وجه تسمية الصيام بالسياحة ومناسبة تخصيص أهل الصوم بباب بالريان
بسم الله الرحمن الرحيم
أبسط هذا الموضوع باقتضاب من خلال وقفتين
الوقفة الأولى
مما لا شك فيه أن شعيرة الصيام عبادة ترفع مؤشر الإيمان، و تعمر القلب بأنوار الجلال والجمال، وتسمو بالمكلف لعلياء ذروة الإحسان، ولا يتذوقها على الحقيقة إلا من شفع فرضه بنفله، ورام التدرج في مراقي الكمال، وما افتراض رمضان إلا إتاحة فرصة لعموم ملة التوحيد، تفيئا لظلاله، وتنسما لروحه وريحانه، وتذوقا للذاذته، وارتشافا لجناه وضربه، فيقضي المكلفون في رمضان تفثهم، وينفضون ما علق بهم من أدران الغفلة،و ينتبهون فيه من غمرات الذهول إلى ما أريد بهم من يقظة، فهو سياحة العقول، ورياضة الفهوم، وغداء الجسوم، بل الأرواح و النفوس، وقد فسر قوله تعالى: "السائحون" -في آية التوبة المعددة لأوصاف المؤمنين[1]- بالصائمين. قال ابن عطية: "والسَّائِحُونَ معناه الصائمون، وروي عن عائشة أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام، وأسنده الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم"[2]
فما وجه هذه التسمية؟ وما مناسبتها لشعيرة الصيام؟
الجواب عن ذلك والله أعلم، أن من تلبس بالصيام بشرطه يفسح العنان للرتع بفكره تأملا، وبنظره تدبرا، وبلُبِّه تعقلا، تشبيها له بالسياحة التي كانت مركب زهاد الأمم السابقة، فرارا من زينة الدنيا وزخرفها، تخلصا من الفتن الصارفة، والانشغالات المثبطة، والإيحاآت المبلبلة، وهذا المعنى لازم الصيام المشروع، بل ذاك مقصده ومتغياه، فكما أن السائح هائم على نفسه، جائل بفكره في قدرة الله وملكوته، طلبا لصفاء روحه، وشفوف إدراكه، فالصائم أيضا ممكن من هذه المطالب حتما، إن دخل من الباب، وأحسن التصرف، واستجمع الآداب، ولعل الإمام الطبري -وهو شيخ المفسرين وإمامهم- لما قصر مدلول السائحين في الآية الآنفة على معنى الصيام، -إذ لم يورد فيها ما تناقلته أقلام سلف الأمة من دلالات أخرى لمفهوم السياحة- رأى فيه محصل السياحة عند من غبر، بل رأى فيه عوضا عنها، وغناء عن معافستها، فهو يقوم مقامها، وقد استُبدِلت هذه الأمة بالسياحة خيرا منها؛ فرض الصوم ونفله؛ المزكي والمطهر، ومعراج الروح إلى قمم الصفاء المحمود.. واحتج لذلك بآثار مستفيضة عن جلة من أهل العلم، بدءا بالصحابة الكرام؛ كأبي هريرة وابن عباس.. ثم التابعين الكبار؛ كسعيد بن جبير ومجاهد و الضحاك وعطاء.. و أورد استشهادا على ذلك أثر ابن عباس رضي الله عنه: أن كل ما جاء من لفظ السياحة في الكتاب فالمقصود به الصائمون[3].
الوقفة الثانية:
تمييزا لأهل هذه الشعيرة من الأنام، خصوا بباب لا يدخل منه غيرهم من أهل الجنان، والمثير فعلا في الإخبار عن هذه الأبواب أن كل باب من تلكم الأبواب سمي باسم العمل الذي استكثر منه صاحبه، وكان أبرز أعماله، والغالب في سجله وكتابه، فالمكثر من الصلاة يدخل من باب الصلاة، والمكثر من الجهاد ينادى عليه من باب الجهاد، والمكثر من الصدقة يدعى من باب الصدقة، لكن المكثر من الصيام لا يسمى الباب الذي يفد منه إلى دار الكرامة باب الصيام، وإنما جاء الإخبار عن تسميته بباب الريان، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله-صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ الله نُودِىَ فِى الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ الله هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ الله مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم:- « نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ »[4].
فما وجه تسميته بالريان؟ ولم عدل عن تسميته من جنس المستكثر منه من أعمال؟
ريان بزنة فَعْلان، وهي صيغة تفيد الامتلاء، وقد رام العلماء الجمع بين العمل وجزائه بصنوف من الجمع، فقال القاضي عياض: "وقوله فى صاحب الصَّوم: (دُعى من باب الريان) : قيل: لما كان فى الصوم الصبرُ على العطش فى الهواجر، سُمي الباب الذى يُدعى منه بثوابه على ذلك، وهو مشتق من الرِّيِّ، وقيل: يجوز أن يكون الريان اسم الباب؛ لاختصاص الداخلين منه بالري، وقيل: يحتمل أن يُدعى منه كل من روي من حوض النبى صلى الله عليه وسلم، وما تقدم أولى؛ إذ لا يختص ري الحوض بالصائمين، والبابُ مختصٌ بهم"[5].
فهذه أوجه من الجمع يفسر بها وجه التسمية، و يمكن أن يلحق بها رصدا لمناسبات أخرى تلوح للناظر؛ بإمعان النظر و التأمل في سر التسمية وحال من جاء بهذه الشعيرة، جمعا بين حال الصائم الذي أظمأ نهاره طلبا للزلفى، وما أعد الله لأهل كرامته من البشرى، فيقال لا يستطيع سرد الصيام الذي يدخل صاحبه في سمط المكثرين، إلا من كان ريانا بفيض الإيمان، فهو الذي يستحث صاحبه على الاستزادة من نوافل الخيرات، والاستكثار من أعمال البر المقربات، فناسب حاله الإيماني الريان، المحفز له على المسارعة إلى المكرمات، أن يسمى الباب باب الريان، معاملة له بما تحلى به من ري وامتلاء من الإيمان..، وذلك بتوجيه النظر إلى من قام بالفعل؛ أعني المكلف.
ويمكن أن يعكس فينظر إلى الموعود فيقال:
إن أجر الصيام لا يدخله العد، ولا يوقف له على حد، فهو قربة مغيبة مقدار الأجر، استأثر الله ببيان ما يترتب عليها من أنولة، وما يثيب عليها من أجزية، وقد جاءت بذلك نصوص شاهدة، وآثار صحيحة صريحة ساطعة، ففي الحديث القدسي المتفق عليه أن رسول الله قال فيما يرويه عن ربه: « كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِى[6] ..." وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن ثوابه سيكون ريانا، عطاء غير مجذوذ، وكرما غدقا غير محدود، لأنه شهر الصبر، وقد وعد الله الصابرين بالأجر المكوم الغير المعدود قال الأوزاعي: "ليس يوزن لهم ولا يكال لهم، إنما يغرف لهم غرفا"[7]،فكان الكرم من جنس العمل، ولا يهلك على الله إلا هالك.
ولنا عودة لاستمام مستتبعات الموضوع، وذلك وجه اختصاص الصوم بسر الإضافة للذات العلية.
[1] في قوله تعالى: "فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " [التوبة:11-112]
[2] المحرر الوجيز، 3/89.
[3] ينظر جامع البيان، 14/504.
[4] أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الخيل والمسابقة بينها والإنفاق في الغزو، رقم:1004. والبخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، رقم:1798. ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، رقم:1027.
[5] إكمال المعلم بفوائد مسلم، 3/556.
[6] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، رقم:1805، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم:1151.
[7] تفسير ابن كثير، 7/89.