مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من أنظار القاضي عياض في الأداء القرائي وما إليه: طلال وأنداء.

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وتبعهم على تمادي الزمن ومده.

وبعد: فهذه كلمات أريد لها أن تصيب من أنظار القاضي عياض في الأداء القرائي وما إليه طلالا، وأن تنتشي منها أشذاء وأنداء، بعدما رأت أن الرجل – على علو مقامه وجزيل عطائه-  في هذا السبيل، لم يكن له بأعين الدرس نظر حفيل، ولا كان لها بآرائه فيه تبصر في دق أو جليل..

ووسم الكلمات بأنها طل لا وابل، إنما هو مجاهرة منها  بالتبرؤ عن  أن تزعم لنفسها – وما ينبغي لها- وابل التقصي ولا مستكثر التقري..- إنما هي – على مبيت منتواها- إشارات إلى أمهات مآخذ ، ودلالات على منارات مسائل، ترى أنها تستبطن كنين خلفيات، وتنث سرائر خفيات، ومن وراء ذلك الاستحثاث إلى مزيد ابتغاء الرجل في هذه الناحية، والدعوة إلى الانبعاث إلى تحصيلها بعزمات المدارسة وقاصدات التباحث..

ويقصد بالأداء القرائي وما إليه: ما يرجع بفضل علقة أو أثارة نسب إلى مطالب الالتفاظ بحرف الكتاب الكريم،  والتشاغل به في مثاوي ترتيله ، و فحاوي دريته وتأويله. وعلى الله تعالى قصد سبيله، وهو المسؤول سبحانه أن  يتجافى بنا عن جائره، بفضله وجميل منته.

لن يفسح القول ههنا في سيرة عياض بعد أزهار الرياض، وحسبه في مقامات التحقق بالعلوم والمعارف أنه كما وصفه من ترجمه: « أنه الإمام في الحديث وعلومه، العالم بالتفسير وجميع علومه، وكان أصوليا متكلما، فقيها حافظا للمسائل، عاقدا للشروط بصيرا بالأحكام، نحويا، ريان من الأدب، شاعرا مجيدا، كاتبا بليغا، خطيبا، حافظا للغة والأخبار والتواريخ ، حسن المجلس، نبيل النادرة، حلو الدعابة، صبورا حليما، جميل العشرة، جوادا سمحا، كثير الصدقة، صليبا في الحق، وبلغ في التفنن في العلوم، ما هو مشهور وفي العالم معلوم»،  وحسبه أنه في مشتهر التأليف وذيوع التصنيف أنه: الذي أقام القواعد، ورتب المدارك، وشارف الإكمال، وحقق البغية  بالغنية، واستقام له من الشفا ما أنهل وأصفى، ونظم البرهان على أتم وزان، وآوى إلى التواضع الجم فأسمى، فكانت نظراته الفذة ونوابغه الفردى إلماعا وتنبيهات.. وإنما مساق الحديث ههنا إلى خصوص إسهام الرجل في الأداء القرائي وما إليه؛ ولئن لم يخرج القاضي تأليفا في مضمون هذا الانتحاء على سبيل التفريد، ولم يؤمه بمستبد التصنيف، فإن أنحاء حديثه في مصنفاته المتنوعة يخبر عن جلائل أنظار وسوامق فهوم لا يسعف بها إلا من استقرى  مسالك القول في الفن، و تدامثت له وجوه مداركه، وانفتحت له مغاليق مباحثه، مما لا يتحقق في مجرى العادة ومعتاد العرف  إلا بعد معاناة كثير المباحثة، و إدمان الدرس والمطالعة.

وإنما وقوفنا هنا عند ذرو من مناحي القول  عرض فيه الإمام لشجون من الدرس القرائي وتفاريق موضوعاته في سياقات ومناسبات، نجتزئ منها ما هو أقرب منالا وأوفر خلاقا في الدلالة على مقام الرجل في هذا العلم وبلائه في مقاماته.

على أن  سيرة الرجل في مرحلة الطلب تعطي شبيع اليقين بأنه كان على التحقق من علوم الأداء؛ فقد كان كما وصفه نجله: « من حفاظ كتاب الله تعالى، والقيام عليه، لا يترك التلاوة له على كل حاله، مع القراءة الحسنة المستعذبة، والصوت الجهير، والحظ الوافر من تفسيره، والقيام على معانيه وإعرابه، وشواهده وأحكامه وجميع علومه»([1])، كما لقن القراءات السبعية عن طائفة من مشيخته، وأخذها تلقيا أدائيا مسندا من أفواه الضابطين من حملته([2]).. ثم إن تصاريف مادة كتبه تنطق بأنه كان من علوم الأداء على وثيق الوصل ووكيد الاطلاع، ولعل من نواطق الشواهد بذلك أنه يصرح بعدم وجود الكلمة على نحو من الأنحاء في قراءة من القراءات، وكفى بمثل هذا التصـرف دليلا على ضفاء الخبرة ووفاء الدرية؛ قال في كلمة المشعر الحرام هو: « بفتح الميم وتقوله العرب بكسرها، وهو أكثر، لكنه لم يقرأ بها في القرءان»([3]). وله تحقيقات نفيسة في رد مجاري شواذ المقارئ إلى سيرتها الأولى: تصحيحا لمخارج روايتها، وتوجيها لأوضاعها، كما صنع مثلا بقراءة ابن مسعود: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله؛ حيث جاءت في بعض مثبتات المدون الروائي: من خفض حوله، وبعد أن خب في الميدان عنقا فسيحا، أثبت تكلف من ذهب إلى توجيهها، وأنها متبعدة بذلك عن مساق فصيح الكلام،  ثم أدلى بما يراه وجيها قريبا، وموافقا لبعض طرق المروي، وهو أنه إنما أراد أن القراءة من بالكسر حرف خفض فبينه بقوله خفض، ولم يأل جهدا في توجيهها إعرابا([4]).

كما كانت ثقافته الأدائية حاضرة في مناسبات الشـروح الحديثية؛ قال رحمه الله في حديث ابن مسعود الشهير: «وجاء في الصحيح في غير كتاب مسلم: أنه قال له لما بلغها ( فكيف إذا ..) حسبك، احتج به أهل التجويد والقراءة على جواز الوقف على الكافي  من الآي والمقاطع والفصول؛ لأن الكلام هناك غير مستقل بنفسه، وتمامه في الآية التي بعدها»([5]).

لقد كان للقاضي عياض وقفات ونظرات في معاقد قرائية تعنى بالتحمل القرءاني  ومركزيته في التلقي، والوعي العلمي بمراتبه ودرجات اعتباره، كما كان له حفل بسير القرأة  حملة هذا العلم ونقلته، وأصاب من ذلك في مداركه الحظ المعتبر([6])، وكان الإمام أبو عمرو الداني في طبقاته رائده في ذلك  ودليله إليه. ولم يكن أبو الفضل في غطاء عن تقدير مكانة الرسم في متعاور الأداء، وأثره في مأخوذ القراءة: تقبلا ورفضا، كما ثافن الرجل في ممارساته العلمية ما يحمل الإنباء عن  لطيف فقهه في النظر إلى الشاذ القرائي، وميزه لمراتبه، بين مقام التعبد والتلاوة، ومرويات التحديث ومدارك الاستنباط. ولم يكن فقه اللسان العربي غائبا في متعلقات الدرس القرائي لديه، خاصة في مطلب توجيه المقارئ والتعليل لأوضاعها الأصولية والفرشية. كما لاح في غضون ذلك شفوف نظر  – وإن على سبيل العرض- في أصول المصطلح القرائي  ودلالاته…وبين هذه وتلك  ضرائب من التهمم بهذا اللون الأدائي ومصاحباته ليست تخلو من لمسات عياضية في بديع التأويل وجميل الانتزاع، وطريف التعليق.. على أن هذه المذكورات – ابتداء وانتهاء وما بينهما – لا يدعى لها سبيل التحقق على وفاء الكفاية والغناء في مؤلفات أبي الفضل، أو أنها مصنوعة على عين متقصد العناية ومأم خصوص المعالجة، وإنما الشأن أن قليلها عند عالم في مثل هذا الطراز  وعلى قد هذا الوزان لا يقال له قليل، وما يلفى منه منتزعا من لحون خطابه، وعوارض تصـرفاته، ولازم مدوناته، له من النهوض والاعتبار ما كأنه نص في بابته، ومقطوع في دلالته، ومتبسط مغن في وجازته.

ولعل أحق ما يبدأ منه في ذلك، هو حديث الإمام عن موضوع الأحرف السبعة، أصل التعدد القرائي ومنبع مشروعيته،  وهو الموضوع الذي لا تخفى شهرته وخفاؤه في تاريخ النقل القرائي، وما ظنك بخلاف تطاولت ذيول تفاريع القول فيه إلى أربعين قولا..وليس غرضنا نحن في هذا السياق إلا أن نخلص إلى القول بأن القاضي عياضا قد نقل عنه في غمرة هذه الأقاويل مذهب طريف، تمالأ العلماء والبحاث في مستقدمي الزمن ومستأخريه على نسبته إليه،  وهو أن عدد السبعة في رواياته غير مراد به حقيقته، بل هو كناية عن التعدد و التوسع، والمراد منه  التسهيل والتيسير؛ استصحابا لتصـرف عربي معهود يطلق فيه لفظ السبعة على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد به العدد المعين، قال صاحب الفتح: «وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. وذكر القرطبي عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولا، ولم يذكر القرطبي منها سوى خمسة. وقال المنذري: أكثرها غير مختار، ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من صحيحه… »([7]). فإن يكن ابن حجر قد اطلع على كلام عياض في أحد تصانيفه، كما يدل عليه قصره نفي الاطلاع على كلام ابن حبان في صحيحه، فإنه لم يذكر مصدره على التعيين في ذلك، وتبعا لهذا العزو فقد حمي  من بعده  اللهج بهذا القول وتتابع على هذا الوجه من الانتساب، ما بين مؤيد موالف، ومعترض مخالف، على أن الفريق المؤيد كان أضعف ناصرا و أقل عددا ، وإن كانت حجته في ميزان الاستدلال لا تعدم وجاهة من جهة رعي مقصد تنزل هذه الأحرف السبعة، وأنها – كما نطقت به الروايات – جاءت توسعة في لفظ القراءة لأمة يتعاسر في ألسنة أهلها  أن تجري على نمط واحد من هيئات الأداء وطرائق النطق، بعدما علم من مستيقن الشرعة أن الحرج مرفوع على الأمة، وأن التكليف مناطه إمكان الوسع وتحقق  منة الاقتدار.

أما الذين تجهموا لهذا القول، فإنهم لم يستطيعوا دفع إشراقة دريته ووجاهة فقاهته، إلا بالاستعاذة بأسيقة نصوص الرواية التي تنطق بأن العدة مقصودة، وأن حقيقة العدد مرادة على سبيل الحقيقة  والحصر، لا التوسعة والمبالغة. وبلغ ببعض الدارسين أن شنع على هذا الرأي، معتبرا أنه غلو في هجران النصوص البالغة درجة التواتر، ومستبعدا  عدم مقصودية العدد مع توارد كل الروايات على التنصيص عليه، بضميمة لحظ حساسية الموضوع في علاقته بالوحي وطريقة نزوله، والشأن في مثله أن لا يصار به إلى التجوز وافتراض الإبهام. وقال نصا: «ومن الغريب أن ينسب مثل هذا الرأي إلى القاضي عياض، وهو الذي لا يفضل على الرواية الصحيحة شيئا، ولكن السيوطي رد على هذا القول ردا قويا مؤيدا بالنصوص»([8]).

أقول: إنما أوردت ما سبق تدليلا على مقام الرجل وإمامته في رعي قوله حين يقول، واعتباره مذهبا من القول برأسه يصعب تجاوزه أو تجاهله، والقول هنا في أصل مشروعية تعدد حرف التنزيل، والأصل في مثله لزوم غرز التعبد والتبعد عن التأويل. على أن  من مستحمد الانضباط بقانون الكتب وهديه المنهجي أن تواترت عبارة الكتبة – إلا ما استثني- بلفظ النسبة، وهي تؤذن في عرفهم بعدم صحة القول لمن نسب إليه من كل وجه. وقد حاولت بجهد لا يدعى له سبوغ الاستقراء أن أقص مظان هذا القول في تصانيف الرجل، فما وجدت إلا عبارته الصريحة البينة في إكمال المعلم، وزاد من توثق أنها معتمد النقلة، وأن إليها المنتهى في تحريره في هذا الموضوع أنه قال في مشارقه وقد ساقه الحديث إليه في شرح مادة ( ح ر ف ): «وقد فسـرناه ( الحرف) في شرح مسلم وبسطناه»([9]). وأما عبارته في الإكمال فهي قوله: «اختلف في معنى قوله: سبعة أحرف، فقيل: هو حصر للعدد، وهو قول الأكثر، وقيل: توسعة وتسهيل لم يقصد به الحصر»([10]) وهي عبارة لا تفيد ما نسب إليه منها ولو على ضرب تكلف؛ فقد صدر بالقول الجمهوري، وثنى بهذا الذي نسب إليه، محكيا على سبيل التجهيل والتقليل .. فمن أين فهم هذا الجنوح؟([11])! ثم إنه ساق في مشارقه موجزا الحديث عن مشاهير محامل معنى الحرف، فكان سبع لغات مفرقة في القرءان، وسبعة أحكام، وسبع قراءات، ولم تجر عبارته بهذا الذي نسب إليه، إلا أن يحتمل في مطوي قوله بعد: وقيل غير ذلك.

على أن للقاضي عبارة عند قوله: إن الله يأمرك أن تقرأ القرءان على حرف، ثم استزاده إلى أن بلغ سبعا  يقول فيها: «الأمر في قراءته بما زاد على حرف، على طريق التوسعة والرفق لا الوجوب، ومن قرأ بحرف منها أصاب»([12]).  فإن يكن مأخذ ما نسب إليه رجاعا إلى ما يوهمه ظاهر هذه العبارة بادي النظر، فإن حقيقتها على التجافي والتنافي لهذا المراد؛ إذ إن متعلق التوسعة فيها  في مقابل الوجوب بتعين الاستيفاء في تحملها جميعها، وأن الأمة بأي حرف قرأت أجزأها، وشتان بين هذا المعنى وما نحن فيه. والله أعلم.

فظهر من هذا أنه ينبغي التحفظ في حكاية هذا القول عن الرجل، وجعله مذهبا عياضيا، بعد أن افتقد المصدر الذي يعالن بوثاقة نسبته إليه. هذا ولعل  مرد هذه النسبة هو عدم الوقوع على من قال بهذا الرأي أ ول مرة، بعد أن خلت من ذكر ذلك خصوص الكتب التي أفردت لذلك، كمعاني أبي الفضل الرازي، وإبانة مكي، ومرشد أبي شامة. على أني وجدت الإفصاح عن هذا المذهب في مقدمة نظم المباني، وهي مقدمة ظلت منسوبة لمجهول، ونشر أ.د. غانم قدوري الحمد مقالا يرجح فيه أنها لحامد بن أحمد بن جعفر بن بسطام، وأن وفاته كانت بعد 425؛ فإذا صح هذا الافتراض العلمي، فيكون هذا المقول قبل القاضي عياض بملء زمن، وقد نسبه صاحب المباني إلى الإمام الهادي أبي عبد الله محمد بن كرام من أئمة الشيعة..كما تلقفه المستشـرقون لما رأوا فيه ما يحمل الكثير مما يحقق مآربهم في هلاميات التأويل ومتبعد محامله.. ومهما يكن فينبغي في جادة التبحث العلمي ألا ينسب هذا القول للقاضي عياض على أنه مذهبه واختياره، طالما لم يقم الدليل عليه، بل انتهض على خلافه، والله أعلم.

السماع القرائي عند القاضي عياض: وسمه ورسمه

 – الموضوع الآخر الذي أود الوقوف عنده لدى القاضي عياض هو تقديره للتحمل القرائي، وليس يخفى أن الرجل هو صاحب الإلماع  إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، الذي افتن فيه أيما افتنان في عرض أدب الطلب والأخذ ، ووجوه التحمل: صدرا وسطرا على نحو ذاهب في البداعة والبراعة أي مذهب، ولكني أنفذ من ذلك إلى القول بأن هذا الأمر خصه عياض بنقل الكلمة النبوية؛ وذلك لوقوعها عرضة لانتحال المنتحلين، ووضع الوضاعين، وافتراء المفترين. أما القرءان فقد نبا عن هذا الوضع بما ضمن له  منزله من حفظ نصه وصون محرزه، وهذا الذي عبر عنه القاضي نصا بقوله: «.. أصل الشريعة التي تعبدنا بها إنما هي متلقاة من جهة نبينا، صلوات الله عليه وسلامه، إما فيما بلغه من كلام ربه، وهو القرءان الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تكفل الله بحفظه، فقال جل وعز: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَ۬لذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ وبهذا الوجه ارتفع بحمد الله فيه اللبس، واطمأنت لصحة جميعه كل نفس، ونقل بالتواتر كافة عن كافة عنه، ولم يقع بين فرق المسلمين خلاف في حرف منه»([13]).

وكأن القاضي بهذا القيل لا يرى نقل القرءان منوطا بآحاد الأفراد، طالما كان مخرجه على الشيوع والذيوع، والجهارة والصدوع؛ صحيح أنه لم يفرد الأداء القرائي بمعني القول، ولكن المفهوم من كلامه عن القرءان في هذا الباب وغيره، يرشد إلى القول أنه يرى القراءات المتقبلة المعتبرة بعضا من أبعاض القرءان وشجنا أصيلا من ماهيته وحقيقته، فما يجري عليه يجري عليها ما دامت على الاشتمال بوسم القرءانية والاندراج في شرطها، وهذا مفهوم من تعريفه السابغ الواسع الذي يقول فيه:

«وقد أجمع المسلمون أن القرءان المتلو  في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين مما جمعه الدفتان، من أول ﴿اِ۬لْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَ﴾ إلى آخر ﴿قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ اِ۬لنَّاسِ﴾؛ أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد r، وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك، أو بدله بحرف آخر مكانه، أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأجمع على أنه ليس من القرءان عامدا لكل هذا، أنه كافر ».([14])

ومعلوم أن المصحف في عبارته جنس ينطلق في مشموله على جميع المصاحف العثمانية، وهي بتجرد حرفها عن النقط والشكل، وتعدد نسخها حاملة لوفر كثير من أضرب المقروء: زيادة ونقصا، وتنوع أداء.. وليس يخفى أن مرد الأمر وجماعه إنما هو التلقي بشرطه ، وأن المصاحف المكتوبة إنما هي أصول ثوان ترعى هذا الحفظ الواعي والتحمل الفاشي بمزيد الرعي ومشفوع الكلاءة. ومن هنا آل الأمر إلى الحديث  في هذا الباب عن طبيعة التحمل القرائي، وأن له ميزا وفرادة، من جهة الحرف وأدائه؛ فلم يكن من سبيل مما أصله عياض في إلماعه من أضرب الأخذ الثمانية  إلا أعلاها وأغلاها وأغناها وثاقة ومتانة، وهو السماع من لفظ الشيخ، والقراءة عليه، ليس حذوا بحذو، وإنما ذمة عن ذمة على نحو يتحقق به للحرف كفاية البلاغ لكيفية أدائه؛ وقد تقررت سنة المعارضة في حديث سيدنا جبريل مسانهة، وعرض القاضي لحديث أُبي الشهير: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرءان.. وفيه: تعليم كيفية العرض وهيئته على من يقرأ عليه، كما أفاده عياض في شرحه لهذا الحديث([15]).  فهي إذا المشافهة التي تستوفي كافة شرائط الأخذ، والملاسنة التي تعانق أسباب الدقة والسلامة من وعثاء التلقي وموهناته، وخوارم السماع ومشاغباته، مما تقف دون عليائه كثير من صور التحمل، وتقصر دون تحقيق قاصيته والإفضاء إلى غايته؛ فلا المكاتبة مغنية، ولا الوجادة مجدية، ولا المناولة محققة للنيل في تحصيل محصول التلقي أصالة، بل ولا الإجازة العامة مفيدة في مسار الأخذ القرءاني؛ إلا أن يكون ذلك على سبيل التبع والفرعية، محفوفا بقرائن داعية ودوال راعية..

القراءات القرءانية  ومستويات التناول عند عياض

  •  كانت المقارئ فاشية مبثوثة في مؤلفات عياض، وتداعت لمفردات مادتها مطالب أبحاثه في مساقات شتى؛  فهو يلوذ بها كلما حزبه السؤال المعجمي، وسيق إلى استبانة معاني مفردات الألفظ الواردة في كتب السنن.. وهذه أمثلة يراد منها ما وراءها:

«والعرب تقول في الواحد وَتر ووِتر بالفتح والكسر، وقد قرئ بهما جميعا»([16]).

«وقد قرئ : أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم بالكسر»([17]).

وتجد العبارة الحديثية موئلها الفاسر لمؤداها في وجوه القراءة القرءانية كما في قوله مثلا:

«وقوله: فلا تسأل عن حسنهن وطولهن يعني الركعتين، أي أنهن في ذلك على غاية الكمال حتى لا يحتاج إلى السؤال عنهن، وهذا النوع من الكنايات مستعمل في كلام العرب للإبلاغ؛ قال الله تعالى : ﴿وَلَا تَسْـَٔلْ عَنَ اَصْحَٰبِ اِ۬لْجَحِيمِۖ﴾  على قراءة من فتح»([18]).

وتتأيد الرواية الحديثية عند أبي الفضل، وتلفى القراءة القرءانية ذات فضل في حمل حميلتها في تنوع هيآت النطق بآحاد حروفها.

ولهذا المنحى أكثر من مثال: ففي المشارق([19]) عند رواية حديث وهيب في بعض طرق مسلم: كما تنبت الحبة في حميلة السيل حميئة السيل، قال وهما بمعنى: الحمأة، والحمأة: الطين الأسود المتغير، قال الله تعالى: ﴿مِّنْ حَمَإٖ مَّسْنُونٖۖ﴾، و﴿فِے عَيْنٍ حَمِئَةٖ﴾  على قراءة من قرأها بالهمز، وهي بمعنى حميل السيل أو قريب منه.

ومن حضور الدرس القرءاني عند عياض أن كان يستدعي بعض متعلقات القراءة في شرح الحديث؛ فقد أورد ضمن محتملات المراد في النهي عن الاختصار أن يقرأ الرجل في الصلاة من آخر السورة آية و آيتين، ولايتم السورة في فرضه([20]).

سواد المصحف ومقامه من الأداء عند القاضي عياض

ولم يكن السواد بمعزل عن لحظ القاضي عياض وهو الذي يعلم أن الذي صير إليه في المصاحف المكتوبة الأئمة، أصبح عمدة الأمة ومرجع الأئمة في تسوير المقارئ، ورسم حدودها، والاعتراف بمشروعيتها، وأن كل ما ند عن رسمه، وتنكب هجاءه، فحقه أن يوسم بالشذوذ، ولا يتعبد به في المحاريب.. وذلك ما صاغه القراء في ملفوظ صناعتهم بقولهم: الرسم القرءاني ضابط من ضوابط القراءة. قال القاضي في عرض سياق تاريخي أراده لهذا الغرض:

 وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة ابن شنبوذ المقرئ – أحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن مجاهد رضي الله عنهما- لقراءته وإقرائه بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف، وعقدوا عليه بالرجوع عنه، والتوبة منه سجلا، أشهد فيه بذلك على نفسه في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة سنة ثلاث وعشرين وثلاث مائة، وكان فيمن أفتى عليه بذلك أبو بكر الأبهري وغيره»([21]).

ولعل كلمة القاضي الجامعة السالفة في تحديد مفهوم المصحف وتبيين حكم ما خالفه تغني عن كل تعليق في هذا الباب، وإنما نجتزئ  من ذلك قوله: أو زاد حرفا، والزيادة أو النقص ههنا يشملان القراءة و الكتابة. ثم إن ما يسمى في عرف الكتبة في علوم القرءان بالقراءة المدرجة أو التفسيرية أو المنسوخة.. كلها عن القرءانية بمعزل، وليس لها حظ في التعبد بها.

توجيه المقارئ المعتبرة عند القاضي عياض

ما كان للقاضي عياض وهو اللغوي الأديب  أن يفوته ما يلوح من تعاور الحركات وتعاقب الهيآت الأدائية من معان ومغان ولطائف دلالية؛ وماكان يسعه الإغضاء عن ذلك، وهو الخبير بما يكون لذلك من وفر الغنى ورجع الإثراء في فسر الكتاب ودلالات التنزيل. بل كان وقافا عند معارضها، يستجلي دقائق فروقها، ويبين معاقد تنوعها في إيجاز بديع، لا يحول دون وجزه أن يوثق مصدره، ويأثره بصـريح المنمى إلى قائله، في أمانة علمية لا يستراب مثلها في أمثاله .. وهذه مثل من ذلكم:

فقد أورد في الفصل الثالث من الشفا: فيما ورد في خطابه إياه مورد الملاطفة والمبرة([22]) قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكْذِبُونَكَ..﴾: «ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ، من تسليته تعالى له عليه السلام، وإلطافه(به) في القول، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، معترفون بصدقه قولا واعتقادا .. فمن قرأ لا يكذبونك بالتخفيف، فمعناه: لا يجدونك كاذبا، وقال الفراء والكسائي: لا يقولون إنك كاذب، وقيل: لا يحتجون على كذبك، ولا يثبتونه. ومن قرأ بالتشديد فمعناه: لا ينسبونك إلى الكذب. وقيل: لا يعتقدون كذبك».

ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿مَا هُوَ عَلَي اَ۬لْغَيْبِ بِضَنِينٖۖ﴾، أي بمتهم. ومن قرأه بالضاد، فمعناه: وما هو ببخيل بالدعاء به، والتذكير بحكمه وبعلمه، وهذه لمحمد r باتفاق([23]).

وكان للملحظ النحوي فضل اعتبار في مسار القول التوجيهي عند القاضي؛

قال عند شرحه لحديث أم زرع: لا سهل فيرتقى..«ويصح أن يكون سهل مبتدأ، والخبر محذوف مقدر أي لا سهل في هذا مرتقى، ولا سمين من هذا منتقى، ومثله قوله تعالى ﴿لَّا بَيْعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞ﴾ قرئ بالوجهين بالرفع والنصب، وتكون لا هاهنا بمعنى ليس، كما قال:

فأنا ابن قيس لا براح»([24])

أنظار القاضي عياض  في شاذ القراءة

ولشاذ المقارئ لدى عياض حيز اعتناء؛ فقد نظر إليه باعتبارين اثنين:

الأول من حيث  ثبوت الرواية والآخر باعتبار فقه الدراية.

أ –  الشاذ في محراب التلاوة ومباني الرواية

كانت حروف المقارئ الخارجة عن سواد المصحف والمخالفة لسنن التلاوة معتبرة عند عياض من قبيل ما لا يجوز الاتخاذ به، ولا الترخص في اعتبار قرءانيته؛ لمخالفته إجماع الأمة ووقوعه خارج مصحفها؛ وقد بدا هذا الأمر جليا عند القاضي عياض في الفصل الذي  عقده  في مشارقه لما جاء من الوهم في هذه الأصول ( الموطأ والصحيحين)  في حرف من القرءان، واستمرت الرواية عند بعض الرواة على خلاف التلاوة بها، وبعضها استقرت كذلك في الأصول، إما لوهم من المؤلف، أو ممن تقدم من الرواة. وقد أفاد رحمه الله أن للعلماء في التعامل مع ما جاء على هذا القبيل مذهبين: مذهب من لا يستجيز المساس بالأصول، وينكف عن الإصلاح في كل شيء؛ إبقاء للرواية على ما جاءت عليه، واستعظاما لذلك، واستصحابا لتكرر سماعات هذه الأصول على مؤلفيها، فيبعد عدم  التنبه لذلك. ولا يجد القاضي عياض متأولا منقادا لهذا الرأي، خاصة وأن الأمر يتعلق بالخطإ الصـراح في كتاب الله تعالى، ويرى من الاعتساف البعيد اعتبار ما ذهب إليه بعضهم من افتراض أن تلك الأحرف المخالفة للتلاوة قراءات شاذة كانت قراءتهم، مستظهرا في هذا السياق بأمرين:

الأول: أن القراءة الشاذة قد جمعها أصحاب علوم القرءان، وحصلوها وضبطوا طرقها ومواضعها، ولم تكن هذه الأحرف – بحسب القاضي عياض – مما أتى عليه الذكر فيها.

والآخر: أن غاية القراءة الشاذة أن تعلم، ولا تجوز التلاوة بها، والصلاة ولا الحجة بها.

وتأول عياض ما جاء في الأصول على هذا النحو على وجهين: الأول أنه جيء به على على مساق المعنى والتفسير لا على جهة التلاوة، والآخر: أنه خطأ مرده إلى ذهول الرواة.

وغاية مروم القول في ناحية ما نحن بسبيله هو:

  1. تبين إمامة القاضي عياض وسعة اطلاعه على ضروب المقروء المخالف لجاد المتلو في مظانه عند أهله.
  2. درايته الخبيرة وطول نظره في التفرقة بين خطاء اللحن في القراءة، وما له أصل في مروي شاذ القراءة؛ فقد أورد مثلا مما جاء في الأصول: (فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم)، واعتبرها على خلاف التلاوة المعروفة، في إشارة واضحة إلى كونها من مرويات الشاذ([25]).
  3.  استعظامه الوكيد ونفوره الشديد من أن يهاج المصحف أو يحول عما استقر فيه؛ باعتباره إمام الأمة ، وهو ما دعاه إلى إصلاح ما كان على هذا الوجه من الخطإ، وهو المشهور بشدة استمساكه بما ثبت في الأصول، وعد البدار إلى تغيير ما فيها، وشاع في ذلك قوله : الجسارة خسارة.


الشاذ في  مجاري الدراية ومعارج الدلالة عند القاضي عياض

لم يحصر القاضي موضوع التوجيه القرائي في القراءة المعتبرة، بل رأى في شاذ القراءة   ذرائع قربى وبينات وصل بمعاني الآي، استثمر تعاورات أدائها فيما هو بسبيله من البيان والفسر. ولا شك أنه في هذا المنتحى آخذ من يقين الأمر  مقطع التفرقة بين المعتبر من المقروء الذي هو شرط تأدية المحاريب، وبين ما شذذ في الأداء الذي لا يتأدى به فرض القراءة، ولكنه لا يعدم الفسحة في الاستدلال به، والذهاب به مذهب الاستنباط لفحاوي للآي وبطائن معانيها. ومن الأمثلة على ذلك ما أورده في الشفا ([26]) في صدر الباب الأول في ثناء الله عليه وإظهاره عظيم قدره لديه، مبينا في منهج عرضه أنه إنما يعتمد من الآي الكثيرات في هذا المعنى «على ما ظهر معناه، وبان فحواه». وكان آخر براءة أول معروضه في الباب، فبعد أن أورد قراءة الجمهور، أعقبها نقلا عن السمرقندي بقراءة بعضهم «أَنْفَسِكُمْ»، بفتح الفاء، ووجه المعنى على كلتا القراءتين، معتبرا أن قراءة الفتح جاءت على نهاية المدح في الأشرفية والأرفعية والأفضلية.

وفي الباب نفسه([27])  توكيدا على علو المقام النبوي في سياق تفسير قوله تعالى: ﴿وَالذِے جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِۦٓ﴾..أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد r .. وقال بعضهم: وهو الذي صدق به، وقرئ به: صدق، بالتخفيف. وقال غيرهم: الذي صدق به المؤمنون، وقيل: أبو بكر، وقيل علي، وقيل غير هذا من الأقوال. فانظر كيف شد من أزر كون الموصول واصلا إلى النبي r بقراءة التخفيف.

تفسير الآي على بعض الأوجه المقروء بها شذوذا

والملاحظ أنه لا ينطق بلفظ الشذوذ، وإنما يجهل القارئ، وتلك سيرته حتى مع معتبر المقارئ، وهو منه رحمه الله جار على سبيل الاختصار. قال: «وقوله: ﴿حَتَّيٰ يَلِجَ اَ۬لْجَمَلُ فِے سَمِّ اِ۬لْخِيَاطِۖ﴾؛ وهو الجمل نفسه، وقرأه بعضهم: جُمّل: بضم الجين وتشديد الميم أي: حبل السفينة»([28]).

ومما يجري في هذا الأمم ما أورده في الفصل التاسع من الشفا، في ما تضمنته سورة الفتح من كراماته صلى الله عليه وسلم:

« ويعزروه: أي يجلونه، وقيل: ينصرونه، وقيل: يبالغون في تعظيمه.

ويوقروه: أي يعظموه. وقرأ بعضهم: تعززوه بزاءين من العز، والأكثر والأظهر أن هذا في حق محمد r .. ثم قال: وتسبحوه، فهذا راجع إلى الله تعالى»([29]).

وللشاذ عند عياض خصوص احتفاء في تحقيق بالنطق ببعض الألفاظ الشـرعية؛ فكان محل استشهاده استشهاده في صحة جزم الأذان، ومن ذلك أنه استشهد لذلك بقراءة من قرأ:

  ألم الله في حال الوصل بقطع الألف، في سياق الجواب عن حالة جزم الراء في التكبيرة  الأولى من الأذان، وأنه يؤدي إلى قطع الهمزة وهي ألف وصل، و قال: «إنا لا نسلم أن الألف في اسم الله ألف وصل، بل هي ألف قطع، وهو مذهب ابن كيسان وغيره، وإنما وصلت لكثرة الاستعمال، فإن قطعت فعلى الأصل.

 وإن سلمنا أنها ألف وصل على مذهب من قال ذلك، فإن قطعها ههنا على نية الوقف على الساكن قبلها، وإن وصل للفظه به ساكنا، وعلى هذين الوجهين توجه قراءة الأعمش، وابن أبي حماد، والبرجمي عن أبي بكر، وجبلة عن المفضل عن عاصم: ﴿أَلَٓمِّٓۖ اَ۬للَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ بالسكون في حال الوصل وقطع الألف ولهذه القراءة أيضا وجوه أخر،  ليس من غرضنا بسطها»([30]).

النفحة الاصطلاحية الأدائية لدى عياض

ألمّ القاضي عياض الإلمامة الدالة ببعض المصطلحات التي تنتمي إلى الحقل الأدائي، وحرص على الدلالة على أصلها المعجمي قبل ملابستها للاصطلاح الأدائي والعرف الصناعي. وهذا بعض ما يخبر عن ذلك:

الحزب من قوله من نام عن حزبه، ويقرأ حزبه من القرءان: « هو ما يجعله الإنسان على نفسه من صلاة أو قراءة. وأصل الحزب: النوبة في ورود الماء»([31]).

والماهر بالقرءان هو: « الحاذق، وأصله من الحذق بالسباحة»([32]).

وترتيل القرءان هو: «ترك العجلة في تلاوته، وبيان قراءته، وثغر رتل: إذا كان غير مترصص، بل كالمفلج المتباين بعضه من بعضه»([33]).

« صاحب القرءان: هذه لفظة تستعمل لكل من ألف شيئا واختص به، فإن اختص بشخص قيل: فلان صاحب فلان. وأصحابه النبي r؛ لإلفهم إياه، وكذلك إن كان ألف صنعة أو عملا أو علما، ومنه ( صاحب  القرءان)، وكذلك إن اختص بمكان أو موضع كقوله: أصحاب الجنة..وكذلك من اختص بملك شيء كقوله: هو صاحب إبل، وكذلك من اختص بصفة لزمته، كقولهم: فلان صاحب كبر، وصاحب همة»([34]).

ويشف نظره واختياره حين يوجه ظاهر بعض الأقاويل التي قد تفهم على غير وجهها، بناء على التوجيه الدقيق لمؤديات مصطلحاتها، فقد قال في كلمة الحارث الأعور: تعلمت القرءان في ثلاث سنين، والوحي في سنتين، وقوله: القرءان هين، والوحي أشد، أن «مراده الكتابة، وأن القرءان كان يحفظ عندهم تلقينا، فكان أهون من تعلم الكتابة والخط، قال: وبهذا فسره الخطابي والله أعلم».

ويجلو التعريفات جلاء ما كان يستصحبها فيها من تعليل التسمية، والبحث عن محملها؛ كمافي تعريفه للنظائر التي كان يقرأ بها رسول الله r قال: قيل: سميت بذلك لتشابهها بعضها ببعض، ويحتمل أنها سميت نظائر القرءان، كل واحدة منها بالأخرى في قراءتها في ركعة، كما قال في الحديث: يقرأ بها اثنتين في كل ركعة، وكما قال في الرواية الأخرى: القرائن التي كان يقرأ بها([35]) .

وكما قال في المفصل: وسمي المفصل مفصلا لقصر أعداد سوره من الآي، ففصلت كل سورة على ذلك من صاحبتها([36]) .

خاتمة

لقد ثافن القاضي عياض جملا من مباحث الدرس القرائي أصابت أرضه فأجنت منه مؤملا كثيرا، ونتاجا وفيرا، ويمضي القاضي في مدارسته لكثير من الموضوعات القرءانية ذات الصلة بالأداء والتلاوة، تقدمه في ذلك مكنة الاستيعاب وسيلان المحفوظ، ويكنفه من درك المقاصد وفهم تصاريف الشريعة ما به يأخذ كثير الأقوال الخلافية على بسطة التقبل ورحيب الاحتمال؛ فالقراءة بالألحان كرهها مالك وأكثر العلماء، لأنها خارجة عما وضع له القرءان من الخشية والخشوع والتفهم، وأجازه بعضهم للأحاديث الواردة في ذلك، ولأن ذلك لا يزيده إلا رقة في النفوس، وحسن موقع في القلوب، وإثارة خشية، وإليه ذهب أبو حنيفة وجماعة من السلف، وقاله الشافعي في التحزين.([37]) …

وإنما كان ما كان من مضي القول طلالا تقعد دون وابل عطائه، وأنداء إنما تندى بندى عطره استشرافا لسامق عليائه، وتواصيا بارتقاء جوزائه… والله تعالى المسؤول أن يبلغنا مرتجى المأمول، بفضله ومنّه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فهرس المصادر

  • إكمال الـمعلم، بفوائد مسلم، لأبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي (544ه‍)، تحقيق: د.يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة والنشـر والتوزيع، مصر، ط1/1419ه‍-1998م.
  • الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، لأبي الفضل القاضي عياض بن موسى السبتي (544ه‍)، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار التراث/المكتبة العتيقة -القاهرة/تونس، ط1/1379ه‍-1970م.
  • بغية الرائد: 49
  • ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب مالك، لأبي الفضل القاضي عياض بن موسى السبتي (544ه‍)، تحقيق جملة من الأساتذة، مطبوعات وزراة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب.
  • التعريف بالقاضي عياض، لأبي عبد الله محمد بن عياض (575ه‍)، تقديم وتحقيق: د.محمد بن شريفة، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، مطبعة فضالة، دون طبعة ولا تاريخ.
  • شرح صحيح مسلم، لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (676ه‍)، دار الفكر، دون طبعة ولا تاريخ.
  • الشفا، بتعريف حقوق المصطفى r، لأبي الفضل القاضي عياض بن موسى السبتي (544ه‍)، تحقيق: عبده علي كوشك، مطبوعات جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط1/1434ه‍-2013م.
  • الغنية (فهرست شيوخ القاضي عياض)، لأبي الفضل القاضي عياض بن موسى السبتي (544ه‍)، تحقيق: ماهر زهير جرار، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1/1402ه‍-1982م.
  •  فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852ه‍)، عناية محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، دون طبعة ولا تاريخ.
  • مباحث في علوم القرآن، تأليف: د.صبحي الصالح، دار العلم للملايين، لبنان، ط4/2000م.
  • مشارق الأنوار، على صحاح الآثار، لأبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي (544ه‍)، الـمكتبة العتيقة ودار التراث بتونس، دون طبعة ولا تاريخ.
  • نظم البرهان، على صحة جزم الأذان، لأبي الفضل القاضي عياض بن موسى السبتي (544ه‍)، حققه على نسخته الفريدة، وعلق عليه وقدم له: د.محمد صالح بن عمر المتنوسي، دار الحديث الكتانية، لبنان، ط1/1440ه‍-2018م.

([1]) التعريف بالقاضي عياض: 4

([2])  ينظر مثلا في مشيخنه القرائية  الغنية: 511 و 515 و  530

([3])  المشارق: 1/393

([4]) المشارق: 1 / 246

([5])  الإكمال: 3 / 169

([6])  ينظر مثلا ترجمته للقاضي إسماعي الفقيه المالكي المقرئ في ترتيب المدارك:2/266

([7]) فتح الباري: 9/ 23

([8]) مباحث في علوم القرءان لصبحي الصالح: 104

([9])  مشارق الأنوار: 1/ 188

([10]) الإكمال: 3/187

([11])  قال النووي: «قال القاضي عياض قيل هو توسعة وتسهيل لم يقصد به الحصر، قال: وقال الأكثرون: هو حصر للعدد في سبعة» وهو كما ترى نقل أكثر وفاقا لكلام عياض، وأدق قيلا من عبارة ابن حجر رحمه الله.

([12]) الإكمال: 3/ 195

([13])  الإلماع: 32

([14]) الشفا: 873 – 874

([15])  الإكمال: 3 / 168

([16])  المشارق 2/278

([17])  المشارق: 2/280

([18]) المشارق: 2/202

([19])  1 / 199

([20])  المشارق: 1 / 242

([21]) الشفا: 875 – 876

([22])  71 – 72

([23])  الشفا: 81

([24])  بغية الرائد: 49

([25]) المشارق: 2 / 332

([26])  الشفا: 55 – 56

([27])  ص: 64 – 65

([28])  المشارق: 1/152

([29])    الشفا: 91 -92

([30])  نظم البرهان: 71 – 72

([31]) المشارق: 1/190 -191

([32])  المشارق: 1 / 389  والإكمال: 3 /166

([33])  المشارق:1 / 281

([34])  الإكمال: 3 / 156

([35])  المشارق: 2 / 12

([36])  الإكمال: 3 / 198

([37])  : الإكمال: 3 / 160

د.توفيق العبقري

  • مشرف على البحث العلمي بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق