مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب: الإيجاز والإطناب من بلاغة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

تعددت مظاهر الإعجاز في الكتاب، وتغاير  سبك حرفه تبعا لمختلف أغراضه، وكان ذا مظهرا من مظاهر إعجازه، فتحدى البلغاء الفصحاء في زمن بلغت فيه العربية ذروة مجدها، بيانا و بلاغة وفصاحة.. وكان امتلاك ناصيتها مفخرة في أوساطهم، وتمييزا للحذاق بها  عقدوا الأندية والمحافل لتباري فحول الشعراء، ونصبوا الألوية لصيارفة جيد المنظوم، وظهرت فيهم أسواق لعرض جيد القول.. فجاء القرآن آية من جنس ما نبغوا فيه، وندبهم إلى التحدي فما اسطاعوا إلى ذلك سبيلا، فأعيتهم فصاحته، وأخرس ألسنتهم بيانه، و تيقن منصفوهم أن لا قبل لهم بمعارضته، وأنه مستمد من مشكاة غير مشكاتهم، أنوار علوية لا تبارى، نظم رصين وسبك محكم لا يجارى،  عن عكرمة : أن الوليد بن المغيرة قال : قد سمعت الشعر رجزه  وقريضه ومخمسه فما سمعت مثل هذا الكلام؛ يعني القرآن، ما هو بشعر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن له لنورا، وإن له لفرعا، وإنه ليعلو وما يعلى[1]” وأخبار استراق عتاتهم لتلاوة النبي بليل وهم المكابرون الجاحدون مبثوثة في تضاعيف كتب السير،[2] أمارة صدق على أن نظم الكتاب أخذ بعقولهم، وأن بلاغته استهوت نفوسهم، فكان حالهم ما أخبر به من اجتماع النقيضين جحود اللسان و استيقان الجنان، “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ”  [النمل:14]

مما استوقف ابن الزبير الغرناطي مسألة الإطناب والإيجاز في الموضوع الواحد، وقد عزى ذلك إلى مراعاة السياق العام لسبك الآي، فإن كان المقام يقتضي واحدا منها كان له ملحظ في مستتبع الآي، وقد مثل لذلك بتكرار المصدر المشتق من فعل “عمل” في سورة الفرقان، “إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ” [الفرقان:70]   والاكتفاء بذكر بالفعل وحده  في سورة مريم في قوله تعالى: “إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا”، و لا شك أن جنى هذا التدبر له كبير الوثاقة في ضبط المتشابه من محكم التنزيل، ولنسق كلامه بتمامه، حتى لا يفوتني شيء من مرامه، قال رحمه الله:

الآية الخامسة من سورة مريم قوله تعالى:

“فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا  إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا” [مريم: 59 – 60]، وفي سورة الفرقان: “وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ” [الفرقان: 68 – 70].

للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: “وَعَمِلَ صَالِحًا” وفي الثانية “وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا”؟ وعن قوله في الأولى في جزائهم “فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا” وفي الجزاء في الثانية: “فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ”؟

والجواب: أن الآية الأولى ورد قبلها بعد ذكر المنعم عليهم ومن اهتدى بهديهم قوله: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا” [مريم: 59]، وهذا قول موجز مجمل، فناسبه الإيجاز في قوله “إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا” الآية، فتناسبا في التقابل الإيجازي كما تناسبا أيضاً في الفواصل ومقاطع الآي، وذلك قوله تعالى: “فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا” وقوله: “وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا”، والمسهل من القراء يقول: شيا فيعقب بالياء المشددة.

وأما قوله في آية الفرقان: “إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ” [الفرقان: 70] فإطناب يناسب التفصيل الواقع قبله في قوله: “وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ” [الفرقان: 68]، ثم قال: “وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ”، يريد ما ذكر مما مدح به المتصف بتقوى الله؛ بتركه والتنزه عن مواقعة شيء منه  “يَلْقَ أَثَامًا” [الفرقان: 68]، ثم فسر ما يلقاه بقوله: “يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، أي: يكثر عليه ويزداد، “وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا  إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ” [الفرقان: 69 – 70]، فجعل بإزاء مضاعفة العذاب لفاعل ذلك تبديل السيئات بالحسنات إلى الغفران والرحمة، فإيجاز بإيجاز، وإطناب بإطناب؛  مناسبة بين الجواب وما جووب به، وكل على ما يجب، ولا يسوغ العكس على ما تمهد، والله أعلم“.

[1]  دلائل النبوة للبيهقي، ح 181. ص: 214.

[2] ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَالأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ وَكُلٌّ لا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلاوَمُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض مثل مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ أَنْ لا نَعُودَ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَفَرَّقُوا، فَلَمَّا أَصْبَحَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا، قَالَ الأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ: مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تجاذبنا على الركب وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ، وَاللَّهِ لا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلا نُصَدِّقُهُ، فَقَامَ عنه الأخنس وتركه.”  عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لأبي الفتح ابن سيد الناس، 1/131.

 

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق