[24] اللذان استنتجا أن “الفكر الذي هو نتاج النشاط المادي للدماغ في نظرهما، كان مرتبطا بالوظيفة الشبكية للألياف العصبية، وبالتالي فهو مرتبط بنشاط دائم للمبادلات المادية[25].”

وتبعا لهذه النتيجة التي قضت على السمة القدسية للتفكير البشري، والذي كان يعتبر حتى ذلك الحين سرا خفيا يحتكره الإنسان، فإن العمليات الذهنية تصبح تجليا ماديا لشبكات علائقية، تمتد بين مجموعة من العناصر المادية أيضا (العصبونات neurones)، وهكذا اتجهت جهود الفريق إلى محاولة محاكاة بعض الأنشطة الفيزيولوجية الأساسية عند الإنسان، وذلك باختراع أنماط صناعية تحاكي الدماغ البشري.. وهذه الخطوة فتحت المجال أمام أشكال جديدة من التفكير في الإنساني والصناعي، بل وشجعت على محو الحدود بينهما.

وهذه الأبحاث هي التي أثمرت اختراعات مهمة مثل الحاسوب، والجيل الأول من الآليين (Robots) وأقصد به “السلاحف السيبرانية”، التي تمكن William Grey Walter من اختراعها في مطلع الخمسينات.

ب. المحطة الثانية

الخطوة الثانية في تطور الاتصال تمثلت في المؤتمر الذي نظمه كل من Norbert Weiner وJulian bigelow  وArturo Rosenbluth  عام 1942، ثم نشرت أعماله في صفحات قليلة لا تتعدى العشرين صفحة، وذلك بعد عام كامل[26]. ورغم كل الاعتراضات والمآخذ العلمية التي وجهها العلماء لمحتوى الوثيقة، إلا أن تلك الصفحات القليلة مؤسسة لمفهوم الاتصال.. إذا تهاجم الصفحات في البداية المنهج الوظيفي؛ لأنه يدرس فقط ما تتضمنه الظواهر التي يدرسها العلم؛ أي محتواها الداخلي (حسب فاينر)، ثم يتم تقديم البديل: المنهج السلوكي comportemental الذي يصلح لدراسة جميع الظواهر.

ويتميز هذا النص بقابلية قراءته من قبل غير المتخصصين، وبتركيزه الشديد؛ إذ صفحاته القليلة تحاول فقط تدشين علم جديد، عبر تقديم طرح إبستيمولوجي جديد، وكذا تعريف جديد للإنسان، مع إيراد بعض المفاهيم الجديدة التي ستأخذ محلها بقوة في نماذج الاتصال الموالية، ويستلهمها في ما بعد مُنظِروا الاتصال، الرياضياتيون منهم واللسانيون.

ولن أناقش هذا المنهج إبستيمولوجيا، بقدر ما سأحاول التركيز على أفكاره التي ستكون موجِهة ليوتوبيا الاتصال فيما بعد. يقول فيليب بريتون ملخصا محتوى الدراسة: “الفرضية التي تقودها تستحق الانتباه: العلاقات الموجودة بين الظواهر تعتبر في الواقع ليس كمظهر من بين مظاهر أخرى، إنما كمكونات كاملة لنمط وجود الظواهر نفسها. وهكذا نشهد تنامي طرح إبستمولوجي قوي جدا يمكن إعلانه كالآتي: يمكن تفسير الواقع بأكمله بمصطلحات المعلومة والاتصال[27]” وهكذا “يتمثل سلوك الكائنات في تبادل المعلومة[28].”

قد يبدو للبعض أن أهم ما جاء به فاينر في هذا النص هو حديثه عن المعلومة، وجعل هذه الأخيرة وسمتها التبادلية موضوعا للعلم؛ لكنه في الحقيقة يجعل من النشاط التبادلي للمعلومة مكونا لكل الظواهر الطبيعية منها والصناعية، ليصبح الإنجاز الحقيقي هو تسويته للإنسان بالطبيعة والآلات؛ إذ “أن حركة تبادل المعلومة هذه تعتبر مكونا كاملا للظواهر، الطبيعية منها والصناعية[29]“.

وحينما يحدد فاينر جوهر الكائنات (والإنسان من بينها) في حركة تبادل المعلومة، فإنه بذلك يلغي “الداخل” الإنساني، بمعناه المتسامي الذي يحيل على تميز الإنسان.

ثم يقترح فاينر بعد ذلك تصنيفا يجمع بين الظواهر الطبيعية والبشرية والصناعية، ضمن تراتبية صارمة تأخذ معيارا لها درجة تعقد سلوك المعلومة[30].

وحينما ينظر فاينر إلى العالم بأكمله على أنه شبكة من الاتصالات تتيح تبادل المعلومة، فهو بتفكيره هذا يضع الحجر الأساس لبداية تحول الاتصال إلى قيمة.

ج. المحطة الثالثة

المرحلة الثالثة كانت بإصدار كتاب: “السيبرانية، أو التحكم والاتصال عند الحيوان والآلة[31]” عام 1948، بعد أن أنهى فاينر تأليفه سنة 1947.. وهو كتاب متخصص تستعصي قراءته على العامة (على عكس الدراسة السابقة)، وكان فاينر يهدف من خلال هذا الكتاب إلى الترويج لميدان جديد من الأفكار، وإقناع العلماء والمتخصصين بأهميتها..

يتناول الكتاب عدة مقارنات وأمثلة تظهر التماثلات الموجودة بين الجهاز العصبي البشري وبعض الآلات، ليؤكد فيما بعد على أهمية والإمكانات الواعدة للجهاز الذي اخترع حديثا: الحاسوب. ولا ينسى فاينر الحديث عن أبحاثه التي اشتغل عليها طويلا، منذ 1940، حول الأنظمة الأوتوماتيكية للقصف الدفاعي ضد الطيران، ويتحدث أيضا عن صناعة الأطراف الصناعية البديلة.

كما يحرص على وضع الخطوات الأولى للإدماج الاجتماعي لمفاهيم الاتصال، وذلك بمحاولة إدماج السيبرانية في مختلف العلوم الإنسانية.. جاعلا منها نقيضا للحرب والبربرية، ومعلنا في كتابه أن “هؤلاء الذين ساهموا، من بيننا، في العلم الجديد عن السيبرانية، هم الآن في موقف أخلاقي غير مريح؛ لأنه فيما يخص التطورات التقنية العديدة والقادرة التي يسمح بها، كما يقول، لا يمكننا إلا أن نعلنها على العالم، وهذا العالم الذي يحيط بنا هو عالم ,بيرجن[32] وهيروشيما[33]“، (يحيل على العنف والدمار).

د‌. المحطة الرابعة

المرحلة الرابعة، مثلت نضج السيبرانية الذي تجسد في كتاب فاينر الذي أصدره عام 1949، تحت عنوان “الاستخدام البشري للكائنات الإنسانية: The Human Use Of human being”، والذي ترجم إلى الفرنسية تحت عنوان: “السيبرانية والمجتمع[34]“، ويستمر المؤلف في كتابه الذي يحمل عنوانا مستفزا، في تحويل الاتصال إلى قيمة، عبر توجهه إلى المجتمع بمفاهيم الاتصال.

فرغم أن هذا الكتاب امتداد لكتابه السابق، إلا هناك بعض الاختلاف في القضايا العامة التي يناقشها كل منهما، وإن كان كلاهما يبشر بقيمة الاتصال: فالكتاب الأول موجه للخاصة، وفيه تقديم وتفصيل للنظريات العلمية، أما الثاني فموجه للعامة؛ يقدم فيه فاينر الأسباب التي ستجعل من الاتصال قيمة مركزية في استقرار المجتمعات وبقائها، ويناقش طويلا وهو يضع الاتصال مقابل الفوضى الاجتماعية Chaos.

 يقول فيليب بريتون ملخصا نقاش فينر: “لقد دعم أولا، وهو وفي للتيمات العامة التي جاءت في مقالة 1942، فكرة أن المجتمعات البشرية لن تكون في نهاية المطاف مفهومة إلا بتعابير الاتصال، وأقام في مرحلة ثانية معارضة ما بين نموذج المجتمعات “المفتوحة” التي تجعل الاضطراب الأنتروبي[35] يتراجع موضعيا، وبين نموذج المجتمعات “المغلقة” التي تزيده حتى خطر الانهيار. تمضي هذه المعارضة عنده غالبا عبر مجاز الصراع بين الضبابية والشفافية[36].”

وهكذا يؤكد فاينر على أن إقامة مجتمعات اتصالية، تقوم على الشفافية[37] المطلقة، حيث تستطيع كل معلومة أن تجول وتنتقل بكل حرية وانسياب؛ هو الحل الأمثل لحماية هذه المجتمعات من الفوضى والاضطرابات.

ـ أفكار جديدة

من خلال المحطات السابقة، تبلورت ونضجت مجموعة من الأفكار والتصورات حول مفهوم الاتصال، ليس كتقنية أو أداة، وإنماء كرؤية إبستمولوجية، وقيمة جديدة قامت على أنقاض إيديولوجيات الحرب العالمية، وأيضا كنمط للحياة الاجتماعية. وفيما يلي سأستخلص أهم تلك الأفكار التي شملها العرض السابق:

ـ التفكير نشاط مادي للدماغ، يمكن محاكاته بواسطة آلات اصطناعية..

ـ يمكن تفسير الواقع بالكامل بتعابير المعلومة والاتصال..

ـ يتألف سلوك الكائنات من تبادل المعلومة..

ـ تسوية الإنسان بالطبيعة والآلات، واعتماد تراتبية تقوم على درجة تعقد سلوك تبادل المعلومة..

ـ استعمال مصطلح الاتصال الذي عوض عبارة “سلوك تبادل المعلومة” في كتابات فاينر..

ـ السيبرانية (التي تقوم طبعا على الاتصال) تخلص المجتمع من العنف والبربرية..

ـ المجتمعات “المفتوحة” القائمة على الاتصال، تنجو من الوقوع في الأنتروبيا.

السيبرانية: رؤية معرفية

بعدما استعرضنا نشأة وتطور الاتصال كيوتوبيا، نتطرق الآن إلى بسط الحديث عن النموذج المعرفي الكامن في يوتوبيا الاتصال، وذلك لإيماني العميق، وهو موقف أشارك فيه مفكرين مرموقين، بأن كل الممارسات الحياتية، وأشكال التنظيمات الاجتماعية، والإبداعات الإنسانية؛ كلها تستبطن رؤية للكون وللوجود، سواء كانت تلك الرؤية ظاهرة جلية، أو كامنة خفية. ولعل هذا ما يلاحظه ميشيل مافيزولي في الصورة: “فما نسميه وظيفة أيقونية لا صلاحية له في ذاته؛ إذ هو أساسا استثارة، أو إذا شئنا سندا لأشياء أخرى: العلاقة مع الله، مع الآخرين، مع الطبيعة[38].”

وأقصد بالنموذج المعرفي ليوتوبيا الاتصال، موقف هذه الأخيرة، كما أسسها فاينر، من الإنسان والإله والطبيعة… والنموذج المعرفي حسب عبد الوهاب المسيري، هو: “النموذج الذي يحاول أن يصل إلى الصيغ الكلية والنهائية للوجود الإنساني (وكلمة، كلي، في استخدامنا تفيد الشمول والعموم، بينما تعني، نهاية الشيء، غايته وآخره وأقصى ما يمكن أن يبلغه الشيء). وتدور النماذج المعرفية حول ثلاثة عناصر أساسية: (الإله، الإنسان، الطبيعة). […] ومع هذا، لابد أن يعبر أي خطاب سياسي اقتصادي، مهما بلغ من سطحية، عن الأسئلة الكلية والنهائية (الخاصة بطبيعة الإنسان والهدف من وجوده ومصدر معياريته)، فكل قول وكل نص يحتوي على نموذج معرفي. إما ظاهر أو كامن[39].”

وسأستعرض فيما يلي موقف يوتوبيا الاتصال من كل من الإنسان، والإله والطبيعة، لأقوم بعملية تفسيرية لتلك المواقف فيما بعد.

1.الإنسان.. في يوتوبيا الاتصال

نجحت الثورة الفرنسية في تكريس تصور جديد للإنسان، يقوم على مبدأ الحق الطبيعي والإنسانية المشتركة؛ أي أن كل شخص هو كائن إنساني يتمتع بكافة حقوقه الطبيعية بمجرد خروجه إلى الوجود، بغض النظر عن عرقه أو انتمائه الاجتماعي.. مما سمح بتوسيع رقعة الإنسانية على الجميع.

في القرن التاسع عشر، بدأت الداروينية الاجتماعية في الانتشار، حيث مزجت بين الطبيعة والثقافة (كما تراهما)، لتعطي نظاما قيميا مرنا تجاه الأخلاق، بل يسمح بإقصاء هذه الأخيرة بسهولة؛ لأنها لا تنسجم مع قوانين الطبيعة، التي تعطي الغلبة للأقوياء، الشيء الذي سيقلص من مساحة الإنساني السابقة التي كانت حقا لجميع البشر.. كما أن المفهوم الجديد للإنسان الذي صاغه نيتشه ينسجم مع سياق الداروينية الاجتماعية؛ إذ يميز نيتشه بين الإنسان الخارق Submen والإنسان الضعيف، وهو يرى أن الأخلاق والثقافة يمكنان من جعل الإنسان الأشقر مدجنا ومتحضرا، بمعنى أنه خاضع لسلطة الضعفاء[40].

والأفكار ليست موضوعات مادية، يتم إزاحة واحدة وتعويضها بأخرى؛ لذا لا يمكن الجزم بأن كلا من مفاهيم نيتشه والداروينية الاجتماعية عن الإنسان قد عوضتا مفهوم الإنسانية المشتركة، إلا أن هذا لا يمنع من افتراض أن تلك المفاهيم التي قلصت رقعة الإنساني قد شكلت إطارا فلسفيا وسندا تبريريا للعنف والتدمير الذي شهدته الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي نلمسه بوضوح كبير في العنف النازي العرقي الذي تغذى من طروحات نيتشه، ونلمسه بوضوح أقل، ربما للتحامل الإعلامي[41]، في اعتبار المدنيين هدفا عسكريا مشروعا من قبل الحلفاء عبر إلقاء القنبلتين النوويتين.

ويلاحظ فيليب بريتون أن فاينر صاغ مبادئ يوتوبيا الاتصال عنده متأثرا بالعنف والبربرية التي شهدتهما الحرب لعالمية الثانية[42].

من هذا المنطلق، أعادت يوتوبيا الاتصال تركيب مفهوم جديد للإنسان في سياق مفاهيم السيبرانية، وذلك عبر تجريد مفهوم الإنسان من كل الحمولات والتصورات السابقة، وإعادة تركيب رؤية جديدة، تتميز بخاصيتين اثنتين:

أ. إلغاء السند البيولوجي

أول ما تتميز به هذه الرؤية، هو تخلصها من السند البيولوجي الذي اعتبر خلفية لكل التصنيفات العرقية.. من هنا، لم نعد نتحدث عن الإنسان، وإنما عن الكائن الاتصالي: ما يميز هذا الكائن الاتصالي، هو قدرته على إنجاز العمليات العقلية، وهي رغم تعقيدها ذات طبيعة مادية ومستقلة عن الجسد البيولوجي في نفس الوقت، وذلك ما أشرت إليه سابقا.. لذا من الممكن نقلها إلى دعائم أخرى ذات طبيعة صناعية، وقادرة أيضا على إنجاز عمليات تحاكي التفكير البشري، وأقصد هنا أجهزة الحاسوب التي تتجاوز قدراتها كفاءات العقل البشري.

يتم هنا تسوية الإنسان بالآلة، ويبرز الحديث عن “الكائن الاتصالي” بدل الإنسان. ويستنتج فيليب بريتون “أن الإنسانية الجديدة تخص كل الناس، لكن يمكنها أن تتوسع أيضا إلى كافة الكائنات المرشحة لكيان “الشريك الاتصالي” كامل الحقوق[43].”

ويدافع فاينر عن هذه الفكرة قائلا: “أؤيد أن اشتغال الفرد الحي واشتغال بعض آلات النقل الحديثة على وجه الدقة متكافئان[44].”

وعملية تسوية الإنسان بالآلات تركز على التقارب الوظيفي بين التفكير البشري والعمليات المنطقية التي يقوم بها الحاسوب، ولإكمال عملية التسوية هذه، لابد من إلغاء السند البيولوجي للإنسان.. ولهذا حتى عندما نريد أن نفرد الحديث حول الإنسان تحديدا؛ لأن مفهوم الكائن الاتصالي يشمل الآلات أيضا، لا نستعمل كلمة إنسان، بل نتحدث عن “الإنسي الاتصالي” Homo Communicant وهو “كائن من دون داخل ومن دون جسد، والذي يعيش في مجتمع دون أسرار، كائن متوجه بكليته نحو الاجتماعي، وهو لا يوجد إلا عبر المعلومة والتبادل، في مجتمع أصبح شفافا بفضل آلات الاتصال[45].”

وتصبح المعلومة الآن ملازمة لهوية الإنسان، ويشرح ذلك فاينر قائلا: “الهوية الفيزيائية للفرد لا تتشكل من المادة التي يتألف منها […] إن فردانية الجسم هي تلك التي للهب وليس التي للحجر، تلك التي للشكل أكثر منها لشظية مادية[46].”  ويعلق فيليب بريتون على هذا الأمر بقوله: “وكونه هكذا، فإن الكائن إذن يخضع للمناولة وللعمليات والنقل، شريطة، ليس كما عليه الحال الآن، ولكن كما كان سابقا في وقت فاينر، أن نعرف القوانين التي تنظم هذه المعلومة[47].”

لم يعد إلغاء الجسد مقتصرا على تقابل الإنسان مع الآلة.. فما داما من طبيعة واحدة هي الكائن الاتصالي، فلا ضير من دمجهما.. وهو التفكير الذي وجه تكنولوجيا المعلوميات حاليا، نحو إلغاء الحدود بين العضوي وغير العضوي.. يشرح نبيل علي ذلك قائلا: “.. حطمت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ثنائية العضوي وغير العضوي (الحيوي وغير الحيوي). وقد شرعت تكنولوجيا المعلومات بالفعل في المؤالفة بين الفيزيائي والبيولوجيا في مجال تخصصها، وذلك بدمجها بين العناصر الفيزيائية والبيولوجية في تكنولوجيا ,البيوسيليكون, Biosilicon التي يجري تطويرها حاليا لتطوير وحدة بناء أساسية للكمبيوتر أكثر كفاءة..[48].”

ب. إلغاء المركزية الإنسانية

إن ربط تعريف الإنسان بالمعلومة يحيل على الخاصية التبادلية لهذه الأخيرة؛ إذ أن المعلومة لا قيمة لها إذا لم تدخل في شبكة من التداول والاستعمال.. وكذلك الإنسي الاتصالي: لا يتحدد بفردانيته وتعبيره عن ذاته؛ وإنما بانتظامه ضمن السلوك الاتصالي الاجتماعي، وانخراطه غير المشروط ضمن شبكات التبادل.

يقول فاينر: “أن تكون حيا، يعني أن تشارك في تيار مستمر من التأثيرات الواردة من العالم الخارجي ومن الأفعال المؤثرة على هذا العالم، والذي لا نمثل فيه غير مرحلة وسيطة. إن امتلاك وعي كامل بالأحداث في العالم، هو مشاركة في التطور الثابت للمعرفة ولتبادلها بشكل حر[49].”

قد يوحي هذا المقطع بداية بأن الإنسان أو “الإنسي الاتصالي” فاعل في عمليات الاتصال، وناقل إيجابي للمعرفة.. لكن قراءة أكثر تبصرا ستوحي بالعكس تماما: فـ”التيار” عادة ما يسوق أمامه كل ما يقع في طريقه، ولا يترك للأشياء التي يجرفها حرية التوقف أو تغيير الاتجاه.. هذا من جهة. من جهة ثانية، أقف عند قول فاينر: “… والذي لا نمثل فيه (يقصد تيار الاتصال) غير مرحلة وسيطة..” وهنا نتساءل عن مكانة الإنسان الذي شغل “المركز” منذ وقت طويل، ذلك الإنسان الذي شغل مركز الكون في كل الفلسفات الموالية لعصر النهضة، ووصف بأنه متميز عن سائر المخلوقات، وهو سيد لها، بفضل سلطان العلم والتقنية، ذلك الإنسان أصبح الآن مجرد وسيط، أو مرحلة في تيار تبادل المعلومة، مثله مثل باقي الكائنات الاتصالية الأخرى والتي قد تتفوق عليه على مستوى تعقيد أدائها.

واعتبار الإنسان وسيطا، يعني أنه لا يتحدد إلا في سياق اجتماعي تبادلي.. هذا الأمر قد يكون رد فعل على العنف الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، والتي كرست تفوق العرق، عبر تصنيفات متعددة للإنسان، تأخذ الجسد البيولوجي أساسا لها.. لذا صار من اللازم نزع الجسد، وتسوية جميع الناس.. الأمر الذي انتبه إليه فيليب بريتون، فيعلق قائلا: “إنسان الرابط الاجتماعي الذي سيؤسس المثال الحديث للاتصال يتشكل إذن كأطروحة مضادة بشكل شبه تام لإنسان نيتشه “الفائق”. إنه يمتنع عن أن يقاد من الداخل بفعل قوى غامضة لا يمكنها قيادته إلا نحو العنف، نحو إقصاء الآخر والبربرية، من أجل أن يخضع نفسه للضغوط الحقيقية للحياة في المجتمع. وهكذا فإن مجتمع الاتصال يرفض الإقصاء[50].”

وإن كان الاتصال يفرض إقصاء من نوع جديد: إنه إقصاء ذو سند تقني.. إذ لا يمكن للأميين، والذين لا يتقنون لغة الحاسوب، ومن لا يحسنون التعامل مع آلات الاتصال الفائقة التكنولوجيا… لا يمكن لكل هؤلاء أن ينخرطوا في مجتمع الاتصال.

2.الإله/الدين، الطبيعة

أبدأ الحديث عن حضور الإله في يوتوبيا الاتصال بالإشارة إلى مفارقة واضحة: غياب الإله الفاعل، وحضور الشيطان كفكرة دينية مسيحية.. إذ إنه من المعتاد في كل الديانات السماوية أن يمثل الإله الخير المطلق، وهو المتصرف في الكون والعباد، مقابل الشيطان الذي يمثل منتهى الشر والإغواء.. في حين أن يوتوبيا الاتصال لا تشير إلى الإله بتاتا، بينما هناك استحضار للمفهوم الديني المسيحي للشر.

كنا قد رأينا سابقا أن الاتصال يخلص المجتمع من الوقوع في الإنتروبيا، وعرفناها، كتبسيط مرحلي، بالاضطراب العكسي للنظام المتولد من المعلومة.. غير أن مفهوم الإنتروبيا entropy في الأصل قد استعير من حقل التيرموديناميك؛ إذ تعرفها الموسوعة الفلسفية[51] بأنها كلمة من أصل إغريقي وتعني الطاقة، قدمها رودلف كلوسيوس (1854) وربطها بنظرية الحرارة، فهي الطاقة أو الحرارة التي يفقدها الجسم بأي شكل من الأشكال. وتزايد الإنتروبيا أو فقد الجسم لحرارته يعني اضطراب توازنه وتخلخل نظامه.

وقد نقل لودفيج بولتسمان Boltzman (1844-1906) تطبيق هذا المفهوم من مجال الديناميكا الحرارية إلى مجال الاحتمال الإحصائي، وبسحبه على الكون، فإننا سنتحدث عن الموت الحراري للكون.. ونقل كلود شانون (1948) مجال تطبيقها للمرة الثانية إلى نظرية الإعلام، فطالما أن زيادة الإنتروبيا تعني اختلال النسق، فإن هذه الزيادة تعني كذلك استحالة الحصول على معلومات عن النظام والتعامل معه على هذا الأساس[52]..

وحينما يدرج فاينر مفهوم الإنتروبيا ضمن نظريته للاتصال، فليس فقط على سبيل استعارة مفهوم الاضطراب ودمجه في سياق الشبكة الاتصالية للمجتمع، وإنما هو يستحضر المفهوم كمؤمن مسيحي مخلص.. إذ يسحب مفهوم الإنتروبيا على الحياة الإنسانية، ويضمنه شرور الشيطان، وكأنه يتحدث عن هذا الأخير، بلغة علمية رصينة..

 فهو يعتبر بداية أن الكون نظام مغلق، وهو بدوره معرض للخراب بفعل الإنتروبيا، وكل ما يمكن فعله هو تأخير هذا الأمر حد الإمكان.. إذ يقول: “نحن غرقى في كوكب مكرس للموت” ويتابع: “حين الغرق، لا تختفي القواعد والقيم الإنسانية بالضرورة، وعلينا أن نستخلص منها أفضل جزء ممكن. سيتم ابتلاعنا لكن يجب أن يكون ذلك منذ الآن بطريقة يمكن اعتبارها خليقة بعظمتنا[53]..” وعلى حد قوله، هناك نوعان من الشياطين: شيطان القديس أوغسطين[54] الذي يسمى النقصان، وشيطان المانويين[55] manichéens الذي هو شيطان ضال، خبيث يزرع الفوضى. وهذا التمييز أساسي في نظر فاينر؛ إذ هو يعتبر الإنتروبيا الطبيعية للكون، نقصانا أصيلا، وذاتيا.. في حين أن الإنتروبيا التي يولدها الإنسان تحاكي شر شيطان المانويين.. ولهذا تصبح للاتصال مهمة مزدوجة: التصدي لإنتروبيا الكون الأصيلة، وإنتروبيا الإنسان الماكرة.. ويضيف فيليب بريتون في هذا السياق: “إن دور الاتصال هو إذن التصدي في آن واحد للفوضى التي يحدثها الإنسان وللشر الذي تحمله الطبيعة في داخلها. فاينر، مثل كل اليوتوبيين، يعارض بشدة المانوية التي تقول بوجود الخير والشر في أن واحد هذا إذا سلمنا بوجهة نظر “جيل لابوج”: “إن الكون عند فاينر هو الكون الذي نحارب فيه الشيطان على أمل الانتصار عليه، ولو موضعيا. ومن هذا المنظور، فإن هذه المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق رجل العلم[56].”

ومن هذا المنطلق، فكل سلوك خاطئ وسلبي يصدر عن الإنسان، سيؤدي حتما إلى تفاقم الإنتروبيا الطبيعية، الأمر الذي سوف يعجل بفناء الإنسان والطبيعة على السواء.. ويبقى الحل المثالي لإنقاذ الكوكب، هو نقيض الإنتروبيا: المعلومة، التي ينبغي لها أن تجول بدون توقف، وتنتقل بفضل الاتصال حتى تخلق مجتمعات مفتوحة، أو على الأقل جزءا من هذه المجتمعات التي تستعصي على الإنتروبيا، وتحقق التوازن والنظام، وبهذا قد نكون نجحنا في محاربتها ولو موضعيا.. ولأن السيبرانية قد جمعت كلا من الطبيعي والإنساني والصناعي في الاتصال، فإن تبادل المعلومة يصبح شرط بقاء للجميع: الإنسان، الرباط الاجتماعي، والكون أيضا.

ونلاحظ هنا غياب الحديث عن الإله الفاعل، مقابل حضور الشيطان بمفهومه المسيحي “الأوغسطيني” (النقصان الأصيل) وذلك على شكل الإنتربيا. كما نلمس أيضا نوعا من الالتزام البيئي تجاه الطبيعة، ما دام الإنسان هو المكلف بحمايتها من الإنتروبيا.

محاولة تفسيرية: بين الحلولية والتوحيد

1.مسلسل التحديث والعلمنة

يميز عبد الوهاب المسيري بين “العلمانية الجزئية” التي تعني “فصل الدين عن مؤسسات الدولة المختلفة”، و”العلمانية الشاملة”، التي “لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر، ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتم نزع القداسة تماما عن العالم (الإنسان والطبيعة)، بحيث يصبح مادة استعمالية قابلة للتوظيف، وتصبح الطبيعة والمادة هي المرجعية الوحيدة لسلوك الإنسان ورؤيته في الكون.

ونحن نذهب إلى أن التحديث والحداثة وما بعد الحداثة هي مراحل ثلاث في متتالية العلمانية الشاملة. فالعلمانية الشاملة ليست جوهرا ثابتا، ولا برنامجا فكريا محددا يبتدئ كله في عالم التاريخ دفعة واحدة، وإنما هي متتالية تتحقق تدريجيا عبر الزمان[57].”

كما أن هذه المراحل الثلاث، لا يبدو التدرج فيها واضحا عبر الزمان.. فلا نستطيع أن نحدد مثلا فترة زمنية دقيقة نخصها بمرحلة الحداثة ونحدد سنة بعينها تصلح لانطلاق مرحلة ما بعد الحداثة (وإن كانت سنة 1968 تبدو مغرية).. فهذه المراحل عبارة عن متتالية نموذجية للتفسير، وتعينها في الزمن يكون متداخلا ومتزامنا؛ ويستغرق مسلسل التحديث والعلمنة خمس مراحل[58]:

أ. الواحدية الإنسانية  

يصبح الإنسان مركز الكون، ومن ثم يواجهه دون وسائط. ويسعى إلى إثبات جوهره الإنساني مقابل الطبيعة، وذلك باسم الإنسانية جمعاء. فمع الإيمان المتزايد بقدرة العلم، وأمام اتساع رقعة المعلوم [الرحلات الاستكشافية التي توجت باكتشاف العالم الجديد: أمريكا]، تكرس خطاب السيطرة على الطبيعة أكثر. حيث ثم استبعاد كل التفسيرات الغيبية والخرافية عن دراسة الظواهر الطبيعية. وأصبح التعامل معها يعتمد على العلوم العقلية الموضوعية “اللاشخصية” بعيدا عن أية قيمة أو غاية تحقيقا للموضوعية. فالمجهول مرحلة مؤقتة سيتم تجاوزها، بعد أن أصبح الأمر مجرد اكتشاف للقوانين “العلمية” التي تحكم حركة الكون.

ب. الواحدية الإمبريالية

لكن بتنامي السيطرة على ثروات الطبيعة، وبتضارب المصالح؛ ظهرت ملامح صراع جديد؛ إذ أصبح خطاب السيطرة على الطبيعة مقرونا بخطاب السيطرة على البشر، فأصبح كل واحد يسعى إلى إثبات جوهره الإنساني مقابل الطبيعة باسم ذاته الفردية. واتخذ خطاب السيطرة على البشر أبشع صورة وأكثرها دموية (لكن ليست الأكثر خبثا) وهي الاستعمار[59].

وليس من الغريب في شيء أن يعلن أنطوان مون كريتيان في نهاية عصر النهضة: “إن الإنسان ولد ليعيش للعمل المستمر والاحتلال[60].”

وهكذا، “تصبح الذات الفردية، لا “الإنسانية جمعاء”، هي موضع الحلول، فيؤله الإنسان الفرد نفسه في مواجهة الطبيعة، وفي مواجهة الآخرين ويصبح إنسانا إمبرياليا[61].”

ج. ثنائية الإنسان والطبيعة الصلبة

وبينما يكون الإنسان (الغربي) غارقا في فتوحاته العلمية والجغرافية.. تبدأ ثقته في انتصاره على الطبيعة بالتزعزع.. فمع اتساع رقعة المعلوم، تتسع أيضا رقعة المجهول.. ويتضح أن الطبيعة تعمل وفق قانونها الداخلي؛ وهو قانون أكثر تعقيدا مما كان يبدو للوهلة الأولى، وهو أيضا قانون مستقل بذاته.. فالطبيعة تسير بذاتها ولذاتها، غير متوقفة على شيء خارجي…(سواء كان الإنسان أو الله عز وجل..) وهكذا إضافة إلى الإنسان المتمركز على ذاته التي تشغل مركز الكون، تظهر الطبيعة مكتفية بذاتها التي تشغل مركز الكون.

د. الواحدية الصلبة

لكن الإنسان مكون من خلايا، هي بدورها مكونة من عناصر وذرات هي نفسها التي تكون أجزاء الطبيعة… “فالعالم بأسره مكون أساسا من مادة واحدة تشكل كلا من الطبيعة والإنسان، وهي مادة قد تكون أكثر تركيبا في الإنسان منها في الطبيعة، ولكنها تظل في نهاية الأمر والتحليل الأخير مادة عامة لا قداسة لها ولا أسرار فيها، وليس لها حرمة خاصة سواء أكانت في الشجرة أم الفراشة أم الإنسان؛ مادة خاضعة لقانون طبيعي واحد أو مجموعة من القوانين الطبيعية التي تتسم بالوحدة النهائية، فلا يوجد قانون للإنسان وآخر للطبيعة[62].”

وهكذا يرد الإنساني إلى الطبيعي؛ فيفسر على أنه كيان بيولوجي مؤلف من أجهزة لها وظائفها المحددة، القابلة للقياس والوصف.. وهو أيضا مجموعة من الدوافع النفسية والرغبات القابلة للدراسة والحصر.. عموما تصبح الطبيعة/المادة مركز الحلول والمرجعية النهائية..

ﻫ. الواحدية السائلة

قلنا أن الطبيعة/المادة أصبحت موضع الحلول، ومركز الكون… لكنه مركز فضفاض يتسع لكل شيء.. فتضفى القداسة على كل شيء..على المادة بتجلياتها اللانهائية… لتنزع عن كل شيء… “فتتصاعد معدلات الحلول والتفكيك، وتتعدد مراكز الحلول إلى أن تصبح الصيرورة هي مركز الحلول، ويصبح النسبي هو المطلق الوحيد، ويصبح التغير هو نقطة الثبات الوحيدة. حينئذ تفقد الطبيعة/المادة مركزيتها، باعتبارها المرجعية النهائية. ويغيب في نهاية الأمر كل يقين وتسيطر النسبية تماما وتتعدد المراكز ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة الكاملة[63].”

2.تأويل ما بعد حداثي

بعد هذه الجولة في محطات مسلسل التحديث والعلمنة، نتساءل عن موقع مفاهيم يوتوبيا الاتصال في هذا المسلسل.. ورغم أنني أطلت بعض الشيء في سرد المحطات الخمس، إلا أنني أعتبر هذا السرد ضروريا، وذلك لتوضيح الجهاز المفاهيمي الذي أشتغل من خلاله من جهة، وضمان الحفاظ على سياق التحليل من جهة ثانية.

رأينا فيما سبق أن مفهوم الإنسان يتراجع في يوتوبيا الاتصال، ليحل مكانه الحديث عن الكائن الاتصالي، وهذا الأخير تتحدد هويته كما يلي:

ـ الكائن الاتصالي ليس له سند بيولوجي أو هوية فيزيائية، ويشمل الإنسان والآلة وكل كائن آخر يقوم بسلوك اتصالي..

ـ الكائن الاتصالي لا يوجد إلا عبر المعلومة والاتصال..

ـ لا يتحدد الإنسي الاتصالي بفردانيته، وإنما بانتظامه في سلوك اتصالي..

ـ ليس للكائن الاتصالي روح المبادرة في شبكة الاتصال، بل هو فقط وسيط.

يتضح من خلال هذه الخصائص، أن الإنسان أبعد ما يكون عن المركز.. فهو مجرد وسيط في تيار الاتصال.. وهذا يسمح لنا بتجاوز مراحل التحديث الثلاث الأولى: الواحدية الإنسانية، الواحدية الإمبريالية، ثنائية الإنسان والطبيعة الصلبة.. لأن كل هذه المراحل الثلاث تشترك في مركزية الإنسان. في حين أن إنسان الاتصال، كما أوضح Bateson Gregory تلميذ فاينر: “لا يفعل، إنه ينفعل، ليس تجاه فعل، إنه ينفعل تجاه رد فعل[64]“،  ونستطيع أيضا استثناء مرحلة الواحدية الصلبة؛ حيث يرد الإنساني إلى الطبيعة/المادة؛ لأن الإنسي الاتصالي يجرد من سنده البيولوجي.. ويتم استثناء الجسد. وهنا نكون قد استنفذنا محطات الحداثة، ولا يبقى لنا إلا طرق أبواب ما بعد الحداثة لعلنا نظفر بتأويل ما لم نحط به علما..

إن إلغاء الجسد يحيل في الحقيقة على نفي الإنساني، ورده إلى الطبيعي المادي بداية، ليصبح الجسد البشري مادة استعمالية قابلة للتوظيف بلغة المسيري رحمه الله.

غير أنني أعتقد أن الأمر تجاوز حتى مرحلة رد الإنساني إلى الطبيعي؛ لأننا بهذا سنحافظ على المركز ولو كان الطبيعة/المادة.. إذ يتعلق الأمر على ما يبدو بنفي الإنساني، ورده إلى الوظيفي؛ أي إلغاء أي وجود مادي للإنسان يتعين في المكان، والنظر إليه كمهمة تنجز[65]. وحتى الجسد يصبح سندا لمجموعة وظائف، أو هو مجموعة وظائف في حد ذاته، مثل كرسي نستعمله للجلوس، كما قد نضع عليه أشياءنا أو نسند به بابا مفتوحا.. ليصبح الجسد البشري مساحة إعلانية حينما يرتدي لباسا يروج لسلعة، أو واجهة تعرض عليه الثياب الجديدة (عارضات الأزياء).. وتمتد العلمنة لتطال أدق خصوصيات الأسرة، فيتم فصل الوظائف الثلاث التي لم تكن توجد إلا مجتمعة في مؤسسة الزواج: الحب والجنس والإنجاب. وهذا ما يلاحظه عبد الوهاب المسيري في قوله: “… حيث يصبح النشاط الجنسي هدفاً في حد ذاته، منفصلاً عن أي تركيبة إنسانية، توجد الآن ظاهرة الإحجام عن الإنجاب في المجتمعات العلمانية.. وهذا مرده أن الجنس قد انفصل عن الإنجاب، وتحرر تماماً من مشاعر الحب والألفة المركبة، ولذا قد تمارس الأنثى نشاطاً جنسياً مع رجل، ولكنها تنجب من رجل آخر، ثم تعيش مع ثالث، فكأن النشاطات الثلاثة (الجنس، الإنجاب، الحب) أمور مستقلة تمايزت وظيفيا بحيث أصبح كل نشاط يشير إلى ذاته. […] الذي يلاحظ، أن علاقات الرفقة أو التعايش تتسم بقدر كبير من التعاقدية البرانية والانضباط الشديد، وهي صفات تسم علاقة المرء برئيس المستخدمين لا علاقة المرء بمن يحب[66]“، بمعنى إن حتى العلاقات الإنسانية الحميمة لم تعد تلقائية وعفوية بقدر ما أصبحت تتسم بكثير من الالتزام، وكأنها وظيفة يجب إتقانها، أو علاقة تعاقدية أكثر منها إنسانية.

ويوتوبيا الاتصال التي نفت الإنساني وردته إلى الاتصالي، لن تكتفي بمجرد تحويل الإنساني إلى مجموعة وظائف، بل سيمتد الأمر إلى تجريده من احتكار هذه الوظائف؛ وهاهي أبحاث الواقع الافتراضي وعلم الأعصاب وعلوم أخرى.. تنذر بإلغاء احتكار الإنسان للوظيفة الجنسية: إذ تم اختراع جهاز يحاكي التجربة الجنسية الكاملة! وهو ما أطلق عليه “هوارد رينغولد” اسم “Teledildonics[67]“، ويتكون الاسم من ثلاثة أجزاء: “Tele” أصلها من “télévision”، وكلمة “dildo” تشير إلى جهاز شائع في الغرب يحاكي العضو الذكري، إضافة إلى “onics” المشتقة من “electronics”. ويعمل هذا الجهاز على توفير خبرة جنسية كاملة لمستعمله عبر مؤثرات صوتية وبصرية، إضافة إلى مجسات وأجهزة استشعار متصلة بالجسم، تجسد له علاقة بالشريك المتصل به عبر الإنترنت من خلال الواقع الافتراضي.

وتسعى مثل هذه الممارسات إلى تكريس نفي الإنساني؛ إذ وجود وظيفة معينة لا يقوم بها إلا الإنسان، يجعل من هذا الأخير متميزا عن بقية الكائنات الاتصالية من جهة؛ ومن جهة ثانية، يضفي على الإنسانية بعض القدسية تجعله كائنا أسمى من باقي المخلوقات..

ونلاحظ أن أغلب الكتابات العربية التي ربطت الإعلام والاتصال بما بعد الحداثة، ركزت في نقدها على كون عالم الإعلام والاتصال يعمل على تشييء الإنسان وتسليعه، وذلك عبر الإعلاء من قيمة الغريزة، وتوظيف الجسد[68]. وإن كنت لا أختلف مع هذا الرأي عموما، إلا أنني أرى أن عملية التشييء هذه لا تعدو أن تكون مجرد مرحلة مؤقتة ضمن عملية أكبر وأخطر، هي ما أسمييه تمييع الإنساني[69]، ودمجه في قلب الصيرورة، الصيرورة التي تعتبر المركز في فلسفة ما بعد الحداثة[70].

ونقصد بالصيرورة أن الثابت الوحيد في ما بعد الحداثة هو التغيير المستمر، والمطلق الوحيد هو عدم وجود مطلق.. فيتم نفي الإنساني والإلهي على حد سواء.. ويكرس الاتصال كل الوسائل لجعل الصيرورة في قلب الوجود، منها تغيير مفهومي الزمان والمكان: ألم يسمح الإنترنت بتغيير مفهوم المكان؟ ألم يتعب الجميع من اللهاث وراء الإيقاع السريع للحياة؟ فعلى سبيل المثال، يضيف بيير ليفي: “ليست الإعلاميات مجرد أداة، بل هي تقنية منظمة (بكسر الظاء) للبنيات. فهي تحاول أن تغير تشكل الزمان والمكان والاجتماعيين، والحياة اليومية تبعا للتوازنات الجيوبوليتكية[71].”

حينما تحدث فاينر عن الإنتروبيا، كان يصر على حتمية هلاك الكون والحياة، وهو أمر لا يجد منه مفرا؛ إذ حتى المعلومة في أكثر صورها مثالية، لا تملك سوى تأخير ذلك الفناء.. فيقع الكل في قبضة الصيرورة، وتصبح هي المطلق الوحيد.. المطلق الوحيد هو حركية تبادل المعلومة/الإنسان، حتى بلوغ الهلاك المحتم، فـ”نحن غرقى في كوكب مكرس للموت[72]“، ولهذا حينما يتم إلغاء الجسد البيولوجي، تتجنب يوتوبيا الاتصال أي تحديد مادي للإنسان، ويعرف فقط وظيفيا: إنه كائن اتصالي، وهذا الاتصال مستمر في مجرى الزمن؛ إذ لا يمكن إيقافه، فهو موجود بوجود الإنسان ومستقل عنه في نفس الوقت.. لذا نتحدث عن الصيرورة الاتصالية.. وهو أيضا (الإنسان) نمط معلومة، والمعلومة ليست شيئا ماديا، إنها المعرفة التي تعيش عبر انتقالها..

وأحب أن أنبه هنا إلى ملاحظة مهمة، تبرز من خلال ملاحظة مسألتين:

أولا: مسألة وجود الاتصال بوجود الإنسان، ما دام مخلص الكوكب من الأنتروبيا، وفي نفس الوقت استقلال الاتصال عن الإنسان وعدم ارتباطه به، مادام الإنسان مجرد كائن اتصالي من بين كائنات أخرى تحافظ على استمرار الاتصال.

ثانيا: عدم وجود إله فاعل في المنظومة الفلسفية للاتصال، ما دام الهلاك حتميا، ولن يوقفه أي شيء، ولا يقوم الاتصال إلا بتأخيره عبر تجنب الإنتروبيا؛ وأيضا في نفس الوقت، الدين المسيحي حاضر بحضور شيطان القديس أوغسطين المتمثل في الأنتروبيا، والتي يتصدى لها الكائن الاتصالي ليخلص منها العالم والطبيعة: الكائن الاتصالي/وظيفة الاتصال هي المسيح المخلص الجديد.

نلمس في الملاحظتين السابقتين وجود ثنائية الحضور/الغياب في آن واحد، والتأرجح بن الشيء ونقيضه دون إثبات التحقق الكامل لأي منهما؛ وهذا مفهوم أساسي في أدبيات ما بعد الحداثة التي تحرص على استمرار هذه الثنائية في كل الأنساق. و”الحضور Presence، مصطلح استخدمه هايدغر وأشاعه دريدا، و”الحضور” هو مالا يستند وجوده (حضوره) إلى شيء إلا نفسه، والحقيقة هي التمييز بين الحضور والغياب… كما عرفه دريدا بأنه الصلب الثابت لأي نسق فلسفي[73].”

لذا يتم الحرص على عدم “حضور” عنصري الثنائية: الإله والإنسان؛ لأنهما قطبا كل فلسفة توحيدية؛ وحتى وجود الغياب وحده… هو شكل من أشكال الوجود يستدعي الحضور ضمنيا…”ولذا لابد من الوصول إلى نقطة ليس فيها حضور أو غياب، نقطة “بينية” مثل الاختلاف والتأجيل الذي ليس بحضور أو غياب[74].”

وبهذا تعمل يوتوبيا الاتصال على إلغاء التوحيد الإستخلافي، وإلغاء ضربي الحلولية التقليديين: حلول الناسوت في اللاهوت، وحلول اللاهوت في الناسوت.. لتكرس حلولية من نوع جديد: حلولية اللاهوت في الصيرورة.

ونلخص ما سبق فنقول: أن يوتوبيا الاتصال عملت على تشييء الإنسان بداية، لتصل إلى تمييعه نهاية وحصره في الوظيفي. وأنه لا وجود للدين أو الإله الفاعل، مع حضور للشر المسيحي: وهذه الثنائية وقائية؛ تحرص على عدم تحقق الوجود الإلهي ولو بمنظور حلولي.. ليحل الإلهي في الصيرورة ويصبح المطلق الوحيد، ويتحول الاتصال/الوظيفة إلى مسيح مخلص لرقاب العباد والجماد.

ومن خلال هذه النتيجة، نستطيع أن نقول أن الأمر أكبر وأجل من الحديث عن القيم في الإعلام والاتصال بمعناها الأخلاقي، وإن كان ضروريا، فمسألة العري أو الإباحية، مثلا، تصبحان مجرد مظهر لمكانة الإنسان في النموذج المعرفي الاتصالي، وبالتالي إذا كانت الدعوات الأخلاقية ضرورة لدرء الشر الواقع، فالبحث في نظرية اتصالية عربية إسلامية تستبطن قيم التوحيد، وتنهل من فلسفة التعارف، أمر ضروري لإيجاد نموذج اتصالي مقابل، يجعل من القيم الإنسانية وقيم الاستخلاف، موجها لعالم الاتصال، ومؤطرا لتقنياته وأدواته.

 الهوامش

  1. ميشيل مافيزولي، تأمل العالم: الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية، ترجمة فريد الزاهي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الرباط: سلسلة الترجمات، 2005، ص125.

 .2Bernard Miège, La Pensée communicationnelle, la communication en plus, 1;Grenoble, Presse universitaire de Grenoble, 1995, P 84.

  1. أرمان ماتلار وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة وتحقيق: نصر الدين لعياضي والصادق رابح، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005.
  2. لمزيد من التفصيل حول تاريخ تقنيات الاتصال، أنظر:

– Patrice Flichy, Une histoire de la communication moderne, La Découverte, Paris, 1991.

– Marshall McLuhan, La Galaxie Gutenberg, la genèse de l’homme typographique Paris, Gallimard 1977, tomes 1 & 2 collection idées.

– Marshall McLuhan ,Pour comprendre les médias, Ed. Seuil, coll. Points, 1968.

– عبد الله محمد بن عبد الرحمان، سوسيولوجيا الاتصال والإعلام: النشأة التطورية والاتجاهات الحديثة والدراسات الميدانية، ط1، مصر: دار المعرفة الجامعية، 2000.

  1. أنظر:

– الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة العربية، ط1، دار الفكر، دمشق، سوريا. 1998، المجلد الأول/العلوم التطبيقية / التقنيات (التكنولوجية) / الاتصال.

– رايص نور الدين، نظرية التواصل واللسانيات الحديثة، مطبعة سايس، فاس، ط1، 2007، من ص41 إلى ص75.

[6]. لقد قمت بتفسير هذا الأمر بما أسميته بالنماذج الإدراكية، أنظر:

– هشام المكي، بين الصورة واللغة: هل أصبحت الحياة طقسا ثابتا للمحاكاة؟ مجلة إسلامية المعرفة، فصلية فكرية محكمة يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 59، شتاء 2010.

[7]. Gianni Vattimo, La société transparente, Descles de Brouwer, Paris, 1990.

[8]. Philippe Breton, L’utopie de la communication: Le mythe du village planétaire, La Découverte, Paris, 1997, p: 100.

  1. بيير ليفي، ميثولوجيا، سلسلة ضفاف، سلسة تعريبات يشرف عليها الدكتور محمد سبيلا. الكتاب الخامس عشر: إشكاليات الفكر المعاصر، ترجمة محمد سبيلا، ط1، 2009، ص220.
  2. ميشيل مافيزولي، تأمل العالم: الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية. م.س. ص125.
  3. أتحدث هنا عن توجهه العام في التعاطي مع قضايا الاتصال، لكنني أخص بالذكر كتابيه:

– Philippe Breton; L’utopie de la communication: Le mythe du village planétaire. Paris, La Découverte, 1997.

– Philippe Breton et Serge Proulx; L’explosion de la communication; Paris, La Découverte, 1996.

  1. جميل صليبا، المعجم الفلسفي: بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية. ج2، دار الكتاب اللبناني، ط 1982، باب الطاء: طوباوية، ص24.
  2. عبد المنعم حنفي، الموسوعة الفلسفية، تونس: دار المعارف للطباعة والنشر، ط 1992، حرف الطاء، طوباوية، ص279.
  3. لقد أشار المعجم الفلسفي لهذا الاستعمال الثاني لكلمة “طوباوية” بقوله: “… فإن إطلاق لفظ الطوباويات على هذه الرؤى لا يخلو في بعض الأحيان من زراية، ومنه قولهم الطريقة الطوباوية Méthode utopique، وهي نقيض الطريقة العلمية، […] والروح الطوباوية Esprit utopist نقيض الروح الواقعية”.
  4. أورده:

– Gilles Lapouge, Utopie et Civilisation, Albin Michel, Coll Bibliothèque Idées, 1999; P278.

أنظر أيضا:

– LESZEK KOLAKOWSKI, The Death of Utopia Reconsidered: The taner lectures on human values, The Australian National University, June 22,1982.

[16]. Philippe Breton et Serge Proulx; L’explosion de la communication; op cit.

  1. المرجع نفسه، ص89.

[18]. Philippe Breton, L’utopie de la communication, op. cit; p15.

  1. أنظر:

– Philippe Breton; L’utopie de la communication,op cit, p19.

[20]. Roger Mucchielli, Communication et réseaux de communication, op. cit. p: 16.

  1. Norbert wiener ولد في 26 نونبر1894 في الولايات المتحدة الأمريكية من أبوين يهوديين، وكان والده أستاذا للغات في جامعة هارفرد. حصل على الدكتوراه من هارفارد حول المنطق الرياضي سنة 1912، وعمره لم يتجاوز 18 سنة.  ثم تحول ليدرس في إنجلترا وألمانيا. اشتغل فاينر كمحاضر في هارفرد وفي شركة جينيرل إليكتريكس. في الحرب العالمية اشتغل لحساب الجيش وطور الآليات المضادة للطيران أو ما يسمى الدفاع الجوي، كما عمل في العديد من المشاريع البحثية. توفي في 18 مارس 1964 وعمره سبعون عاما.

[22]. بيير ليفي،ميثولوجيا. م.س، ص207.

المقال الأصلي:  Pierre Lévy, L’informatique et l’occident; esprit,N 7-8, 1982, Paris.

[23]. Jean-Pierre Dupuy, Aux origines des sciences cognitives, La Découverte, Paris, 1992.

[24]. أنظر:

– Warren McCulloch & Walter Pitts: «A Logical Calculus of The Ideas Immanent in Nervous Activity». From the university of Illinois, College of medicine, Departement of psychiatry at the Illinois neuropsychiatry institute, and the university of Chicago, Bulletin of mathematical biophysics; Volume 5, 1943.

 [25]. المرجع نفسه، وهذه الأفكار حول الطبيعة المادية للتفكير شكلت منطلق أبحاث Von Neumann لإنجاز “دماغ إلكتروني” تجسد في اختراع الحاسوب.

[26]. أنظر النص في:

– Behavior, Purpose and Teleologi; Arturo Rosenbueth, Norbet Wiener, Julian Bigelow, in Philosophy of Science, Volume 10, Issue 1 (Jan 1943).

[27]. L’utopie de la communication; op cit, p: 25.

[28]. المرجع نفسه، ص26.

[29]. المرجع نفسه.

[30]. أنظر تعليق فيليب بريتون على المقال في:

[30]. L’utopie de la communication; op cit, p: 24-28.

[31]. Norbert Wiener; Cybernetics or Control and Communication in the Animal and the Machine, Librairie Herman et Cie, Paris, 1948.

[32]. يحيل الكاتب على أحد المعتقلات النازية المشهورة أثناء فترة الحرب العالمية، ويدعى Bergen Belsen.

[33]. Cybernetics or Control and Communication in the Animal and the Machine,op cit, p: 38.

[34]. Norbert Wiener, Cybernétique et société, Deux-Rivves, Paris, 1952.

[35]. “تتدخل مصادر عشوائية الطابع في أنظمة الاتصالات على شكل ضجيج داخلي أو خارجي مؤدية إلى تغيير معالم الرسالة وتشويهها، وهذا ما يسمى الأنتروبيةentropy  أو معيار الانحراف عن النظام الأصلي”. عن الموسوعة العربية، م، س.

[36]. يوتوبيا الاتصال،م.س. ص39.

[37]. لم يستعمل فاينر مصطلح الشفافية في كتاباته، بل كان يستخدم مصطلح “التداول العام للإعلام”، أما “الشفافية” فهو من وضع بيير ليفي، ومن جاء بعده.

[38]. ميشيل مافيزولي، تأمل العالم، م، س، ص128.

[39]. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ط2، دار الشروق، 2005، المجلد الثاني، ص445.

والجمل التي بين قوسين هي من وضع المؤلف.

[40]. Friedreich Nietzsche, la Généalogie de la morale, coll Folio, Gallimard, Paris, 1971, P 42.

[41] . رغم أن فيليب بريتون ينتقد في كتابه يوتوبيا الاتصال كلا من العنف النازي، وكذا استعمال القنبلتين النوويتين من قبل أمريكا ضد الأبرياء، إلا أننا نحس أنه أكثر تحاملا ضد النازيين.. في الوقت الذي كان فيه جنود المستعمرات في جيش الحلفاء يتلقون القذائف بصدورهم العارية!

 [42]. L’utopie de la communication, op cit, p: 91.

[43]. المرجع نفسه ص52.

[44]. Norbert Wiener, Cybernétique et société, op cit , p: 28.

[45]. L’utopie de la communication, op cit, p: 50.

[46]. المرجع نفسه، ص52.

[47]. المرجع نفسه، ص53.

[48]. نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات الحلول، ج1، سلسلة عالم المعرفة، ع 369، نونبر 2009، ص122.

[49]. Norbert Wiener, Cybernétique et société, op cit, p: 173.

[50]. L’utopie de la communication, op cit, p: 98.

[51]. أنظر: عبد المنعم الحنفي، الموسوعة الفلسفية، ط1، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، 1992، ص68.

[52]. حسب الموسوعة الفلسفية، فإن كلود شانون هو من نقل مفهوم الإنتروبيا إلى الاتصال، بينما أورد فيليب بريتون أن فاينر هو من قام بذلك.. وهذا الاختلاف لا يؤثر في نتائج البحث؛ لأن المهم هو أن مفهوم الإنتروبيا قد استعمل في حقل الإعلام والاتصال.. كما أن كلا الباحثين يعترف بالفضل للآخر في بلورة التصور الاتصالي للإنتروبيا. ولفهم أفضل لتصور كل من فاينر وشانون للإنتروبيا، أنظر:

– MATHIEU TRICLOT; Information et entropie. Un double jeu avec les probabilités, Journ@l Electronique d’Histoire de Probabilités et de Statistiques; Vol 3, N 2,Décembre 2007, www.jehps.net

[53]. Norbert Wiener, Cybernétique et société, op cit, p 43.

[54]. القديس أوغسطينوس (13 نونبر 35428 غشت 430)، أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية. تعتبره الكنيستان الكاثوليكية والأنغليكانية قديسا وأحد آباء الكنيسة البارزين وشفيع المسلك الرهباني الأوغسطيني. يعتبره العديد من البروتستانت، وخاصة الكالفنيون أحد المنابع اللاهوتية لتعاليم الإصلاح البروتستانتي حول النعمة والخلاص. وتعتبره بعض الكنائس الأورثوذكسية مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قديسا. ولد في شمال أفريقيا قبل مجيئ الإسلام وهو ابن القديسة مونيكا تلقّى تعليمه في روما وتعمّد في ميلانو. مؤلفاته -بما فيها الاعترافات، التي تعتبر أول سيرة ذاتية في الغرب– لا تزال مقروءة في شتى أنحاء العالم (موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية).

[55]. نسبة إلى ماني بن فاتك، مؤسس المانوية، ولد بجنوبي بابل نحو سنة 216م، ادعى النبوة في الرابعة والعشرين، وشرع يبشر بالمانوية. والمانوية فرقة غنوصية مسيحية، كانت أخطر البدع التي تعرضت لها المسيحية، واستمرت من القرن الثالث حتى القرن الثالث عشر. الموسوعة الفلسفية، م، س، ص417.

[56]. L’utopie de la communication, op cit, p 33.

[57]. عبد الوهاب المسيري، اليهودية وما بعد الحداثة: رؤية معرفية. إسلامية المعرفة، ع10، خريف (1418ﻫ /1997م)، ص93.

[58]. هذه المراحل واضحة أكثر، في مقال د. عبد الوهاب المسيري: ما بين حركة تحرير المرأة والتمركز حول الأنثى: رؤية معرفية. مجلة المنعطف، فصلية مغربية، عدد خاص مزدوج 15-16، (1420ﻫ/2000م). ص 73.

[59]. هشام المكي، نظرات في حوار الحضارات: نحو إمكانية حقيقية للحوار. مجلة الكلمة، لبنان. ع: 39، السنة العاشرة، ربيع 2003، ص 48.

[60]. أورده غريغوار منصور مرشو، مقدمات الاستتباع: الشرق موجود بغيره لا بذاته. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي(18)، (1416ﻫ/1999م)، ص85.

[61]. عبد الوهاب المسيري، ما بين حركة تحرير المرأة والتمركز حول الأنثى: رؤية معرفية. م، س، ص74.

[62]. عبد الوهاب المسيري، العلمانية.. رؤية معرفية. الإنسان، ع10، السنة الثانية، شوال1413/أبريل1993، ص52.

[63]. ما بين حركة تحرير المرأة وحركة التمركز حول الأنثى، م، س، ص75.

[64]. أورده فيليب بريتون، في:

 -L’utopie de la communication, op cit, p: 55.

[65]. ألم تكن نتيجة إدخال النظام المعلوماتي في الإدارة تحويل الناس إلى أرقام بطاقات وطنية والموظفين إلى أرقام تأجير!

[66]. عبد الوهاب المسيري؛ العلمانية.. رؤية معرفية: الإنسان ع10، السنة الثانية، أبريل 1993، ص 58.

[67]. أنظر:

– Teledildonics and Beyond, Howard Rheingold, in: The postmodern presence, readings on postmodernism in American culture and society, edited by Arthur Asa Berger, USA; 1998, p: 274 to 287.

– Sexual Evolution: Social implications of teledildonic adoption. Aaron Siegel, San Jose State University; USA, 2005.

– Rheingold, Howard. Teledildonics and Beyond. Virtual Reality. New York: Summit Books, 1991. 345-377.

[68]. أنظر مثلا:

– مجموعة من المؤلفين، حرب المعلومات الإعلامية: أنموذج التعامل مع مفردات ساخنة، حسن مظفر الرزو، في: ثورة الصورة: المشهد الإعلامي وفضاء الواقع. سلسلة كتب المستقبل العربي(57)، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2008.

– عبد الرحمن عزي، دراسات في نظرية الاتصال: نحو فكر إعلامي متميز، سلسلة كتب المستقبل العربي(28)، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2009.

– محمد حسام الدين إسماعيل، الصورة والجسد: دراسات نقدية في الإعلام المعاصر، ط1، لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، يناير 2008.

[69]. تكريسا لمفهوم الإنسي الاتصالي، يتم محو الحدود الفاصلة بين الذكر والأنثى عبر تشبه كل منهما بالآخر في الموضة الحديثة.

[70]. المسيري، اليهودية وما بعد الحداثة، م، س.

[71]. ميثولوجيا، بيير ليفي، م، س، ص217.

[72]. Norbert Wiener, Cybernétique et société, op cit, p: 43.

[73]. اليهودية وما بعد الحداثة، م، س، ص108، بتصرف.

[74]. المرجع نفسه، ص109.

Science
الوسوم

ذ. هشام المكي

باحث في التواصل والتنمية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق