وحدة الإحياءدراسات عامة

نظرية المال في الشريعة الإسلامية.. تحديد المفهوم، وبيان الأنواع

يحتل المال مكانة كبيرة في الأنظمة الاقتصادية لكافة الأمم والشعوب، وهي نفس المكانة التي يحتلها المال في وجدان الإنسان كفرد وكجماعة، وهو هدف من أهداف الإنسان، وغاية من غاياته يسعى إلى كسبها، والوصول إليها بوسائل محددة، وقواعد مقررة، تعتبر بمثابة أعراف، وقوانين يجب احترامها، بحيث من سعى إلى كسب مال، خارج إطار تلك القوانين والأعراف المراعاة من طرف المجتمع، يعتبر كسبه لذلك المال غير مشروع، ويستحق من جراء ذلك عقاب المجتمع، نجد هذا في بعض الأنظمة القديمة البائدة، وكذا الحديثة القائمة.

وأما في ظل الإسلام، فإن المال له مكانة كبيرة أيضا حتى إن القرآن الكريم قد تحدث عن المال وعن أصنافه، وعن قواعد اكتسابه، فيما يزيد على تسعين آية، وقد تنبه فقهاء الإسلام وعلماؤه لهذه المكانة، وعلموا أن الإنسان يميل بطبعه إلى جمع المال وتملكه، ولذلك فقد اعتنوا بالمال عناية كبيرة، وأفردوه بالتصنيف والتأليف وممن ألف فيه أبو عبيد المتوفى سنة 224 هـ، وكتابه يعرف باسم “الأموال”.

قال مقدم هذا الكتاب ومحققه[1] “للكتاب قيمة علمية لا تنكر فهو خير ما ألف في الفقه الإسلامي وأجوده، وبه كل ما يتعلق بالنظام المالي في الإسلام، فهذا الفن من فنون الفقه قد يصيبك الجهد، وأنت تبحث عن مسائله، أو تنقب عن ذخائره المنثورة في ثنايا الكتب فقليل من العلماء من بحث فيه، والأقل من أفرد له كتابا كأبي يوسف في كتاب “الخراج”. وكتاب الخراج أيضا ليحي بن آدم. أما من وفى هذا البحث حقه وأفرده عن جنسه فهو أبو عبيد مؤلف كتابنا هذا”[2]. وقال في موضع آخر: هذا الكتاب لم يؤلف مثله في بابه ليكون مرجعا لطلاب العلم في كل ما يتعلق بالنظام المالي في الإسلام.

ومن خلال مطالعاتي في كتاب الأموال السابق ذكره، وكذا كتاب الخراج لأبي يوسف، ويحي بن آدم، تبين لي أن أصحابها لم يهتموا بتأصيل نظرية المال، وإنما اكتفوا بذكر كل ما يصدق عليه أنه مال، أو يطلق عليه، ولهذا سأعمل في هذا البحث على تتبع أصول هذه النظرية في كتب الفقه الإسلامي من خلال المبحثين التاليين:

المبحث الأول: مفهوم المال، وبيان عناصره.

المبحث الثاني: أقسام المال، وبيان أنواعه.

المبحث الأول: مفهوم المال، وبيان عناصره

  الفرع الأول: مفهوم المال

  الفقرة الأولى: تعريف المال في اللغة.

المال في اللغة كل ما يملكه الإنسان من جميع الأشياء.

جاء في النهاية، “المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل، لأنها كانت أكثر أموالهم”[3] وفي لسان العرب “مول معروف ما ملكته من جميع الأشياء، قال حسان:

المال تزري بأقوام ذوي حسب        وقد تسود غير سيد المال

والجمع أموال، وفي الحديث” نهى عن إضاعة المال” قيل أراد به الحيوان، أي يحسن إليه ولا يهمل، وقيل إضاعته إنفاقه في الحرام والمعاصي وما لا يحب الله.

ومال الرجل يمول، ويمال مولا، ومؤولا إذا صار ذا مال”[4].

ومما سبق يمكن توجيه مفهوم المال في اللغة إلى معنيين:

أحدهما: أن المال هو الصامت من الذهب والفضة خاصة.

والثاني: أن المال هو الماشية من إبل وبقر، وغنم…[5].

والظاهر أن المال بهذا المعنى الثاني هو لغة البدو، وعليه يحمل قول ابن الأثير السابق حين قال: وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنها أكثر أموالهم.

الفقرة الثانية: مفهوم المال في الإطلاق الفقهي.

إن الباحث إذا أراد أن يبحث عن تعريف المال في كتب الفقه على مذاهبه، فإنه بلا شك سيلاحظ انقسام الفقهاء في تعريفه إلى قسمين اثنين:

 القسم الأول: ويمثله فقهاء المذهب الحنفي، فإن تعريف المال عندهم مبني على الحسية والمادية، وعليه فقد عرفوه بأنه: ” ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة”[6]، وفي هذا التعريف ميزة، أنه ربط بين معنى المال في الشرع واشتقاقه اللغوي، وفيه نص لأنه غير جامع لكل أفراد المال[7].

وقريب من هذا التعريف، قول الدكتور وهبة الزحيلي في تعريف المال بأنه: ” كل ما يمكن حيازته، وإحرازه، وينتفع به عادة”[8].

وعرف المال عند الحنفية أيضا بأنه: ” ما أمكن حيازته وإحرازه، والانتفاع به انتفاعا عاديا جائزا في غير حالات الضرورة”[9].

وهذا التعريف، في نظرنا، أوضح بيانا، وأقوى عبارة من التعاريف السابقة لأنه نص على عنصر الجواز المشترط في حيازة المال وإحرازه والانتفاع به، وهو عنصر أساسي غفلت عن الإشارة إليه التعاريف السابقة.

وخصائص المال على ضوء هذا تقوم على كون المال عينا من الأعيان، أي مادة لها حيز.

وخرج بهذا عن المال المنافع والحقوق، وهي وإن كانت ذات قيمة فلا تدخل في مفهوم المال، عند الحنفية، وإن كان داخلا تحت مفهوم الملكية، وتقوم خصائص المال على إباحة الانتفاع به شرعا في الأحوال العادية، وأما ما يباح للضرورة فلا يكون مالا، لأن المالية صفة من صفات الأموال العادية، وخرج بهذا القيد كل ما لا يباح شرعا في الأحوال العادية، ولذا فمجرد الإباحة للضرورة لا تجعله مالا، كالميتة، والخنزير، ونحوهما مما هو محرم عادة.

وخرج أيضا عن مفهوم المال ما لا ينتفع به عادة وإن كان مباحا، ومثلوا له بحبة القمح والأرز، وقطعة خشب ملقاة تافهة.

قال الدكتور موسى كامل معلقا على التعريف السابق: فالمال عند الحنفية هو الشيء العيني المباح الانتفاع به عادة، وبالإمكان حيازته وإحرازه.

وإن المنافع عندهم داخلة ضمن الملكية لا المالية، إذ الملك عندهم هو ما من شأنه أن يتصرف فيه بوجه الاختصاص، وهو شامل لكل من الشيء العيني والمنفعة[10].

فالمال في المذهب الحنفي هو الشيء الممكن حيازته وادخاره لوقت الحاجة وله وجود خارجي وحسي مادي، وعلى هذا فعند هذا الفريق من الفقهاء:

  • ما ليس مالا ولا ملكا لا يعتبر محلا للعقد، وللملكية، فهم يشترطون في المال “إمكان الحيازة والإحراز”[11] فلا يعد مالا ما لا يمكن حيازته كالأمور المعنوية مثل العلم، والصحة، والشرف، والذكاء، وما لا يمكن السيطرة عليه كالهواء الطلق، وحرارة الشمس، وضوء القمر.

ب. ما ليس بمال ولكنه ملك كالمنافع، والحقوق يقبل عقود التمليك بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالإعارة، والهبة، والصدقة، وقد لا يقبل، كحق الأم في الحضانة، فلو أرادت تمليكها لغيرها بعوض أو بغير عوض فإن هذا لا يصح[12].

  • ما كان مالا، فإنه يقبل عقود البيع والشراء، ويصلح أن يكون محلا للعقد، وتقوم هذه القاعدة على عنصرين أساسيين هما:
  1. العينية: والمراد بها ذات لها وجود خارجي كالسلع، والأشياء المنقولة وغير المنقولة.
  2. العرف: والمراد اعتياد الناس كلهم أو بعضهم تموله وصيانته بحيث يجري فيه البذل والمنع.

ويفهم هذا الأساس من قول صاحب كتاب “رد المحتار” وتثبت المالية بتمول الناس كلهم أو بعضهم[13].

“والتمويل صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة”[14].

  1. أن يكون متقوما شرعا بمعنى الإباحة: فما لا يجري فيه البذل والمنع بين الناس لا يعتبر مالا ولو كان عينيا، ومثلوا له بالإنسان، وكذا حبة القمح ” وما يعتاده الناس ويجري فيه البذل والمنع لكنه لا عين مادية له لا يدخل تحت نطاق المالية، بل يدخل تحت الملكية، وذلك كالحقوق والمنافع”[15].

القسم الثاني: ويمثل جمهور العلماء غير الحنفية

على خلاف نظرة علماء الحنفية للمال، فإن الجمهور، من مالكية، وشافعية وحنابلة يذهبون إلى أن المال هو ما أمكن صاحبه التسلط عليه ومنعه من غيره ولو بحيازة مصدره[16]، وهذا المفهوم للمال، عند الجمهور، اختلفت عباراتهم في صياغته، ولكن تلك العبارات عند التأمل ترجع إلى معنى واحد كما سبق.

أ. فالمالكية ساغوا تعريف المال بعبارات مختلفة منها: قول الإمام الشاطبي في معرض حديثه عن الضروريات الخمس معرفا المال بقوله: وأعني بالمال ” ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات”[17].

والمتمولات كما لا يخفى كثيرة، لعل أبرزها وأهمها الأعمال التجارية وما يدخل في معناها، فإن كل ذلك يدخل في نطاق المتمولات كما يفهم من كلام ابن العربي في تفسيره قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29). قال التجارة: هي مقابلة الأموال بعضها ببعض وهو البيع وأنواعه في متعلقاته بالمال كالأعيان المملوكة أو ما في معنى المال كالمنافع، وهي ثلاثة أنواع: عين بعين، وهو بيع النقد، أو بدين، وهو السلم، أو حال، وهو يكون في التمر أو رسم الاستصناع أو بيع بمنفعة وهو الإجارة”[18].

ونقل أستاذنا محمد التاويل في محاضراته الفقهية، تعريف ابن العربي للمال بقوله: “المال ما تتعلق به الطباع ويعتد للانتفاع”[19].

والتعريفان وإن اختلفت عباراتهما فإن مؤداهما واحد وهو اعتبار عنصري الملكية، والانتفاع في ثبوت مالية الشيء.

وعرف الأستاذ مولاي عبد الواحد العلوي المال بقوله: ” المال كل ما يمكن أن يملك وينتفع به على وجه معتاد وشرعي” وقد علق أستاذنا الدكتور علال الهاشمي الخياري على هذا التعريف قائلا: “ويحترز بقيد الشرع والعادة عن الأ\ياء التي لا يتعامل بها إما بحكم الشرع كالخمر والخنزير والميتة، وإما بحكم العادة، كالشيء التافه الذي لا يؤبه به، أو الأشياء التي تخرج عن دائرة التعامل بطبيعتها كالهواء فإن أحدا لا يستطيع أن يستأثر بتملكه والانتفاع به”[20].

ب. والشافعية لا يختلفون في نظرتهم للمال عن نظرة المالكية

قال الإمام الشافعي في المال: “لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها ويلزم متلفه وإن قلت، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك”[21].

وقد تابع علماء الشافعية إمامهم في هذا فقال السيوطي في الأشباه والنظائر: “المال لا يقع إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه، وإن قلت، وما لا يطرحه الناس”[22].

وعرف الزركشي من الشافعية المال بأنه: “ما كان منتفعا به أي مستعدا لأن ينتفع به وهو إما أعيان أو منافع، والأعيان قسمان: جماد، وحيوان. فالجماد في كل أحواله، والحيوان ينقسم إلى ما ليس له بنية صالحة للانتفاع، فلا يكون مالا كالذباب والبعوض والخنافس، والحشرات، وإلى ما له بنية صالحة للانتفاع، وهذا ينقسم إلى ما جبلت طبيعته على الشر والإيذاء كالأسد والذئب فليس مالا، وإلى ما جبلت طبيعته على الاستسلام والانقياد، كالبهائم والمواشي فهي أموال”[23].

ج. وأما الحنابلة، فأمرهم واضح في اعتبار المنفعة، وكونها مباحة لغير حاجة أو ضرورة، وحيثما تحقق هذا فهو مال وصالح لمحل العقد، وفي هذا يقول صاحب الإقناع من الحنابلة: ” إن المال ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة كعقار، وجمل ودود قر، وديدان لصيد، وطير لقصد صوته كبلبل وببغاء، أما ما لا نفع فيه كالحشرات، وما فيه نفع محرم كخمر، وما لا يباح إلا لضرورة كالميتة، وما لا يباح اقتناؤه إلا لحاجة فلي مالا[24].

ونلاحظ من خلال آراء الجمهور حول المال أنهم لم يشترطوا في العينية؛ “أي المادة المحازة” إمكانية الحيازة الحسية، ولذا فالمنافع عندهم أموال لأنها تمنع بحيازة مصدرها، والمال عندهم كما هو عين فهو منفعة، وكذلك الحقوق، وهي ما ثبت للإنسان بمقتضى الشرع من أجل مصالحه[25]، فإنها تعد مالا إذا ما جرى التعامل فيها وأصبحت ذات قيمة مالية.

بل من الفقهاء من قال بالتوسع أكثر في مفهوم المال، فقال ما مفاده: “المالية ليست إلا صفة للأشياء بناء على تمول الناس واتخاذهم إياها مالا ومحلا لتعاملهم، وذلك لا يكون إلا إذا دعتهم الحاجة إلى ذلك فمالت إليه طباعهم، وكان بالإمكان التسلط عليهم والاستئثار به ومنعه من الناس”[26].

والذي أراه هو أنه ينبغي ألا نأخذ بهذا الكلام على إطلاقه، لأن التوسع في اعتبار كل شيء ما لا يمكن أن يؤدي إما إلى اعتبار أشياء أموالا بالرغم من أنها لا قيمة لها، وإما أن يؤدي إلى اعتبار أشياء مالا وقد حرم الشرع حيازتها، والانتفاع بها، وعليه فينبغي تقييد اعتبار الأشياء أمولا بشرطين:

أولا: أن يكون الشيء له قيمة بين الناس، سواء كان عينيا أو منفعة ماديا أو معنويا، فلو كان الشيء تافها لا قيمة له بين الناس لا يكون مالا عينا أو منفعة كحبة قمح، أو منفعة الاستظلال بظل شجرة أو حائط أو شم تفاحة مثلا.

ثانيا: أن يكون الشيء قد أباح الإسلام الانتفاع به في حالة السعة والاختيار، كالحبوب، والإبل، والعقارات، وسكنى الدار، وركوب السيارة، أما إذا كان الإسلام حرم الانتفاع به كالخمر، والخنزير ولحم الميتة، ومنفعة آلات اللهو المحرم، فإنه لا يكون مالا[27].

وهذا الشرط مراعى حتى عند الحنفية حينما عرفوا المال كما سبق بأنه: “ما أمكن حيازته وإحرازه، والانتفاع به انتفاعا عاديا جائزا في غير حالات الضرورة”.

ولا يلزم من تعريف الجمهور للمال، كما هو ظاهر، أن يكون مادة تدخر لوقت الحاجة، بل يكفي أن يكون الحصول عليه ميسورا عند الحاجة إليه غير معتذر، وذلك متحقق في المنافع وفي كثير من الحقوق.

“فإذا ما تحقق، ذلك فيها عدت من الأموال، بناء على عرف الناس وتعاملهم”[28]. وعليه فكل ما له قيمة لدى الناس عينا كان أم منفعة هو مال وقيمة الشيء تكون تابعة لما فيه منفعة”[29].

فلا تتطلب المالية للشيء سوى إمكان تقديرها بالنقد أي أن الشيء إذا كان له قيمة فإنه يكون مالا”[30].

والمنفعة، بطبيعة الحال، هي الأصل في التقييم والاعتبار، وطبعا بوجود الإباحة الشرعية، ومن خلال تحليلنا للتعاريف السابقة يتبين لنا أن جوهر الخلاف بين فقهاء الحنفية والجمهور هو “المنفعة”.

 فالمنافع أموال عند الجمهور، وغير أموال عند الحنفية لأنها لا تدخل تحت الحيازة المادية الحسية “ولأن المال في نظرهم لا يكون إلا عينا قائمة بذاتها”[31].

ولذا خرج عندهم عن مفهوم المالية، المنافع والحقوق المحضة، كحق الشفعة، وحق المرور، وخيار الشرط، والعواري، وخيار القبول، ونحوه، ولذلك فهي لا تورث عندهم نظرا لعدم ماليتها، وما يورث هو المال[32]. ونخلص إلى قول الجمهور في مفهوم المال: “كل ذي قيمة بين الناس ما لم يكن محرما الانتفاع به شرعا”[33].

وهذا المعنى هو المأخوذ به قانونا، فالمال في القانون هو كل ذي قيمة مالية[34]. فالمال عند فقهاء القانون، مفهومه يكاد يتفق مع المتأخرين من فقهاء الحنفية ويتقارب كثيرا من اصطلاح جمهور الفقهاء.

ذلك أن المال في الفكر القانوني هو: الحق ذو القيمة المالية، وبعبارة أخرى كل ما له قيمة مادية يعتبر في النظر القانوني مالا عينا كان أو منفعة، أو حقا من الحقوق العينية أو الشخصية، وذلك كحق الامتياز وحق استعمال عناوين المحلات التجارية، وحقوق الابتكار” حقوق الملكية الأدبية والفنية، والصناعية للمخترعين والمؤلفين”[35].

وفي هذا المعنى يقول الأستاذ حسن كيرة: إن مدلول المال يصدق على كل حق ذي قيمة مالية، فكما يعتبر الحق العيني أصليا كان أو تبعيا مالا، كذلك يعتبر مالا الحق الشخصي أو حق الدائنية، والحق المالي للمؤلف الذي ينحصر في احتكار استغلال مصنفه”[36].

ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام هو أن مجلة الأحكام العدلية التونسية قد اتخذت في تعريف المال نص ابن عابدين في الحاشية، فقالت في المادة 126: “المال هو ما يميل إليه طبع الإنسان، ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة منقولا كان أو غير منقول”[37].

ومما سبق يتضح أن رأي الجمهور في مفهوم المال هو الراجح الذي ارتضاه متأخرو العلماء، وكافة الباحثين في الفقه والقانون، وذلك لأنه يعكس الواقع العملي الذي يسير في ركابه النهج الاقتصادي الحديث في كافة الأقطار، وعليه بنيت الدراسة الاقتصادية الحديثة.

الفرع الثاني: عناصر المالية

من خلال ما سبق من التعاريف يتضح لنا أن عناصر المال لا تخرج عن ثلاثة هي:

  • أن يكون المال مشتملا على منفعة.
  • أن يكون المال قابلا للحيازة، على ما ذهب إليه الحنفية.
  • أن يكون المال مباحا الانتفاع به.

وسأعمل على تحليل هذه العناصر من خلال الفقرات التالية.

الفقرة الأولى: أن يكون المال مشتملا على منفعة

لأن ما لا نفع فيه لا يمكن اعتباره مالا، والمنفعة على هذا هي ما نقله الشيخ عليش عن ابن عرفة بقوله: المنفعة: ما لا تمكن الإشارة إليه حسا دون إضافة، يمكن استيفاؤه غير جزء مما أضيف إليه”.

قال الشيخ عليش عقبة، “فتخرج الأعيان، ونحو العلم والقدرة، ونصف العبد، ونصف الدابة مشاعا”[38].

وعرفها الدكتور وهبة الزحيلي بأنها: “المنفعة هي الفائدة الناتجة من الأعيان، كسكنى الدار وركوب السيارة، ولبس الثوب، ونحو ذلك”[39].

فمضمون هذا العنصر: “أن يكون الشيء نافعا، أي صالحا لقضاء حاجة أو إشباع رغبة لا في نظر صاحبه ولكن في نظر الشرع”[40].

فكون الشيء نافعا، يضفي عليه صفة المالية لكن ماذا عن منافع الأعيان؟ لقد سبق لنا أن رأينا عند تحليلنا لإشكالية تعريف المال في الفقه الإسلامي أن جوهر الخلاف بين الجمهور والحنفية هو هل المنفعة مال؟

وأرينا أن مذهب الحنفية هو أن المال لا يكون إلا مادة حتى يتأتى إحرازه وحيازه؛ أي قابلا للادخار إلى وقت الحاجة للانتفاع به انتفاعا معتادا.

وعلى ذلك تخرج منافع الأعيان في نظرهم كحق سكنى المنازل وحق الاستغلال وغيرها فلا تعد من الأموال لأنها غير قابلة للادخار. وهي قبل طلبها واكتسابها تكون معدومة لا وجود لها في عالم الأعيان أي ” أن صفة المالية إنما تثبت بالتمول، والتمول صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة، والمنافع لا تبقى وقتين، ولكنها أعراض كلما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشى”[41].

ومن نتائج هذا الرأي أن منافع المال المغصوب لا تضمن، أي أن الغاصب حسب رأي فقهاء المذهب الحنفي لا يضمن منفعة المغضوب باعتبار أنه لم يستهل بانتفاعه مالا، لأن المنافع ليست أموالا”[42].

وواضح من هذا الموقف من الحنفية أنه فيه حرج للأفراد في علاقاتهم المالية، وقد شعر فقهاء المذهب الحنفي بهذا الحرج عندما استثنوا من هذا الحكم مال الوقف ومال اليتيم، فقد أجازوا استحسانا تضمين الغاصب منافع مالهما، ووقاية لمصالحهما وكذلك الأعيان المعدة للاستغلال فيلزم ضمان المنفعة، أي أجر المثل إذا لم يكن استعمالها بسبب ملك أو عقد[43].

وقد عكس قانون أصول المحاكمات الحقوقية العثماني في المادة 64، التي عدلت ما ورد في مجلة الأحكام العدلية لاسيما المادة 126 التي تنص على أن: ما تعورف تداوله من الأعيان والمنافع والحقوق على الإطلاق هو في حكم المال المتقوم[44].

ويعكس هذا التراجع عن المبدأ السابق أيضا ما ورد في رد المحتار من أنه ” تعتبر العين معدة للاستغلال إذا أوجدها مالكها أو تملكها لهذا الغرض، كدار يبنيها ليؤجرها أو سيارة يشتريها لذلك، وكذلك تعتبر معدة للاستغلال إذا أجرها مالكها ثلاث سنين متوالية أو أعلن في الناس أنه أعدها للاستغلال، ويبطل إعداد العين للاستغلال بموت مالكها، وببيعه إياها[45].

ولقد أحسن فقهاء المذاهب الأخرى، كالشافعي، والمالكي، والحنبلي عندما خالفوا وجهة نظر فقهاء المذهب الحنفي فيما وصلوا إليه، فقالوا بمالية المنافع. فالمنافع أموال، وليس بلازم في المال أن يحرز بنفسه، بل يكفي أن يحاز بحيازة أصله وملك مصدره”[46].

ولعل في هذا الرأي دفع للحرج الذي وقع فيه علماء الحنفية، وفيه موافقة لمصالح الأفراد والجماعات في الحياة الاقتصادية والمالية، خاصة وأن التشريعات الوضعية أخذت برأي جمهور الفقهاء فاعتبرت أن المنافع من الأموال[47].

ونختم الحديث عن عنصر المنفعة، بإيراد أدلة كل من الحنفية والجمهور حول مالية المنافع، حسب ما لخصها الشيخ محمد أبو زهرة عن كتاب الأم للشافعي: ومما ذكر من أدلة الجمهور ما يلي:

  • أن الطبع يميل إليها، ويقدم في سبيلها رخيص الأشياء ونفيسها.
  • أن العرف العام في الأسواق، والمعاملات المالية بجعل المنافع غرضا ماليا ومتجرا يتجر فيه.
  • والشارع الإسلامي اعتبر المنافع أموالا لأنه أجاز أن تكون مهرا في الزواج ولا يكون مهرا في الزواج إلا المال.

وأجاب الحنفية، ” أن المنافع ليست أموالا متقومة بنفسها، وإنما تقومها بالعقد، وقد استدلوا على ذلك بأن صفة المالية للشيء لا تثبت إلا بالتمول، والتمول صيانة الشيء وإحرازه، ولذا لا يقال لمن ينتفع بالشيء مستهلكا له، أنه متمول له، وإذا كان التمول كذلك، فالمنافع لا يمكن تمولها، وإذن فهي ليست بمال، والمنافع قبل كسبها معدومة، والمعدوم لا يطلق عليه اسم المال، وبعد كسبها لا يمكن إحرازها”[48].

ونمر بعد هذا إلى عرض مضمون العنصرين الباقيين من عناصر المال بإيجاز.

الفقرة الثانية: أن يكون المال قابلا للحيازة

ومقتضى هذا العنصر أن يكون الشيء المعتبر مالا قابلا للحيازة، فلا يكون مالا ما لا يمكن حيازته كالأمور المعنوية، مثل العلم، والصحة، والشرف، والذكاء، وما لا يمكن السيطرة عليه كالهواء المضغوط المعبأ في زجاجات فهو مال محرز[49]. “فالشيء الذي لا يمكن امتلاكه وإخضاعه لعملية التبادل بين الناس، لا يعتبر مالا اقتصاديا، وليست له أية قيمة مالية”[50].

فحيازة الشيء عنصر أساسي من عناصر المال، وخاصة عند الحنفية الذين يشترطون الحيازة الحسية والمادية للشيء، فيخرج بهذا الشرط عندهم المنافع من دائرة التعامل المالي.

الفقرة الثالثة: أن يكون المال مباحا الانتفاع به

ومضمون هذا الشرط، أن يكون الشيء ليس من المحرمات الشرعية، المفصلة في الكتاب العزيز والسنة النبوية، وحتى يكون الشيء مباحا شرعا يجب أن يكون طاهرا، لأن الإسلام قد اشترط في جواز امتلاك الشيء أن يكون طاهرا.

والطاهر يقابله النجس والرجس من كل المحرمات التي ورد النهي الخاص أو العام في شأنها، فانتفت عنها بهذا النهي صفة الطهارة الشرعية، فزالت عنها القيمة المالية، وأصبح التعامل بها بيعا وشراء من باب أكل أموال الناس بالباطل[51].

المبحث الثاني: أنواع المال

عرف تاريخ الأموال تقسيمات عديدة تختلف باختلاف الشرائع والقوانين وعصور التاريخ، لذا تختلف الأحكام المتعلقة به باختلاف أنواعه. وقد عني فقهاء الشريعة الإسلامية ببيان أقسام المال تبعا لاختلاف أحكامه.

ومن هذه التقسيمات المعروفة حاليا ما يلي:

ينقسم المال:

  1. باعتبار إباحة الانتفاع به وحرمته إلى متقوم، وغير متقوم.
  2. باعتبار استقراره في محله وعدم استقراره إلى عقار ومنقول.
  3. باعتبار تماثل آحاده أو أجزائه وعدم تماثلها إلى مثلي وقيمي.
  4. باعتبار بقاء عينه بالاستعمال وعدم بقائه إلى استهلاكي واستعمالي، وسأفصل القول في بيان هذه الأنواع أو الأقسام من خلال الفروع الأربعة الآتية*:

الفرع الأول: المتقوم وغير المتقوم

– الفقرة الأولى: المال المتقوم: عرف بتعاريف متعددة أهمها ما نصت عليه المادة 127 من مجلة الأحكام العدلية بقولها: “المال المتقوم يستعمل في معنيين. الأول: بمعنى ما يباح الانتفاع به، والثاني: بمعنى المال المحرز، فالسمك في البحر مثلا غير متقوم، وإذا اصطيد صار متقوما بالإحراز.

وعرف المال المتقوم أيضا بأنه: “ما كان له قيمة تستوجب تضمين متلفه عند الاعتداء عليه، وذلك بسبب ما منحه الشارع من حماية وجعل له من حرمة”[52]. وواضح من التعريف الأول أنه ذو وجهة حنفية، إذ أن الحنفية يعتبرون المال متقوما، إذا كان له قيمة في نظر الشريعة الإسلامية، والقيمة في نظر الشريعة الإسلامية تتحقق بأمرين:

  • أن يكون الشارع الإسلامي قد أباح الانتفاع به انتفاعا مطلقا.
  • إحرازه، وحيازته فعلا[53].

– الفقرة الثانية: المال غير المتقوم: أما المال غير المتقوم فهو ما لم يحرز بالفعل، أو ما لا يباح الانتفاع به شرعا إلا في حالة الاضطرار[54]، مثل السمك في البحر، والخمر والميتة وغيرهما، بإباحة الانتفاع بالخمر والخنزير والميتة للمسلم بما يسد به رمقه في حالة الضرورة فلا تأثير له على أصل حظر الانتفاع بها، لأن الضرورات تبيح المحظورات[55]، وفي هذا يقول تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ..﴾ إلى أن قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: 3).

وروي عن جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول عام الفتح وهو بمكة: “إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عند ذاك قاتل الله اليهود، إن الله، عز وجل، لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه”[56]. فالآية الكريمة والحديث النبوي بينا لنا أن المذكورات فيهما حرام، وبالتالي فإن القيمة المالية تنتفي عن كل ذلك، فيمنع التصرف فيها بالبيع والشراء وغيرهما.

وتظهر ثمرة تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم في أمرين اثنين:

الأول: الضمان وعدمه

فإذا كان المال متقوما، واعتدى عليه إنسان، فأصابه تلف لزمه الضمان لمالكه. وإذا كان غير  المال متقوم كخمر أو خنزير، وأتلفه إنسان لم يضمن له شيئا لعدم تقومها.

الثاني: صحة العقود وبطلانها

المال المتقوم يصح التصرف فيه بالبيع، والهبة، والوصية، والرهن والشركة وغير ذلك من سائر التصرفات الشرعية.

أما المال غير المتقوم فكل ما يرد عليه من تصرف يعتبر باطلا[57].

الفرع الثاني: العقار والمنقول

هذا هو التقسيم الأساسي للمال، ويمكن اعتبار التقسيمات الأخرى عائدة إلى هذا التقسيم ومتفرعة عنه.

الفقرة الأولى: العقار

عرف ابن رشد من المالكية العقار بأنه: هو ما لا يمكن نقله، وتحويله أصلا، كالأرض، أو ما أمكن تحويله ونقله مع تغيير صورته وهيئته عند النقل والتحويل، كالبناء والشجر. فالبناء بعد هدمه يصير أنقاضا، والشجر يصبحا أخشابا[58]. ومن خلال هذا التعريف يلاحظ أن المالكية وسعوا من دائرة مفهوم العقار، فاعتبروا، تبعا لذلك، البناء والشجر عقارا لاتصالهما بالأرض، وقد يطلقون العقار على بعض الأشياء المنقولة التي تكون تابعة ومخصصة لمنفعة عقار، كالحيوان أو الأدوات المعدة للزراعة، والمرتبطة بالأراضي الزراعية.

فهذه الأشياء المنقولة في الأصل، تعتبر في الفقه المالكي-وحتى في القوانين الحديثة- في حكم المال غير المنقول لأنها مخصصة لاستثمار العقار[59].

وعلى خلاف المالكية، يلاحظ أن الحنفية ضيقوا من دائرة مفهوم العقار، فعرفوه بأنه: هو الثابت الذي لا يمكن نقله، وتحويله أصلا من مكان إلى آخر كالدور والأراضي[60].

الفقرة الثانية: المنقول من الأموال

أما المنقول فهو عند المالكية ما أمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقائه على هيئته وصورته الأولى كالملابس والكتل (والسيارات) ونحوها[61].

وعرف الحنفية المنقول بأنه هو ما أمكن نقله، وتحويله من مكان إلى آخر، سواء أبقي على صورته وهيئته الأولى، أم تغيرت صورته وهيئته بالنقل والتحويل، ويشمل النقود(*)، والعروض التجارية وأنواع الحيوان والمكيلات والموزونات[62].

الفرع الثالث: المثلي والقيمي من الأموال

المثلي والقيمي من أهم أنواع المال وأصنافه، وقد أولاه علماء الإسلام وفقهاؤه عناية كبيرة، ومسائل المثلي والقيمي منتثرة في كل أبواب الفقه تقريبا، وأن تطبيقاته تصل إلى أكثر فروعه، بل نجد للمثلي والقيمي أثرا في جزئيات العبادات والمعاملات، والجنايات، وأحكام الأسرة وغيرها.

وقد عني فقهاؤنا الكرام على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم بتطبيقات المثلي في جل أبواب الفقه.

يقول شيء الإسلام ابن تميمة “عوض المثل كثير الدوران في كلام العلماء، وهو أمر لابد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة، فهو ركن من أركان الشريعة”[63]، بل إن العلامة ابن القيم جعل مدار الاستدلال جميعه على “التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين”[64].

وعلى ضوء ما سبق سأحاول التعرف على ماهية المال المثلي، والمال القيمي من خلال الفقرتين التاليتين:

الفقرة الأولى: ماهية المثلي في كلام الفقهاء ونصوصهم

البند الأول: المثلي ومعناه في اللغة

المثلي -لغة- نسبة إلى المثل، وهو بكسر الميم وسكون الثاء، وبفتحها لغة بمعنى الشبه، فيقال هذا مِثْلُهُ ومَثَلُهُ كما يقال شِبْهُهُ وشَبَهُهُ وزنا ومعنى[65]. وبقول العلامة المقري: “المثل يستعمل على ثلاثة أوجه، بمعنى الشبه، وبمعنى نفس الشيء وذاته… والمثل بمعنى الوصف والصورة”[66].

وقد وردت كلمة المثل في القرآن الكريم كثيرا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194)، أي خذوا حقوقكم واقتصوا بدون زيادة وتجاوز[67]، وكذلك ورد لفظ المثل في السنة المطهرة من ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في التبايع في الأصناف الستة.. “مثلا بمثل..”[68].

وقد كشف ابن حجر عن هذه العبارة بقوله: هو مصدر في موضع الحال، أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون، أو مصدر مؤكد أي يوزن وزنا بوزن[69].

البند الثاني: مفهوم المثلي في اصطلاح الفقهاء

ذكر الفقهاء عدة تعريفات لمصطلح المثلي، ذكر منها الإمام الرافعي من الشافعية، خمسة، ناقشها مناقشة مستفيضة ورجح أحدها، فقال: ” فإذن أظهر العبارات: الثانية[70] لكن الأحسن أن يقال “المثلي”.

“كل ما يحصره الكيل أو الوزن، ويجوز السلم فيه[71]، وعلى ضوء هذا التعريف، فالمعيار هو ما يحصره الكيل والوزن، وهذا مذهب جمهور الفقهاء”[72].

ويدعمه ما رواه الدارقطني بسنده عن أنس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك”[73].

والتعريف السابق هو ما عليه جمهور الفقهاء، لكن بعضهم ألحقوا بالمكيل والموزون المعدودات التي لا تفاوت بين آحادها تفاوتا يعتد به، مثل البيض والجوز والنقود الورقية المتداولة، كقاعدة عامة[74].

وقد رجح ابن عابدين وغيره أن كل ما ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت ويعتد به فهو “مثلي” وما ليس كذلك فـ “قيمي”، والمراد بقوله: “بلا تفاوت يعتد به”؛ أي لا يختلف لسببه الثمن[75].

ومثل هذا المذهب يذهبه علماء المالكية كما في شرح الخرشي، وابن رشد في البداية[76].

الفقرة الثانية: ماهية القيمي من الأموال ودلالته عند الفقهاء

القيمي هو أيضا اصطلاح يدل على ما له تعلق بالمال ويذكر مقرونا باصطلاح”المثلي”. فمثلا إذا لم يكن الرد بالمثل يكون بالقيمة، ولا واسطة بينهما، فما المقصود بالقيمي عند اللغويين والفقهاء:

البند الأول: القيمي لغة

“القيمي نسبة إلى القيمة، وهي لغة واحدة القيم بكسر القاف وفتح الياء، وأصله واو، لأنه من قام يقوم على أساس أن القيمة تقوم مقام الشيء نفسه، والقيمة ثمن الشيء بالتقويم، فيقال كم قامت ناقتك؟ أي كم بلغت قيمتها..”[77].

وقرئ “قيما” في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ (النساء: 5).

البند الثاني: القيمة في اصطلاح الفقهاء

عرف الفقهاء القيمة بأنها، ما يقدر به الشيء حسب سعره في السوق[78]. وقد أوجزه الزركشي فقال: هي ” ما تنتهي إليه رغبات الراغبين” ثم ذكر بأن بعضهم قالوا: إنها وصف قائم بالمتقوم”[79].

و”القيمة تختلف عن الثمن، وذلك لأن الثمن هو ما تراضى عليه المتعاقدان، سواء أزاد على القيمة أو نقص، وأما القيمة فهي ما قوم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان”[80].

ومما يجدر التنبيه عليه أن القيمة أو القيمي إذا ذكر في مقابل المثل أو المثلي فمعناه ما سبق، لكن لفظ “القيمة” إذا ذكر مطلقا فقد يستعمل فيما هو أعم من ذلك المعنى، فقد علق العلامة تاج الدين السبكي على بعض عبارات الفقهاء فقال: المعني بالقيمة هنا عوض المتلف: قيمة إن كان متقوما، ومثلا إن كان مثليا، ثم قال: “المراد بالقيمة هنا العوض[81].

ومما يجب التنبيه عليه أيضا أن المتقوم غير القيمي عند الحنفية، ذلك أن المتقوم يعرف عندهم كما مر معنا بأنه: ما يمكن ادخاره ويباح الانتفاع به شرعا[82]. ويقابله غير المتقوم، وذلك لأن الحنفية اعترفوا بأن الخمر والخنزير إذا كان لدى الذمي فإنهما يعتبران من الأموال، ولكنهما غير متقومين[83].

وأما الجمهور فلم يعترفوا بمالية ما هو محرم لذاته، ومن هنا لم يحتاجوا إلى هذا التقسيم، وإن كان استعمال”المتقوم” وغير”المتقوم” واردا عندهم، ويقصدون بالمتقوم: ما له قيمة، فيكون بمعنى “القيمي” أو بمعنى: ما له عوض، وحينئذ يكون المراد به أعم من القيمي أي كل ما يوجب إتلافه العوض، سواء أكان بالقيمة أم بالمثل[84].

الفرع الرابع: المال الاستهلاكي والاستعمالي

وهذا القسم يمكن اعتباره بديهيا، لأن المال في الواقع إنما وجد لغاية سد حاجة الإنسان استهلاكا واستعمالا.

  • فالمال الاستهلاكي: هو الذي لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، كأنواع الطعام والشراب والنفط..

فلا يمكن الانتفاع بهذه الأموال، ما عدا النقود، إلا باستئصال عينها، وأما النقود: فاستهلاكها يكون بخروجها من يد مالكها، وإن كانت أعيانها باقية بالفعل.

  • والمال الاستعمالي: هو ما يمكن الانتفاع به بقاء عينه كالعقارات، والمفروشات والكتب، وغيرها.

خاتمة

من خلال ما سبق يتضح لنا أن المال هو محور المعاملات، وعليه ترتكز بعض العبادات كالزكاة، وقد خصه الفقهاء بنصوص وقواعد هامة تبين أحكامه، وتحدد شروط اكتسابه.

وهكذا يمكن القول بأن فقهاء الإسلام قد أوجدوا من خلال قواعدهم نظرية متكاملة للمال، وإن لم يخصصوا لها بابا معينا ضمن أبواب الفقه. ولكن من تتبع نصوصهم أدرك أن للمال نظرية، مثل نظرية العقد، ونظرية الذمة وغيرها.

انظر العدد 14 من مجلة الإحياء

الهوامش

  1. وهو: خليل هراس محمد، من علماء الأزهر.
  2. مقدمة كتاب “الأموال” بقلم ذ هراس خليل محمد، ص 1.
  3. ابن الأثير النهاية، مادة، موَّل.
  4. ابن منظور، لسان العرب، مادة موَّل، ج 11 ص 635: 636.
  5. أستاذنا محمد التاويل، محاضرات في الفقه الإسلامي، مطبوع على الآلة الكاتبة، ص1.
  6. ابن عابدين، رد المحتار، ج.4: 3.
  7. الشيخ أبو زهرة، الملكية ونظرية العقد، ص47.
  8. الدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج 4 ص40.
  9. الدكتور موسى كامل، أحكام المعاملات، ص86.
  10. دكتور موسى كامل، م، س، ص87.
  11. دكتور وهبة الزحيلي، م، س، ج 4: 40.
  12. دكتور موسى كامل، أحكام المعاملات، ص87.
  13. ابن عابدين، رد المحتار، 4: 3.
  14. السرخسي، المبسوط، ج 11: 78.
  15. د. موسى كامل، المعاملات، ص88.
  16. المرجع نفسه، ص 88.
  17. الإمام الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص17.
  18. الإمام ابن العربي، أحكام القرآن، ج1، ص321.
  19. الأستاذ محمد التاويل، محاضرات في الفقه الإسلامي، ص1.
  20. د. علال الهاشمي الخياري، منهج الاستثمار في ضوء الفقه الإسلامي، ج 1: 107.
  21. الإمام جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر، ص258.
  22. السيوطي، م، س، ص197.
  23. العلامة الزركشي، القواعد، ص343.
  24. نقلا عن د. موسى كامل، أحكام المعاملات، ص88.
  25. د. عبد المجيد المغربي، المال والملكية، ص16، وانظر علي الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص10.
  26. د.موسى كامل، م، س، ص88.
  27. د. أحمد فراج حسين، ص 12.11 من الملكية ونظرية العقد.
  28. الشيخ علي الخفيف، الملكية في الشريعة الإسلامية، ج2 ص 10، نقلا عن أحكام المعاملات، د. موسى كامل، ص89.
  29. د. موسى كامل، أحكام المعاملات، ص89.
  30. د. أحمد فراج حسين، الملكية ونظرية العقد، ص13.
  31. علي الخفيف، الملكية في الشريعة الإسلامية ص10.
  32. الحاشية، لابن عابدين، ج 5: 503.
  33. الحاشية على المنهاج، للقليوبي، ج 2 ص10.
  34. د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج 4، ص42.
  35. أحمد فراج حسن، الملكية ونظرية العقد، ص13.
  36. ذ. حسن كيرة، دروس في الحقوق العينية الأصلية، ج 1، ص524.
  37. د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج 4، ص41.
  38. الشيخ عليش، منح الجليل، ج7، ص493.
  39. د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج4، ص42.
  40. د. علال الهاشمي الخياري، مرجع سابق، ص112، ج1.
  41. د.محمود عبد المجيد المغربي، ص13.
  42. السيوطي، الأشباه والنظائر، ص197.
  43. د. عبد المجيد المغربي، مرجع سابق، ص14.
  44. المرجع السابق في الهامش، رقم 7، ص14.
  45. ابن عابدين، حاشية رد المحتار، ج5، ص8، من كتاب الإجازة.
  46. د. عبد المجيد المغربي، المرجع السابق، ص15.
  47. المرجع نفسه في الهامش، رقم 9، ص15.
  48. الأستاذ محمد أبو زهرة، الملكية ونظرية العقد، ص 52-53 بتصرف.
  49. د. وهبة الزحيلي، م، س، ج4، ص40-41.
  50. د. علال الهاشمي الخياري، مرجع سابق، ص107، ج1.
  51. المرجع السابق، ج1، ص108.

(*) وهناك تقسيمات أخرى للمال منها ما ذكره الشيباني في كتابه” الاكتساب في الرزق المستطاب حين قال: أقسام المال: الصامت، العرض، العقار، والحيوان، ص17-18 من الكتاب السابق.

  1. محمود عبد المجيد المغربي، مرجع سابق، ص18.
  2. د. وهبة الزحيلي، م، س، 4: 44.
  3. ابن عابدين، حاشية رد المحتار 4: 111 وما بعدها.
  4. ذ. أحمد فراج حسن، الملكية ونظرية العقد، ص15.
  5. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: ج2، ص41.
  6. ابن عابدين ح رد المحتار ج4: ص 225 و235، وقارن: بالملكية ونظرية العقد ص16 والفقه الإسلامي وأدلته 4: 44 و45.
  7. ابن رشد، بداية المجتهد، 2: 254.
  8. عبد المجيد المغربي، المال والملكية، ص19-20.
  9. الفقه الإسلامي وأدلته، 4: 64.
  10. بداية المجتهد ج 2: 254.

(*) لقد فصلت القول في النقود في بحث لي حول السياسة النقدية في الإسلام موضوع يقع في حوالي 15 صفحة.

  1. الفقه الإسلامي وأدلته 4: 46.
  2. ابن تيمية مجموع الفتاوي ط دار الإفتاء بالسعودية 29: 520.
  3. أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم ط ابن شقرون القاهرة 1: 520.
  4. لسان العرب لابن منظور ص4132 والقاموس المحيط ص1362.
  5. المصباح المنير، 2: 228.
  6. ابن عطية، تفسير المحرر الوجيز 2: 144.
  7. الحديث رواه البخاري في كتاب البيوع، مع الفتح، ط السلفية4: 379 و 383.
  8. فتح الباري شرح صحيح البخاري 4: 380.
  9. العبارة التي رجحها هي قوله… والثانية: زاد بعضهم اشتراط جواز السلم فيه لأن المسلم فيه يثبت بالوصف في الذمة..الخ.
  10. الرافعي، فتح العزيز المطبوع بهامش المجموع ج: 11 ص268-269.
  11. د. علي محي الدين القرة داغي، قاعدة في المثلي والقيمي ص19.
  12. نيل الأوطار 6: ص344.
  13. انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3: 446.
  14. ابن عابدين الحاشية 5: 117.
  15. بداية المجتهد 2: 317، والخرشي 6: 134.
  16. لسان العرب، والقاموس المحيطي، والمصباح المنير مادة “قوم”.
  17. شرح الزرقاني ج: 6 ص208.
  18. نقل هذا النص عن الزركشي د. علي محي الدين القرة داغي في كتابه قاعدة في المثلي والقيمي ص18.
  19. حاشية ابن عابدين 4: 5، والزرقاني 6: 208.
  20. قاعدة في المثلي والقيمي، ص19.
  21. حاشية ابن عابدين 1: 227.
  22. قاعدة في المثلي والقيمي ص19.
  23. الرصاع، شرح حدود ابن عرفة، ص505.
الوسوم

ذ. عبد اللطيف البغيل

    باحث جامعي بكلية الشريعة-فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق