مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من مسالك النجاة

ما النجاة؟ استفهام تخالج في وجدان بعض الصحب رضوان الله عليهم، وازعه استشعار الخطر، وانبهام معالم الوَزر، روى الإمامان أحمد والترمذي وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد -رحمهم الله تعالى- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قالَ: “لقيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ما النجاةُ؟ فقال: املِكْ عليك لسانَكَ، ولْيَسعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتِكَ “.
وفي بعض رواياته : “أمسك عليك لسانك “، لن نقف هنا عند المداليل البلاغية أو الفقهية للحديث، كما أنه لن نستوفي الوقوف عند سائر الإرشادات النبوية للنص الحديثي، و لا عن علة العدول عن صريح السؤال إلى ما يتحصل من صحيح فحواه، وإنما نقتصر على توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للسائل لبعض مسالك العصمة، وذلك قوله : “وليسعك بيتك”. في إشارات موجزات مجملات.
فبنص الحديث يرسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وصايا جامعات، يتوسطها الأمر بلزوم البيوتات حال تخوف الفتن الموجعات، والفرار إليها عند تيقن الهلكات، و يفهم من الحديث أن البيت هي الدرع الحصينة التي تقي الإنسان مصارع السوء؛ المادية أو المعنوية منها على السواء، و باستحضار هذا الاعتبار تفهم وجاهة الامتنان بها على البشرية كلها عند قوله تعالى:” وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بيُوتِكُمْ سَكَناً وجَعَلَ لَكُم مِّن جلودِ الأنْعامِ بيوتاً تَستخِفُّونَها يَومَ ظَعَنِكمْ ويَومَ إِقامَتِكمْ”.[النحل:80] قال الطاهر ابن عاشر: “وهذا امتنان خاص بالبيوت القابلة للانتقال والارتحال، والبشر كلهم لا يعدون أن يكونوا أهل قرى أو قبائل رحلا “فكانت البيوت بذلك مظنة السكن والسكينة.
وبإنعام النظر نستبين أن القرآن فرق بين نوعين من البيوتات، بيوتات يحس فيها ساكنها بالسكينة؛ وهي التي تم بناؤها بمقومات تستجيب لشـروط العمران، فتكون مفزع الإنسان عند وقوع أو توقع المكاره، جُنة له من المعاطب والمهالك، وهي المقصودة بقوله: وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بيُوتِكُمْ سَكَناً”، فهي بيت وسكن؛ لحصول الغاية العظمى منها، وهي حصول السكينة فيها، الثانية لم يصفها بالسكن؛ وإنما جعلها بيتا؛ لأنها لم تُشَدِ بِنيَّة الاستدامة ولا الاستقرار المطلق، وإنما للارتفاق حال الظعن أو الطوارئ، وعليه تحمل الملاجئ وما شابه، وهي ما عنى القرآن بقوله: “وجَعلَ لَكم مِّن جلودِ الأنْعامِ بيوتاً تَستخِفُّونَها يَومَ ظَعَنِكمْ ويَومَ إِقامَتِكمْ”.
وكلا البيتين يلاذ به حال نزول المكاره، ولذلك جاء تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “وليسعك بيتك”، كيفما اتفق ذلك الموئل الذي تأوي إليه، أكان بيتا وسكنا، أم مجرد بيت يفتقر لمقومات السكينة ، إذ مقصد الاكتنان حاصل بكل منهما، والشر والأخطار مدفوعة بهما.
إرشاد نبوي يغري بلزوم البيت حال نزول المخاطر، آنست رشده الأمم والشعوب، فتنادت به في سائر الأرجاء، أنه لا استدفاع للوباء إلا بلزوم البيوتات، ولا حد لانتشار عدواه إلا بالاستجابة للنداآت، فمن دخل داره فهو آمن، ومن استخف بالنداء فلا يلقين باللوم على من أنذر وحذر، صرخة عالمية وافقت سمت الإسلام في النفور من المـَخُوف، والأخذ بالأسباب المفضية إلى إحياء النفوس، وهو الكلي المتبوؤ مرتبة الصدارة في الكليات الخمس المعتبرة في سائر الديانات.
قد أجمع الأنبياءُ و الرسلُ قاطبةً على الديانةِ بالتوحيدِ في الملـــلِ
وحفظُ نفسٍ ومالٍ معْهما نسبٌ وحفظُ عقلٍ وعرضٍ غيرِ مبتذلِ
فجاءت دعوة عملية لإعادة الاعتبار للبيوت، تنقيبا عن رسالتها، وربطا لوشائج المحبة بين قاطنيها، تبريزا للدور المنوط بها، و تشوفا للعود بها إلى سالف مجدها وعزها.
نستجلي جانبا من ذلك في الكتابة المقبلة بحول الله.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق