مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

وقفات مع حديث عائشة رضي الله عنها: ” فما رأيت رسول الله ﷺ استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان “.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد؛

فإن فعل الطاعات والقرابات إلى الله تعالى في شهر شعبان، من صيام وقيام، وتلاوة للقرآن، وصدقة،  وغير ذلك،  لها فضل وثواب عظيم، وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على هذا الفضل والثواب الجزيل،  منها: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان”. أخرجه  الإمام البخاري[1] والإمام مسلم[2] . واللفظ المذكور للبخاري.

و عنها  أيضا رضي الله عنها، قالت: “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان  كله “، أخرجه البخاري[3].

ولأهمية هذا الحديث اخترت الوقوف مع بعض من معانيه وفوائده ودرره وفقهه من خلال شروح الحديث، ومن المعاني المستمدة منه ما يلي:

* فضل الصيام في شهر شعبان وثوابه،  قال ابن العربي (543هـ): ” ففي هذا ـ الحديث ـ  دليل على فضل صيام شعبان، وأنه أفضل من صِيَام سواه،”[4]، وقال ابن حجر (852هـ): “وفي هذا  الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان”[5]، وقال محمود محمد خطاب السبكي (ت1352هـ) “دل الحديث على فضل الصيام في  شعبان، وعلى جواز صوم شعبان بتمامه، ووصله برمضان”[6].

*توطين النفس وتهيئتها وتدريبها على الصيام، لتكون مستعدة لصيام رمضان، وحتى لا تجد صعوبة   في صيامه.

* أن شهر شعبان يغفل عنه الناس لوقوعه بين شهرين عظيمين: رجب ورمضان. قال شهاب الدين الرملي (ت 844هـ) ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ  “كان يستعد في هذا الشهر  ـ  أي شعبان ـ ويجتهد بكثرة العبادات وتلاوة القرآن والصدقة؛ لأنه شهر يغفل عنه لكونه بين شهرين عظيمين: رجب ورمضان، فيشتغل الناس بهما عنه فيصير مغفولًا عنه”[7].

*  أن إكثاره صلى الله عليه وسلم الصيام في شعبان مرتبط بما يفوته من التطوع  في رمضان،  قال ابن حجر: “وقيل: الحكمة في ذلك أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض، وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره، لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان”[8].

قال الصنعاني (ت 1182هـ) بعد ذكره بعض الحِكم من الصيام في شهر شعبان المتقدمة: “ويحتمل أنه كان يصومه لهذه الحكم كلها”[9].

* أن صوم شعبان مثل السنن الرواتب بالنسبة للصلوات المكتوبة، ويكون كأنه تقدمة لشهر رمضان، أي كأنه راتبة لشهر رمضان، ولذلك سن الصيام في شهر شعبان، وسن صيام ستة أيام من شهر شوال كالراتبة قبل المكتوبة وبعدها[10].

* أنه شهر ترفع فيه أعمال العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن ترفع أعماله وهو صائم،  فعن أسامة بن زيد  رضي الله عنهما، قال: قلت: “يا رسول الله”:  “ولم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال: ” ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم[11].

قال ابن القيم  (ت751هـ) رحمه الله: “وفي صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره ثلاث معان:

أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شُغِل عن الصيام أشهرا  فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض.

الثاني: أنه فعل ذلك تعظيما لرمضان، وهذا الصوم يشبه سنة فرض الصلاة قبلها تعظيما لحقها.

الثالث: أنه شهر ترفع فيه الأعمال، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرفعَ عملُه وهو صائم”[12].

* أن الصيام في شعبان لا تنازع فيه بين العلماء، قال ابن عبد البر (ت463هـ): “لا تنازع بين العلماء في هذا الحديث، وليس فيه ما يشكل، وصيام غير رمضان تطوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر”[13].

* جواز تأخير قضاء رمضان إلى شهر شعبان، قال ابن عبد البر رحمه الله: “وقد يستدل من قول عائشة هذا على جواز تأخير قضاء رمضان؛ لأن الأغلب أن تركها لقضاء ما كان عليها من رمضان لم يكن إلا بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان ذلك كذلك كان فيه بيان لمراد الله عز وجل من قوله: (فعدة من أيام أخر) [14]؛ لأن الأمر يقتضي الفور حتى تقوم الدلالة على التراخي، كما يقتضي الانقياد إليه ووجوب العمل به، حتى تقوم الدلالة على غير ذلك، وفي تأخير عائشة قضاء ما عليها من صيام رمضان دليل على التوسعة والرخصة في تأخير ذلك، وذلك دليل على أن شعبان أقصى الغاية في ذلك، فمن أخره حتى يدخل عليه رمضان آخر وجبت عليه الكفارة التي أفتى بها جمهور السلف والخلف من العلماء، وذلك مد عن كل يوم والله أعلم”[15].

وقال ابن حجر:  “وقيل: الحكمة في إكثاره من الصيام في شعبان دون غيره، أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان”[16].

    وختاما فإن فعل الطاعات من صيام، وقيام، وتلاوة للقرآن، وتصدق، وباقي القربات إلى الله تعالى في هذا  الشهر الفضيل،  لها ثواب وفضل عظيم،  لما ورد في ذلك من أحاديث نبوية صحيحة.

****************

هوامش المقال:

[1]  أخرجه في صحيحه، كتاب الصوم، باب صوم شعبان، برقم: (1969) (3 /38).

[2]  أخرجه في صحيحه، كتاب: الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، واستحباب أن لا يخلي شهرا عن صوم، برقم: “175” “1156” (2 /810).

[3]  أخرجه في صحيحه، كتاب الصوم، باب صوم شعبان، رقم: (1970)(3 /38ـ39).

[4]  المسالك في شرح موطأ مالك(4/ 211).

[5]  فتح الباري(4 /571).

[6]  المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود(10 /55).

[7]  شرح سنن أبي داود(10 /278).

[8]  فتح الباري(4 /571).

[9]  سبل السلام(2/ 584).

[10]  فتاوى أركان الإسلام(ص: 491).

[11]  أخرجه أحمد في مسنده، رقم: (21753)(36 /85).

[12]   تهذيب السنن (2 /356).

[13]  الاستذكار(3 /372).

[14]  سورة البقرة  من الآية: 184.

[15]  التمهيد(23/ 48ـ 49).

[16]  فتح الباري(4/ 571).

**************

جريدة المصادر والمراجع:

الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق: سالم محمد عطاـ محمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي،  ومحمد عبد الكبير البكري، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب، 1387 هـ.

تهذيب سنن أبي داود لشمس الدين بن القيم الجوزية،  مطبوع مع مختصر سنن أبي داود  لزكي الدين عبد العظيم المنذري،  ومع معالم السنن لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي. دار الكتب العلمية ـ بيروت.

سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع الأدلة والأحكام،  لمحمد بن إسماعيل الأمير الكحلاني الصنعاني،  تحقيق: عصام السيد الصبابطي ، دار الحديث ـ مصر، 1994هـ.

شرح سنن أبي داود، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن حسين بن علي بن رسلان المقدسي الرملي الشافعي،تحقيق: عدد من الباحثين بدار الفلاح بإشراف خالد الرباط، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، جمهورية مصر العربية،ط1، 1437 هـ ـ 2016 م.

صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل أبي  عبد الله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر،  دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، ط1، 1422هـ.

فتاوى أركان الإسلام لمحمد بن صالح العثيمن، جمع وترتيب فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الثريا، ط1، 1422هـ .

فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز. دار الفكر ـ لبنان، ط1، 1440هـ 1441هـ 2019م.

المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك، للقاضي محمد بن عبد الله أبي بكر بن العربي المعافري الاشبيلي، قرأه وعلّق عليه: محمد بن الحسين السُّليماني وعائشة بنت الحسين السُّليماني دَار الغَرب الإسلامي، ط1، 1428 هـ ـ 2007 م.

مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة  الرسالة، ط1،  1421 هـ ـ 2001 م.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(صحيح مسلم)، لأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي،  دار إحياء الكتب العربية، توزيع دار الكتب العلمية بيروت،ط1 / 1412هـ ـ 1991م.

المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود، لمحمود محمد خطاب السبكي، عني بتحقيقه وتصحيحه: أمين محمود محمد خطاب، مطبعة الاستقامة، القاهرة ـ مصر، ط1،  1394 م.

راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق