مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب (4) مناسبة تقدم النفع على الضر في سورة الأعراف، وتأخره عنه في سورة يونس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وكل من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد
جبل الإنسان على حب المنفعة ودفع المضرة، صفة فطر عليها، وغريزة ركب طبعه عليها، وقد جاء الإخبار عن ذلك في قوله تعالى: “وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ” [العاديات:8]، إلا أن المؤمن علِّم أن مجموع ذلك معلق بالمشيئة، فلا يصل إليه من المحاب إلا ما قدر له، ولو كان محبوبَه ومشتهاه، كما أنه لن يبلغه شيء من المكاره إلا بتصريف مولاه، ولو سعى لصرفه بكل الحيل و الأسباب، وقد جاء التنصيص على هذا المعتقد الإيماني في القرآن، خطابا موجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤمر فيه بإعلان هذه الحقيقة، ونشرها بين الخليقة، فقال تعالى في سورة الأعراف:”قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ” [الآية:188] وجاء في سورة يونس بتقديم الضر على النفع فقال: “قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” [الآية:49]، وإنه وإن كان ضبط موضع الاشتباه في الآيتين ميسورا لقلة دورها في الكتاب، إلا أن هنالك ملحظا تدبريا يسفر عن وجه تقدم النفع على الضر في سورة الأعراف، و ورود الأمر بعكس ذلك في سورة يونس، ذلك ما استنبطه أحمد ابن الزبير في كتابه: “ملاك التأويل”، قال رحمه الله:
“الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: ” :”قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ” [الآية:188] ” وفى يونس: “قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” [الآية:49]، للسائل أن يسأل هنا عن تقديم النفع في الأعراف وتأخيره فى يونس؟ وعن تعقيب آية الأعراف بقوله: ” وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ… “الآية، وآية يونس بقوله: ” لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ “؟
والجواب عن الأول: أنه لما تقدم سؤالهم عن الساعة وتكرر فى قوله: ” يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا” [الأعراف:187] أي: عالم بها، وكأن ظاهر السياق يشير إلى أنهم كانوا يظنون أنه عليه السلام يعلمها، فطلبوا تعريفهم بها، وأن يخصهم بذلك، ولاشك أن العلم بالشيء نفع لصاحبه، فعرَّفهم أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وتقدم ذكر النفع؛ لأنه مشير إلى ما ظنوه أنه عنده من علمها، فأعلمهم أنه سبحانه استأثر بعلمها، وأنه عليه السلام لا يملك من ذلك شيئا إلا ما شاء الله له مما عدا علم الساعة، لانفراده سبحانه عن خلقه بعلمها، ” لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ” [الأعراف:187]، ثم تأكد هذا الغرض بقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام: ” وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ” [الآية:188]، وهذا كله بيِّن التناسب.
وأما تأخير ما تقدم فى الأعراف فى سورة يونس، وهو قوله: ” قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ” [يونس:49] فقدم الضر، فللمتقدم قبله من قوله: ” وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ” [الآية:48] “، فطلبوا تعجيل العذاب استهانة وتكذيبا، ولم يعلموا ما في مطالبهم من المحنة والمضرة العاجلة، فقال لهم عليه السلام بأمر الله تعالى: إني لا أملك الضر ولا النفع لنفسي ولا لكم، فلا تستعجلون ذلك، فليس بيدي، فقدم الضر لأجل ما تقدم من طلبهم إياه، وأُخبروا أن لكل أمة أجلا لما شاءه الله وقدره لهم: ” إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ” [الآية:49]، فقد وضح وجه التقديم والتأخير في الضر والنفع، وتوجيه التعقيب بما أعقب كل من الآيتين.”
ولا شك أن إجالة الفهوم تدبرا لآي الذكر، وغوصا لاستخراج درره، يوقف المتدبر على مشكاة أنواره، و يعرضه لفيض سيبه وسني إشراقاته، وذلك مشروط باستحضار آلياته وضوابطه، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بصفاء القلب ونقاء السريرة لتتم صلوحيته لتمام الفهم عنه آمين.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق