مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب (8)

مما لا يخفى أن ملكة الحفظ تصقل بالمراس، وتشحد بالتكرار، وهذه دعوى تشهد لها مجاري الأحوال، فغير المشتغل بالحفظ يكابد لضبط محفوظه أكثر من يكابده المشتغل به، ويتطلب مدة أطول لضبط نفس مقدار محفوظ الأول، وإن كانت هذه الملحوظة تسري على عموم المحفوظ، فإن لحفظ الكتاب العزيز شأنا آخر، إذ استظهاره لا يقصر على ضبط المقرو الآني، بل يتعداه إلى استحضاره مواطن التشابه، وعدم الخلط بينها، وعزو كل لفظ لموضعه من الكتاب، في عملية ذهنية واعبة، تستوعب موارد التشابه، وتميز الفروق بينها، وهذا أمر لا يكفي فيه مجرد الحفظ والاستظهار، وإنما يستلزم أمرا خارجيا عن عملية الضبط، تكون بادئ الأمر بوضع رموز مسعفة تهدي التالي إلى مواطن التشابه، ثم تنتهي بالقارئ المتدبر المعمل فكره لإدراك أسرار التباين والاختلاف في المساقات الواحدة.
تمثيل ذلك ما يحصل للحافظ من اللبس في أوائل حزب سورة النمل، المصطلح على تسميته بين الحفاظ المغاربة بـ: “قل الحمد لله”، فقد وقع في صدره خمس استفهامات، ذُيِّل كل واحد منها بالعلة الصارفة عن الاستجابة، في نسق يشق ضبطه ابتداء، فكان من تيسير المعلمين على الطلبة أن وضعوا لذلك رمز “ببقتق”، ينبه الحرف الأول من الرمز إلى الحرف الأول من التذييل ، وهو قوله تعالى: “بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ” [النمل:60] والثاني إلى قوله تعالى: “بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” [النمل:61] والثالث إلى قوله تعالى: “قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ” [النمل:62] والرابع إلى قوله تعالى: “تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” [النمل:63] والخامس: “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” [النمل:64] .
و هذا المنهج يسلك بالطالب مسلك التيسير، غايته ضبط الحرف المتشابه، من غير تشوف لإدراك العلل والأسرار، أما عند النضج واكتمال المعارف، وعقد العزم على الإفادة من الكتاب، فإن مسلك ضبط متشابه الكتاب يُفتح على الطالب من باب التدبر؛ فيكشف له من إشراقاته وأنواره ما يقف به على سر عجيب من أسرار إعجازه، فيلوح له وجه التناسب بين اختلاف أسوقته، وتوجيه متشابه لفظه وآيه، و ذلك أدعى لترسيخ مواطن التشابهه، لأنه ناشئ عن الإحاطة بالمعنى، مترتب على مقاربة الفهم عن الله، وقد أماط اللثام ابن الزبير الغرناطي عن درر من هذه الأسرار في كتابه ملاك التأويل، فأبان عن وجه التناسب بين كل استفهام وما أجيب به عنه في آي سورة النمل قال رحمه الهن:
“الآية الثانية من سورة النمل، قوله تعالى: “قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى”[النمل: 59]، إلى قوله: “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” [النمل: 64]، للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيما أعقبت به كل آية منها، وإبداء التناسب في ذلك؟
والجواب -والله أعلم-: أن الآية الأولى لما نُبهوا فيها ذُكِّروا بما تشهد العقول بديهياً وتعترف بدلالته – إذ لا إشكال فيه – من أن السماوات والأرض تشهد بإحكام صنعتها، وإتقان خلقها، وما أودع سبحانه فيها من العجائب والآيات المشاهدة للعيان، مع انسحاب التغير على جميعها وعلى ما فيها بأن لها موجداً أوجدها وأحكم صنعتها وإتقانها، وأنه لا يمكن أن أوجدت أنفسها، ولا أوجدها غيرها مما يماثلها في شواهد الافتقار وانسحاب التغير، وذلك ما لا تنفك عنه سائر الموجودات، فيشهد العقل بأن لها موجداً من غير جنسها متعالياً عن شبهها؛ إذ لو أشبهها لافتقر إلى موجد آخر، فلبيان الأمر أعقبت هذه الآية الأولى بقوله: “بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ” [النمل: 60]، أي: أن الأمر غير خاف ولكنهم يعدلون عنه، وكذا قيل لهم في دعائهم إلى الإيمان في أول سورة البقرة حين ذكروا بقوله: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ” [البقرة: 21] إلى قوله: “فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” [البقرة: 22]، فهذا كقوله:”بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ” من غير فرق، لما ذكروا في الموضعين بخلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات، وإنبات الحدائق العجيبة، وكانوا يعترفون بخلقه سبحانه جميعَ ذلك “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ” [العنكبوت: 61]، “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ “[العنكبوت: 63]، فاعترافهم بهذا ثم يجعلون له تعالى الند والشريك عدولٌ عن واضح بعد قيام الحجة عليه، فقيل هنا: “بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ”.
ثم لما ذكروا بما هو أخفى في قوله تعالى: “أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا” [النمل: 61]، فإن تمهيد الأرض للسكنى، وتفجير الأنهار خلالها، وحجز ما بين العذب والمالح من مياهها، ليس مما ظهور الاعتبار به وبيانه في الجلاء والوضوح كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء إلى ما في الآية.. فلما كان التذكير بما في الآية الثانية أخفى أُعقب هذا بقوله: “بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” [النمل: 61].
ثم تدرج الاعتبار إلى ما هو أخفى، فقيل: “أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ” [النمل: 62]، وخفاء الاعتبار بهذا واضح، ولا يحصل عليه إلا من أمعن النظر فيما تقدم قبله، فأعقب هذا لخفائه بقوله: “قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ” [النمل: 62].
ثم أعقب بما لا يمكن أن يتعاطاه أحد مع وضوح الأمر عند تدبره؛ وهو قوله تعالى: “أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. ” [النمل: 63]، وذلك مما لا يتصور فيه من العاقل إلا التسليم، فأعقب بحسب ذلك والتفات ما قبله بقوله: “تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” [النمل: 63]، ثم ختم ما قدم من هذه المعتبرات الجليلة بما لا يحصل الاعتبار به إلا بعد إحكام النظر فيما قبله، والاعتراف بما يجب لله سبحانه من الاتصاف بالعلم والقدرة، إذ بهما و بثبوتهما تتِم وتثبت العودة والبدأة، إلى ما يجب له سبحانه من الصفات العُلى، التي يثمر العلم بثبوتها له سبحانه النظر التام الصحيح والاعتبار بما تقدم في الآيات قبل هذه، فلما كمُل ذكر ما به يحصل الاعتراف والإيمان، ويستوضح منه أنه سبحانه المنفرد بالخلق والأمر، والمالك للدارين، أعقب بطلب المعاند بالبرهان على ما يدعيه، فقيل: “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” [النمل: 64]، أي إن صدقتم أن لله شريكاً في ملكه تعالى: “تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” [النمل: 63]، فقد وضح أن كل معقَّب به آية من هذه الآيات، المذَّكَّر بها من استبصر، والقاطعةِ بكل من أشرك وكفر، جار على أوضح مناسبة.”

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق