وحدة الإحياءدراسات عامة

نحو تأسيس منهج شمولي في دراسة الحديث.. بغية الرائد للقاضي عياض نموذجا

بدءًا لابد أن يلاحظ الباحث منذ الوهلة الأولى أن حديث أم زرع استدعى اهتمام عدد من مصنفي علم الحديث (بصرف النظر عن رواته)، إذ شرحه إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري، وأبو القاسم بن سلام في غريب الحديث، وذكر أنه نقل عن عدة من أهل العلم لا يحفظ عددهم، وأبو سعيد الضرير النيسابوري، وأبو محمد بن قتيبة، كل منهما في تأليف مفرد، والخطابي في شرح البخاري، والثابت بن قاسم، والزبير ابن بكار، وأحمد بن عبيد بن ناصح، وأبوبكر بن الأنباري، وأبو إسحاق الكاذي ويعقوب بن السكيب، وأبو عبيدة، وأبو القاسم عبد الحكيم بن حبان المصري والزمخشري في الفائق، بالإضافة طبعا إلى السيوطي، والقاضي عياض، موضوعنا[1].

إلا أن شرح القاضي عياض بن موسى اليحصبي (توفي: 544ﮪ)[2] المسمى: “بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد “احتفظ بالصدارة كما يقول ابن حجر من حيث الأهمية ضمن هذه الشروح، سواء على مستوى المنهج أو الأدوات التي تم توظيفها لتحليل النص، أو حتى على مستوى المادة المعرفية التي راكمها المؤلف بشكل مثير، رواية ودراية.

بمعنى آخر، يستطيع قارئ كتاب بغية الرائد أن يجزم بوجود خصوصية مضاعفة فيه:

– فهناك أولا خصوصية النص الحديثي الشريف، حديث أم زرع.

– وثانيا الخصوصية المتعلقة بآليات عياض في اختراق هذا النص. وانطلاقا من هاتين الخصوصيتين آثرت أن أقسم هذا العرض إلى محاور ثلاثة:

المحور الأول: التأطير التاريخي

ويستدعي الحديث عن خصوصيات حديث أم زرع، ثم خصوصيات عملية القراءة/الشرح التي مارسها القاضي عياض تبعا لذلك، تحديد سياقها والمؤتمرات الفكرية التي ساهمت في توجيهها هذه الوجهة بعينها، سواء ما تعلق منها بذات المؤلف، أو حيثياتها التاريخية.

فقد شهد القاضي عياض انهيار دولة المرابطين اللمتونيين وتابع كل تفاصيل التحولات التي عاشها المغرب لا على المستوى السياسي والعسكري فحسب، بل أيضا على مستوى الذهنيات وأنماط التفكير، بفعل الانتقال إلى الحكم الموحدي بمقوماته ومؤسساته السياسية والعقائدية الجديدة.

وإذا كانت الدعوة/ثم الدولة المرابطية قد قامت على أساس ديني يتمثل في نشر السنة ومحاربة البدعة والرجوع إلى أصول الشرع والسنة في تقنين حياة الناس الخاصة والعامة، وتعليمهم أمور الدين، بعيدا عن المتاهات العقائدية الشائكة، وتوحيد الكلمة على الجهاد، فاستطاعت بذلك أن تثبت مذهب الإمام مالك، مذهبا رسميا للدولة والمجتمع في المغرب والأندلس، وأن تخلق حركة فكرية وعلمية على جانب كبير من الأهمية، محورها علوم الفقه وفروعه، فجعلت بذلك من فئة القضاة والفقهاء المالكية قوة نافذة إليها يستند أمراء اللمتونيين في اتخاذ قراراتهم السياسية وغيرها[3].

فإن الدولة الموحدية، التي قامت بدورها على أساس دعوة دينية، عملت على إحداث تغيير مثير في أنماط التفكير السائدة في الغرب الإسلامي وتوجيهه نحو آفاق أكثر تحررا ورحابة في الاختيارات الفكرية.

فإذا تجاوزنا مرحلة التأسيس التي استندت بالدرجة الأولى إلى العقيدة المهدوية وعصمة الإمام وعلمه بالغيب[4]، وجدنا أن مرحلة القوة والاستقرار اتسمت بقدر كبير من الانفتاح على أنماط كانت من قبل مرفوضة كالمذهب الظاهري، وخاصة منه الحزمي، فقد أظهر المنصور إعجابا كبيرا به حتى قيل إنه كان من أتباعه، ولذلك تذكر المصادر التاريخية أنه عندما وقف على قبر ابن حزم أطلق قولته الشهيرة: “كل العلماء عيال على ابن حزم” كما روى ذلك المقري في نفح الطيب وغيره[5] وكالفكر الصوفي الذي بدأ يستجمع قوته، إذ أصبح يعقوب المنصور يميل إلى الصوفية والزهد، ويستدعيهم إلى الحضرة لمذاكرتهم (كابن برجان وغيره)، ويسلك مسلكهم من الزهد والتقشف والخشونة في الملبس والمأكل إلى غير ذلك، ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن تظهر في هذه المرحلة بالذات مجموعة من أشهر مدارس التصوف الإسلامي ورجالاته، خصوصا جماعة مرسية، وعبد السلام بن مشيش، وتلميذه أبو الحسن الشاذلي، وأبو العباس السبتي… وغيرهم[6].

ومما هو معلوم أيضا أن المنصور كان شغوفا بالفلاسفة، يقربهم ويستدعيهم لحضرته ويستنسخ مؤلفاتهم… بعد أن كان في أول أمره على غير ذلك، فنتج عن ذلك نشوء حركة فلسفية وكلامية ومنطقية قوية، وبالموازاة معها حركة هجرة أعلام هذا الشأن من الأندلس إلى فاس لاستكمال دراستهم بها، من هؤلاء نذكر على سبيل المثال: ابن رشد، وابن طفيل، وابن زهر، وأبا الحسن الإشبيلي، وعثمان بن عبد الله السلالجي الفاسي، وأبا عبد الله محمد الفندلاوي الفاسي، وابن الحصار، وابن عدي، وأبا الحجاج المكلاتي،… وغيرهم.

وانعكس الأمر كذلك على بقية العلوم العقلية البحتة، كالحساب، والهندسة، والفلك، والتنجيم، والحيل، والكيمياء، والطب، والأغذية، والجغرافيا، والنبات،… الخ[7].

أما الفقه المالكي، فلا نستطيع مجاراة بعض الباحثين الذين ذهبوا إلى أنه تعرض لنكسة أدت إلى تغييبه تماما[8]، لأن ما تعرض له هذا المذهب لم يكن أكثر من تراجع في دعم الدولة، وبالتالي تراجعه عن مركز الصدارة في التوجيه الفكري للمجتمع ولدواليب الحكم أيضا، تلك الصدارة التي سوف يعود إليها بكل قوة على عهد المرينيين فيما بعد[9].

وغير مقصود بهذا الكلام سرد المعطيات التاريخية على سبيل الإطلاع، فهي معروفة موجودة في مظانها، وإنما القصد الإشارة إلى المناخ الفكري المتنوع الذي استطاع الموحدون أن يخلقوه، بإيقاع غير بطيء، بفتح الباب أمام اجتهاد أكبر، في معالجة مجمل قضايا الفكر والعقيدة، نظرية فلسفية كانت، أو علمية صرفا، أو أدبية، أو دينية فقهية، أو صوفية… أو غيرها.

بمعنى آخر، وبصرف النظر عن الطريق التي يمكن تفسير هذا التحول بها:

– هل هو جنوح إلى الحرية الفكرية وإيمان بالتعدد.

– أم ردة فعل ضد الدولة المرابطية التي تبنت فقهاء الفروع.

– أم خطة سياسية لاستمالة كل التيارات.

– أم أنه ميل حقيقي لتطوير الفكر الديني عبر الانفتاح على جميع أشكال الاجتهاد وإن تعارضت فيما بينها أحيانا (كما هو الشأن بالنسبة للتصوف/الظاهرية، والفلسفة/الفقه…).

بصرف النظر عن كل هذا، استطاع الفكر الموحدي أن يتجاوز منطق التقليد المهيمن إبان العصر المرابطي، وأن يفتح الباب أمام إمكانيات ومناهج متعددة لقراءة أو فهم النصوص المرجعية الدينية؛ أعني القرآن والحديث، وهذا بيت القصيد، إذ يعتبر كتاب بغية الرائدة صورة جلية لها.

عاش القاضي عياض بن موسى اليحصبي، إذن، مرحلة الانتقال هذه من الحكم المرابطي إلى الحكم الموحدي الذي بدأ سنة 552ﮪ، وكثيرا ما امتحن على عهدهما معا. كما أنه شهد مجموع التحولات الفكرية والعقائدية والسياسية التي كثيرا ما كان ضحية لها خصوصا على عهد عبد المومن بن علي إثر فتنة سبتة المشهورة سنة 541ﮪ[10].

واستطاع عياض أن يحقق في ثقافته مفهوم “المشاركة” بمعناها الأنسيكلوبيدي المتعارف عليه في القرون الوسطى، فقد ألم بعلوم عصره، وهي علوم القرآن، و الحديث، والفقه، والأصول، والتصوف، والنحو، والبلاغة، والأدب، والشعر، واللغة، والغريب، والتاريخ، والأنساب… وغيرها، أخذها عن أشياخ بلده، ثم رحل إلى الأندلس فأخذ عن شيوخها وعلمائها، وأجازوه بقرطبة ومرسية، وعاد بعد ذلك إلى سبتة ليتولى القضاء بها، ثم بغرناطة، ثم بسبتة مرة أخرى[11].

إن ما أخذه القاضي عياض من علوم ومعارف، يشير في واقع الأمر إلى اكتمال رصيده المعرفي، وإلى نضج منهجه العلمي، إلا أننا مع ذلك لا نستطيع تجاهل معطيات الواقع الجديد وحيثياته التي سمحت له بتوظيف هذا الرصيد المعرفي في التعامل مع النص الحديثي الشريف بمنهج جديد وبآليات متطورة حسب ما سنرى.

المحور الثاني:  خصوصيات النص

الوقع أن حديث أم زرع يطرح في حد ذاته، كنص وكخطاب، إشكالية جوهرية تتمثل في السمة النصية التي يمكن إطلاقها عليه:

  1. فهناك من جهة: السمة الحديثية التي تجعل منه خطابا تشريعيا مقدسا يقصد منه في العموم تقنين حياة المسلم وتنظيمها وفقا لمقتضيات الدين ووحي السماء، على اعتبار أن الحديث النبوي الشريف جزء أساسي من المنظومة المرجعية الإسلامية المعصومة من الخطأ بالاستناد إلى قوله تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى﴾ [النجم: 3] فهو بهذا الاعتبار نص ذو بعد تشريعي.
  2. ثم هناك من جهة ثانية: السمة الأدبية إذا كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أوتي جوامع الكلم، كما جاء في الحديث الشريف، وإذا كان الحديث النبوي بشكل عام استطاع أن يحتوي البلاغة العربية، وأساليب البيان في أعظم صورها، إلا أن هذا الجانب الفني الجمالي، كثيرا ما يخفى على المتلقي الذي عادة ما يلتفت إلى المحتوى التشريعي للحديث دون غيره[12].

وفي المقابل كثيرا ما تكون جماليات النص بارزة بشكل قد يصرف اهتمام المتلقي نحو مقوماته الفنية أكثر من غيرها، الشيء الذي يعكسه بوضوح حديث أم زرع على سبيل المثال:

في قول الأولى: “زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعث، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى”[13]. وقول الثانية: “زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره و بجره”[14]. وقول الثالثة: “زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق”[15]. وقول الرابعة: “زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة، والغيث غيث غمامة”[16]. وقول الخامسة: “زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد، ولا يرفع اليوم لغد”[17]. وقول السادسة: “زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، وإذا ذبح اغثت، ولا يولج الكف ليعلم البث”[18]. وقول السابعة: “زوجي غياياء، عياياء، طباقاء، كل داء له داء، إن حدثته سبك، وإن مازحته فلك، وإلا جمع كلا لك”[19]. وقول الثامنة: “زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، وأغلبه والناس يغلب”[20]… الخ الحديث.

بعبارة أخرى، تطرح هنا بكل ثقلها إشكالية قديمة معروفة لدى دارسي النصوص بكل أصنافها، وهي تحديد العلاقة القائمة بين الوظيفتين الكبريين للخطاب، وهما الوظيفة الإقناعية في مقابل الوظيفة الإمتاعية، أو الوظيفة الإبلاغية في مقابل الوظيفة الفنية[21].

وبما أن حديث أم زرع واحد من الأحاديث التي يبرز فيها البعد الفني الجمالي بقدر ما هي نص تشريعي، فقد أدى التداخل بين الوظيفتين الأساسيتين المذكورتين للخطاب، إلى إنتاج إمكانيات متعددة لقراءة النص، وشروح متباينة، بمناهج مختلفة، حسب ما ذكرناه في أول هذا العرض، وعبرت عنه بوضوح شروح القدماء للحديث وانعكس هذا الأمر كذلك على الباحثين المعاصرين الذين تعاملوا مع الحديث ومع شروحه أيضا من زوايا مختلفة[22]. فبالنسبة إلى بغية الرائد، موضوعنا، تجد فيه الدراسة النقدية الأدبية، والبلاغية، واللغوية، والمعجمية من المادة بقدر ما تجد فيه الدراسة الحديثية، هذا بالإضافة طبعا إلى علوم أخرى كالتاريخ والأنساب، وعلم النفس، وعلم الاجتماع… وغيرها.

على كل حال لن نجزم بأدبية النص المحضة، ولن نجرده منها، بل سنحاول في جميع الحالات أن نلتزم بما يسمى في الدراسات المعاصرة بنصية النص، ولعل هذا ما التزم به عياض بدوره في بغية الرائد ما سيأتي وشيكا.

المحور الثالث: منهج وآليات تحليل النص

1. المنهج

يتدرج القاضي عياض في شرحه لحديث أم زرع عبر عدة مراحل ومحطات نجملها في تسعة:

  1. يبتدئ عياض في التعامل مع الحديث أولا بذكر أسانيده في روايته بدقة متناهية، على كثرتها واختلافها[23].
  2. يقوم بعملية تفسير لسند الحديث فيشير على اختلاف الرواة حول مسألة هل كله من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، أم هو من كلام عائشة إلا قوله: “كنت لك كأبي زرع لأم زرع…” في آخر الحديث، ويرجح رأي الدارقطني والخطيب البغدادي اللذين ذهبا إلى نسبته لعائشة[24].
  3. يقوم بالتعريف بهؤلاء النسوة، فيذكر أنهن كن في زمن الجاهلية، وأنهن من بطن من بطون اليمن، أو من قريش، وهنا يقوم المؤلف بعملية حفريات في بعض أنساب العرب، واختلاف روايات النسابين حولها[25].

على أن ثقافته الأدبية سمحت له بالاطلاع على حكاية نسجت على منوال الحديث، فيجزم بانها موضوعة.

  1. ينتقل إلى العربية حيث يقوم بدراسة الأوجه النحوية الممكنة للروايات المذكورة في الحديث، ودلالة كل وجه منها، مستشهدا في كل ذلك بالآيات القرآنية، والشواهد الشعرية، وآراء النحاة، وألسن العرب…[26].
  2. وهنا يقف عياض عند مقدمة الحديث، فيستخلص منه تسع فوائد فقهية وسلوكية على جانب من الأهمية هي:

– حسن عشرة الرجل مع أهله وتأنيسهن.

– منع الفخر بحطام الدنيا وكراهته.

– جواز إخبار الرجل زوجه وأهله بصورة حاله معهم.

– جواز إكرام الرجل بعض نسائه بحضرة ضرائرها.

– جواز تحدث الرجل مع إحدى زوجاته ومجالستها في يوم الأخرى.

– جواز الحديث عن الأمم الخالية والأجيال البائدة.

– جواز تسلية النفس بملح الأخبار وطرف الحكايات.

– بسط المحدث والعالم لما أجمل من علمه لمن حوله وبيانه عليه.

– سؤال السامع العالم شرح ما أجمله له. مستدلا على كل فائدة منها بما يعضدها من القرآن والحديث[27].

  1. شرح الغريب الموجود في مقدمة الحديث[28].
  2. بعد هذا يتناول المؤلف قول كل واحدة من النسوة فيبين غريبه ومعناه وعربيته وفقهه مع زيادة إشارات وتنبيهات بين الفينة والأخرى، إلا قول الحادية عشرة، فإنه يقسمه – نظرا لطوله – إلى مجموعة من المقاطع فيبين غريب كل مقطع ومعناه وعربيته[29].
  3. ثم انتقل إلى فصل ذكر فيه جملة من المسائل الفقهية، كقول المرء لصاحبه بأبي أنت وأمي، وكشكر المرأة زوجها، وكتقريظ الرجل في وجهه بما فيه، وكجواز المزح والمداعبة مع الأهل… وغيرها[30].
  4. ويختم بمبحث نقدي بلاغي سماه: بيان ما في الحديث من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة والبديع، تناول فيه ما اشتمل عليه الحديث من الأساليب البلاغية، مع ذكر تعريفاتها وقواعدها، واختلاف العلماء في ذلك[31].

2. الآليات

تخلق قراءة بغية الرائد حالة من الاندهاش المتواصل لدى القارئ لا من جهة تراكم المادة المعرفية وتنظيمها عبر فصول الكتاب فحسب، بل أيضا من جهة الآليات التي تم توظيفها لاختراق النص الحديثي الشريف بشكل ربما لم يسبق إليه في الدراسات الحديثية.

وعلى العموم، نستطيع أن نصنف هذه الآليات إلى مجموعتين معرفيتين أساسيتين تتعلق الأولى منهما بالعلوم الشرعية، والثانية بالعلوم الإنسانية، وبما أن المجال لا يتسع هنا للتفصيل فسنكتفي بإشارات نوردها على النحو الآتي:

أ. العلوم الشرعية

وهي بطبيعة الحال منسجمة إلى حد كبير مع طبيعة الموضوع، ومع السياق الذي هو شرح خطاب مرجعي نبوي (الحديث الشريف)، وتشتمل على:

  1. علوم الحديث؛ وهو مجال اختصاص القاضي عياض، أو بالأحرى مجال اشتهاره، فقد أبان في الكتاب عن تبحره بشكل مثير في هذا العلم بكل فروعه، من جرح، وتعديل، واصطلاح… على أن ما تجدر الإشارة إليه، أن معظم روايات الحديث الواردة في الكتاب كانت بسند عياض نفسه، مما يجعله حجة معتمدا في هذا الباب[32].
  2.  القرآن وعلومه؛ ففي أثناء استشهاده بالقرآن، كثيرا ما يضطر القاضي عياض إلى تفسير بعض الآيات، أو شرح معجمها، أو غريبها أو ذكر اختلاف قراءتها ورواياتها، إلى غير ذلك مما يخدم مطلب شرح الحديث[33].
  3. الفقه؛ وهو علم ذو علاقة قوية بالأولين بحكم استناده إليهما كمرجعين أساسيين في عملية تأسيسه، وضبط مناهجه وآلياته، أصولا وفروعا: بالإضافة طبعا إلى آراء السلف من الصحابة والتابعين والعلماء، فهو يوردها لترجيح معنى، أو توضيحه، أو التنبيه على ما خفي منه أو غير ذلك، كل ذلك بقصد استنطاق النصوص والمرويات، واستنباط الأحكام منها[34].

ب. العلوم الإنسانية

وقد عبر فيها عياض كذلك عن إحاطة واسعة رغم أنه لم يشتهر بها، لغلبة صفة الفقه، والحديث عليه، وهي:

  1. الشعر؛ وهو كثير في الكتاب في سياقات متعددة، يورده لشرح غريب أو تقريب معنى، أو الاحتجاج لقاعدة نحوية أو بلاغية أو غير ذلك، متراوحا في ذلك بين مرويات العصر الجاهلي والإسلامي والأموي وغيرها. وقد أشرنا من قبل إلى أن المادة الأدبية في الكتاب من الغزارة والوفرة بحيث يوهم القارئ بأنه أقرب إلى الكتابة الأدبية منه إلى علوم الدين[35].
  2. البلاغة؛ وقد استطاع القاضي عياض أن يوظف مجموعة من الأدوات والمفاهيم البلاغية بدقة متناهية، للوصول إلى عمق المعنى المقصود في الحديث حسب ما تقتضيه دلالات الكلام عند العرب القدماء، هذا بالإضافة طبعا إلى أنه خصص حيزا هاما من الكتاب للحديث عن جماليات النص وبراعة الكلام فيه كما سبق ذكره[36].
  3. النحو؛ فقد تناول مجموعة من المباحث النحوية بالدراسة الدقيقة، وأورد فيها آراء كبار النحاة كسيبويه والفارسي، وغيرهما[37].
  4.  المعجم والغريب؛ وهو مبحث استدعاه اشتمال الحديث على عدد كبير من الألفاظ الحوشية البدوية كالعشنق، والزرنب، والعجر، والبجر، والغياياء، والعياياء، والطباقات…الخ[38].
  5. التاريخ والأنساب؛ خصوصا في بداية الكتاب عند توثيق نسب النسوة[39].
  6. علم الاجتماع وعلم النفس والتربية؛ خصوصا عندما يعمل على استخلاص ذهنيات المجتمع النسوي القديم، وبعض الخصائص النفسية للمرأة وللرجل على حد سواء. كقوله مثلا في شرح قول الثانية: “وقال أبو سعيد النيسابوري: “…إنما عنت أن زوجها كثير العيوب متعقد النفس عن المكارم” أو قوله: “قال الخطابي أرادت عيوبه الباطنة وأسراره الكامنة…”الخ، إذ لا يكتفي عياض بتدقيق النظر في نفسية النساء انطلاقا من كلامهن، بل يفعل ذلك مع الرجل أنفسهم اعتمادا على وصف زوجاتهم إياهم، كوصفهم بالحمق والغي، أو بالليونة والمودة، أو بالبخل والشح، أو بسرعة الانفعال والغضب…الخ[40].

وكنتيجة طبيعية لهذا المنهج المتعدد الآليات، يستطيع الباحث أن يلاحظ تراكما جليا من الاقتباسات والاستشهادات التي تنتمي إلى جميع الحقول المعرفية المذكورة.

إن ما قمنا به في هذه العجالة لا يعدو في واقع الأمر أن يكون مجرد محاولة لتسجيل بعض الملاحظات الأساسية التي لا يسمح المقام هنا بأكثر منها، وإلا فإن الموضوع له مجال من البحث واسع في سياقات لاحقة بحول الله تعالى.

إلا أن متناول البغية لابد أن يخلص مع ذلك إلى ملاحظة أساسية، هي أن عياضا عندما قام بعملية اختراق النص الحديثي الشريف، وتفتيته، وترتيب عناصره ومكوناته، وأحيانا خلفياته المعرفية، والاجتماعية، والنفسية اللاشعورية، وتحليلها، لم يكن، دون شك، ناظرا إلى محتواها الديني التشريعي المقدس فقط، وإنما أيضا، وبشكل لا يمكن تجاهله، إلى صبغته النصية الموضوعية كخطاب ذي أبعاد متعددة، منها ما هو أدبي فني جمالي، ومنها ما هو إخباري تاريخي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو أدبي فني جمالي، ومنها ما هو إخباري تاريخي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو سيكولوجي…الخ، فاستطاع بذلك أن يؤسس لنفسه منهجا متطورا في معالجة حديث أم زرع برؤية نقدية تحليلية متعددة الجوانب، وبالتالي يكون قد وضع أمام الباحثين نموذجا تجديديا في دراسة الحديث بشكل عام، ربما كان من الضروري الاستفادة منها في تطوير مناهج هذه الدراسة، وتعميق أشكال قراءة وفهم واختراق هذه النصوص.

انظر العدد 17 من مجلة الإحياء

نحو تأسيس منهج شمولي في دراسة الحديث.. بغية الرائد للقاضي عياض نموذجا

الهوامش

  1. بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي (476-544ﮪ)، تحقيق: صلاح الدين بن أحمد بن أحمد الإدلبي ومحمد الحسن أجانف ومحمد عبد السلام الشرقاوي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فضالة، المحمدية، 1975، صد.

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة، مكتبة المثنى، بغداد، لات: 1/248، هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل باشا البغدادي، مطبعة البهية، إسطانبول، 1955، 1/805، شرف الطالب في أسني، لابن قنفذ القسنطيني، تحقيق: محمد حجي مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، سلسلة التراجم (2)، الرباط، 1976، ص62، المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، لأبي الحسن البناهي علي بن عبد الله ابن الحسن المالقي الأندلسي، تحقيق: ليفي بروفنصال، المكتب التجاري، بيروت، لات، ص101، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون المالكي، تحقيق: د. محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة، 1974، 2/46، أزهار الرياض في أخبار عياض، شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني:

الجزء: 1، 2،3 بتحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، منشورات صندوق إحياء التراث الإسلامي، مطبعة فضالة، المحمدية، 1978.

الجزء: 4 بتحقيق: سعيد أحمد أعراب ومحمد بن تاويت، منشورات صندوق إحياء التراث الإسلامي، مطبعة فضالة، المحمدية، 1978.

الجزء 5 بتحقيق: د. عبد السلام الهراس وسعيد أحمد أعراب، منشورات صندوق إحياء التراث الإسلامي، مطبعة فضالة، المحمدية، 1980.

  1. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، مكتبة المثنى/دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957، 8/16، معجم المحدثين والمفسرين والقراء بالمغرب الأقصى، عبد العزيز بن عبد الله، مطبعة فضالة، المحمدية، 1972، ص28، تاريخ الفكر الأندلسي، أنخل جنثالث بالنثيا، نقله عن الإسبانية حسين مؤنس، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1955، ص397.
  2. دولة الإسلام في الأندلس (العصر الثالث: عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس)، محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 2، 1990، ص36، المرابطون اللمتونيون بين القرنين الخامس والسادس للهجرة، دة: ثريا عبد الفتاح ملحس، الشركة العالمية للكتاب/ مكتبة المدرسة/ دار الكتاب العالمي، بيروت، ط: 1، 1988، ص41- 48- 49- 50- 51 الغرب والأندلس في عصر المرابطين المجتمع الذهنيات، الألوليات، د. إبراهيم القادري بوتشيش، دار الطليعة، بيروت، ط: 1، 1983، ص7، على ص19، وأيضا: ص125.
  3. المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد المراكشي، تحقيق: محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، دار الكتاب، الدار البيضاء، ط 7، 1978 ص416.
  4. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب…، لأبي العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1988، 3/238، العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، محمد المنوني، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، سلسلة التاريخ (6) مطبعة دار المغرب، الرباط، الطبعة الثانية، 1977، ص50.
  5. الدولة الموحدية، أثر العقيدة في الأدب، حسن جلاب، منشورات الجامعة، السلسلة الأدبية (أ)، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، ص43.
  6. الدولة الموحدية، أثر العقيدة في الأدب، – حسن جلاب، ص26- 44- العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، محمد المنوني، ص97 وما بعدها.
  7. المذاهب الفكرية في الغرب الإسلامي، د. علي إسماعيل مشكور، دار الطليعة، بيروت، ط: 1، 1987، ص101.
  8. مظاهر النهضة الحديثية في عهد يعقوب المنصور الموحدي، عبد الهادي أحمد الحسيسن، صندوق إحياء التراث الإسلامي، مطابع الشويخ، تطوان، 1982، ج 1، ص116-200.
  9. انظر مثلا: التعريف بالقاضي عياض، لولده أبي عبد الله محمد، تقديم وتحقيق: د. محمد بنشريفة، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافية، ط 2 – 1992ﮪ – ص12، وأيضا: تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط 1، ج: 6، ص307.
  10. التعريف بالقاضي عياض، لولده أبي عبد الله محمد، ص4 وما بعدها.
  11. وهو مبحث طريف على جانب كبير من الأهمية، وكان قد انتبه إليه الشيخ صبحي الصالح، من الوجهة المنهجية على الأقل، وآثاره في كتاب: مباحث في علوم الحديث ومصطلحه، في الفصل الذي سماه ب: أثر الحديث في علوم الأدب، إلا انه اكتفى بتناول الموضوع من هذه الوجهة، وبشكل عرضي يحتاج في واقع الأمر إلى المزيد من الدراسة الفاحصة المتأنية الصبور. انظر: علوم الحديث ومصطلحه، د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط 14، 1982، من ص315، إلى ص333.
  12. بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، ص6-45.
  13. المرجع نفسه، ص7-59.
  14. المرجع نفسه، ص7-63.
  15. المرجع نفسه، ص7-67.
  16. المرجع نفسه، ص7-70.
  17. المرجع نفسه، ص7-80.
  18. المرجع نفسه، ص8-88.
  19. المرجع نفسه، ص8-93.
  20. انظر في ذلك على سبيل المثال: لعبة الأدب (أرنست فيشر)، فتحي خليل، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط: 1/1980، ص79، مدخل إلى الأدب العجائبي، تزفتان تودوروف، ترجمة، الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، ط: 1/1993، ص85 وأيضا:

THEORIES DU SYMBOLE، PAR /TZVETAN TODOROV، EDITION DU SEUIL، BERLIN 1977، P/ 339.

  1. انظر مثلا: منهج البحث الأدبي عند القاضي عياض من خلال كتاب بغية الرائد، دة. ابتسام مرهون الصفار، مجلة المناهل، عدد 19 السنة 7، عدد خاص بالقاضي عياض)، وزارة الشؤون الثقافية، الرباط، دجنبر، 1980، ص260، القاضي عياض أديبا، عبد الله كنون، المرجع نفسه ص47. عياض الناقد البلاغي، محمد بنتاويت، المرجع نفسه، ص304، القاضي عياض اللغوي، عبد العالي الودغيري، المرجع نفسه، ص432، شيء من منهج عياض في دراسة النص، د. عبد السلام الهراس، المرجع نفسه ص613…الخ.
  2. بغية الرائد، ص2.
  3. المرجع نفسه، ص18.
  4. المرجع نفسه، ص23.
  5. المرجع نفسه، ص26.
  6. المرجع نفسه، ص32 إلى 42.
  7. المرجع نفسه، ص43.
  8. المرجع نفسه، ص43 إلى 170.
  9. المرجع نفسه، ص171 إلى 185.
  10. المرجع نفسه، ص186.
  11. المرجع نفسه،ص: 2 إلى 17. ص18 إلى 22.
  12. المرجع نفسه، ص34، 44، 52، 134، 168، 199.
  13. المرجع نفسه، ص32 وما بعدها، 54، 145، 171.
  14. المرجع نفسه، ص28-29-43-49-50-53-62-64-66-67-183-190-193-194-202…الخ.
  15. المرجع نفسه، ص51-186.
  16. المرجع نفسه، ص26 وما بعدها، 48-74-91-117-120-122-133-148-162-…الخ.
  17. المرجع نفسه، ص43-45-88-105-118-127-132-…الخ.
  18. المرجع نفسه، ص23 وما بعدها.
  19. المرجع نفسه، ص61-38-91…الخ.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق