مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نيران العرب (الحلقة السادسة)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، وبعدُ:

فهذه تتمة القول في نيران العرب بما وصلنا عنهم في شأنها، فمنها كما وقع في النظم الذي جعلته جامعا لِما وقفت عليه من هذه النيران:نورأنوا

وَنَارُ الِاسْتِكْثَارِ قَبْلَ الْحَرْبِ === نَارُ الْوُشَاةِ وَهْيَ دَاءُ القَلْبِ

ثُمَّ السَّعَالِي وَالسَّلَامَةِ الَّتِي === لِسَالِمٍ تُشَبُّ عِنْدَ الْعَوْدَةِ

وَالْخُلَعَاءِ وَهُمُ الْهُرَّابُ === وَنَارُهُمْ لَيْسَ لَهَا الْتِهَابُ

1- نار الاستكثار قبل الحرب:

هذه النار يذكرونها فيما يكون قبل الحرب ولقاء العدو، ولم أجد من ذكرها سوى الثعالبي، قال: «كانوا إذا نزلوا منزلا، وهم جيش يريدون محاربة قوم، استكثروا من النيران وأكثروا من الذبح مخافة أن يجزرهم جازر بقلة ذبحهم ونيرانهم، فيستدل على العورة منهم»(1).

كأنهم كانوا يفعلون ذلك لإظهار أن عَديدَهم كثيرٌ ليهابَهم العدو، وقد يكونون في الأصل قِلَّةً يخافون أن يتخطّفهم الناس.

وقريبٌ من هذا ما رَوى أهلُ السِّيَرِ وغيرُهم عند غزوة بدر الكبرى حين استخبر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الغُلامين عن قريش، وكانا قد ذهبا يستقيان لهم، فقال: «كم القوم ؟ قالا : كثير، قال ما عِدّتهم ؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ فيما بين التسعمائة والألف»(2).

فدلّ نحرُهم للجُزُر على عِدّتهم، وأن الجَزور الواحد لمائة نفس. ولا يكون ذلك إلا بإيقاد النيران وإكثارها حتى يصير أصحابها في عين الناس كثيرا.

2- نار الوُشاة:

هذه النار ذكرها المرزوقي مستدركا بها على الجاحظ على أنه لم يذكرها هي ونار الغدر(3)، فأما نار الغدر فقد تقدمت في الحلقة السابقة، وذكرنا فيها قصة أبي سفيان وغدرته حين قُتل أبو أزيهر. وأما نار الوشاة هذه فقد استشهد لها المرزوقي ببيت أبي ذؤيب الهذلي، وهو قوله:

أَبَى الْقَلْبُ إِلَّا أُمَّ عَمْرٍو وَأَصْبَحَتْ === تُحَرَّقُ نَارِي بِالشَّكَاةِ وَنَارُهَا

ولم يذكر فيها شيئا ولا فصّل القول فيها.

قال السُّكَّرِي في شرح البيت: «تُحرق ناري، أي: توقد بالشكاة، والشكاة: النميمة والكلام القبيح والقالةُ، وهذا مَثَلٌ. يقول: أُوقِدَتْ لها ولي نارٌ فاشتهرنا بها، وشاع خبري وخبرُها، وانتشر أمري وأمرُها لَمَّا لم أُقلع عنها»(4).

قلت: فإن كانت على الحقيقة، فهي قريبة من نار الغدر، وإن كانت على المجاز فهي كنار الشوق مما يجد الإنسان له داءً في قلبه، وهي قريبة من نار الحرب وغيرها من النيران على المجاز أيضا. والظاهر أنها من جملة النيران المجازية التي يأتي القول فيها بعدُ إن شاء الله تعالى.

3- نار السعالي:

تقدم القول عنها في الحلقة السابقة عند الحديث عن نار الغول، وذكرنا الخلاف في التفريق بينهما عن أبي عثمان الجاحظ.

قال العسكري: «وأما النار التي تُنسب إلى السعالي، فهو شيء يقع للمتغرّب والمتقفّر»(5). وأنشد بيتين لأبي مطران عبيد بن أيوب:

فَلِلَّهِ دَرُّ الْغُولِ أَيُّ رَفِيقَةٍ === لِصَاحِبِ قَفْرٍ خَائِفٍ مُتَقَفِّرِ

أَرَنَّتْ بِلَحْنٍ بَعْدَ لَحْنٍ وَأَوْقَدَتْ === حَوَالَيَّ نِيرَانًا تَبُوخُ وَتَزْهَرُ

أما الجاحظ فقد ذكرها مفرقا بينها وبين نار الغول، قال: «ونار أخرى التي يحكونها من نيران السعالي والجن، وهي غيرُ نار الغيلان». وقد أنشد البيتين المتقدمين أيضا(6).

4- نار السلامة:

هذه النار ذكرها النويري فقط، قال: «وهي نار توقد للقادم من سفره إذا قدم بالسلامة والغنيمة»(7). ثم أنشد لها قول الشاعر(8):

يَا سُلَيْمَى أَوْقِدِي نَارَا === إِنَّ مَنْ تَهْوَيْنَ قَدْ زَارَا

والرجوع سالما من السفر كان عندهم أقل ما يُرضى به من ذلك، قال امرؤ القيس(9):

وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى === رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ

5- نار الخُلَعَاء والهُرَّاب:

هذه النار تفرّد بذكرها الجاحظ، قال: «وقال الشاعر:

وَنَارٍ قُبَيْلَ الصُّبْحِ بَادَرْتُ قَدْحَهَا === حَيَا النَّارِ قَدْ أَوْقَدْتُهَا لِلْمُسَافِرِ

يقول: بادرت الليل لأن النار لا تُرى بالنهار. كأنه كان خليعا أو مطلوبا»(10).

قلت: الخليع: مَن خلعته قبيلته وطردته لِجرائره، فإذا قتله قوم لم يطلبوا بدمه. والمطلوب: مَن يطلبه السلطان لمعاقبته بما جناه.

والبيت ينطق بأن صاحبه كان كذلك، فإنه إذا أوقد النار ليلا فسيُستدل على موضعه ويُسعى في طلبه.

وأنشد أيضا:

وَدَوِّيَّةٍ لَا يَثْقُبُ النَّارَ سَفْرُهَا === وَتُضْحِي بِهَا الْوَجْنَاءُ وَهْيَ لَهِيدُ

قال: «كأنهم كانوا هُرَّابا، فمن حثهم السير لا يوقدون لبُرمة ولا مَلة، لأن ذلك لا يكون إلا بالنزول والتَّمَكُّث، وإنما يجتازون بالبَسيسة أو بأدنى عُلقة»(11).

فذلك ما دل عليه بيت النظم عند قولي:

وَنَارُهُمْ لَيْسَ لَهَا الْتِهَابُ

أي: هم إذا أوقدوا نارا فإنما يوقدونها يسيرا بمقدار ما يملكون به العجين أو ما يطبخونه، وبمقدار النضج اليسير، فلذلك لا تبلغ نارهم أن يكون لها التهاب.

والبسيسة كما شرحها الجاحظ هي أن يُبلّ الدقيق بشيء حتى يجتمع ويؤكل.

والدوّية في البيت الذي تقدم: الفَلاة، والسَّفْرُ: المسافرون، والوجناء: الناقة الشديدة، واللَّهِيد: المُتْعَبة.

هذا مبلغ القول في هذه النيران الست، وبها تمام النيران التي أوقدتها العرب حقيقةً، ويليها ما ذكروا من النيران المجازية.

والحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحابته المُكرمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) ثمار القلوب للثعالبي: (ص: 570).

(2) انظر سيرة ابن هشام: 3/164، ومغازي الواقدي: 1/53.

(3) الأزمنة والأمكنة للمرزوقي: (ص: 537)

(4) شرح أشعار الهذليين: 1/70.

(5) الأوائل للعسكري: (ص: 38).

(6) الحيوان للجاحظ: 4/481.

(7) نهاية الأرب: 1/111.

(8) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه: (ص: 100)، والرواية فيه:

يا لُبينى أوقدي النارا === إن مَن تهوين قد حارا

وحار: رجع، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14]، أي: يرجع.

(9) ديوانه: (ص: 99).

(10) الحيوان: 4/489.

(11) الحيوان: 4/489.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والمصادر:

  • الأزمنة والأمكنة للمرزوقي، دار الكتب العلمية.
  • الأوائل لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد السيد الوكيل، دار البشير.
  • ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، لأبي منصور الثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
  • الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.
  • ديوان عدي بن زيد العبادي، تحقيق محمد جبار المعيبد، شركة دار الجمهورية للنشر والطبع- بغداد.
  • ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
  • سيرة ابن هشام، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل.
  • شرح أشعار الهذليين، للسكري، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، مكتبة دار التراث.
  • كتاب المغازي، للواقدي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب.
  • نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق