مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

شواهد ابن عقيل الحلقة الرابعة

الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه ومن والاه.

  • شواهد المعرب والمبني:

الشاهد السابع:

دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فَإِنَّ سِنِينَهُ /// لَعِبْنَ بِنَا شِيبًا وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَا

أورده ابن عقيل في شواهد الملحق بجمع المذكر السالم، مما يُرفع بالواو ويُنصب ويُجر بالياء، قال ابن مالك في ألفيته:

وَشِبْهِ ذَيْنِ، وَبِهِ عِشْرُونَا /// وَبَابُهُ أُلْحِقَ وَالْأَهْلُونَا

أُولُو، وَعَالَمُونَ عِلِّيُّونَا /// وَأَرَضُونَ شَذَّ وَالسِّنُونَا

وَبَابُهُ، وَمِثْلَ حِينٍ قَدْ يَرِدْ /// ذَا الْبَابُ، وَهْوَ عِنْدَ قَوْمٍ يَطَّرِدْ

وأشار في البيت الأخير إلى أن «سنين» وما في بابه قد يرد على نحو «حين»، فيُعرب بالحركات على النون في آخره، قال: وهو عند قوم يطرد، وردّه ابن عقيل فقال: واختُلف في اطّراد هذا، والصحيح أنه لا يطّرد، وأنه مقصور على السماع. ثم ذكر منه قوله صلى الله عليه وسلم كما في إحدى الروايتين: «اللهم اجعلها عليهم سِنِينًا كَسِنِينِ يوسف»(1).

وفيه وفي بيت الشاهد إجراء السنين مُجرى الحين في الإعراب بالحركات وإلزام النون مع الإضافة.

وأضاف أن هذه لغة بني عامر، يعربون المعتل اللامِ بالحركات في النون كما في غِسلين(2).

وقد اعتلّ له السيرافي في شرح الكتاب بأنه إنما فُعل بها ذلك؛ لأن النون قامت مقام ذلك الذاهب، وجعلوها كلامِ الفعل(3).

فإذا جُعلت هذه النون حرف إعراب، صارت ثابتة في الكلمة وامتنع حذفها في الإضافة، وجُعل قبلها حرف الياء دون الواو؛ وإنما قلنا الياء دون الواو؛ لأن الواو مُنْبِئَةٌ بإعراب آخر، وهو الإعراب بالحروف أيضا، فامتنع إثبات الواو لئلا يجتمع في الكلمة إعرابان: حرفُ وحركة(4).

أما بيت الشاهد فلم يذكر ابن عقيل قائله، وهو للصِّمَّة بن عبد الله القشيري كما في ديوانه(5)، وأورده العيني في شواهده بنفس الرواية ووجه الاستشهاد به، على أنه لو لم يجعل الإعراب بالحركة على نون الجمع لحُذفت النون وقال: فإن سِنيه.

والصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة، أورد له أبو تمام مقطوعتان من مشهور شعره(6)، وذكره صاحب المؤتلف والمختلف فيمن اسمه الصمة، ولم يعين سنة وفاته(7). وذكره البكري في سمط اللآلي، قال: « هو ‌الصمّة ‌بن ‌عبد ‌الله بن الطفيل بن قرّة، من بني قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، شاعر إسلاميّ بدويّ مقل من شعراء الدولة الأمويّة»(8).

الشاهد الثامن:

عَرَفْنَا جَعْفَرًا وَبَنِي أَبِيهِ /// وَأَنْكَرْنَا زَعَانِفَ آخَرِينِ

ذكره ابن عقيل في مبحث إعراب نون الجمع وما ألحق به، وذلك عند قول ابن مالك في الألفية:

وَنُونَ مَجْمُوعٍ وَمَا بِه الْتَحَقْ /// فَافْتَحْ، وَقَلَّ مَنْ بِكَسْرِهِ نَطَقْ

وَنُونُ مَا ثُنِّيَ وَالْمُلْحَقِ بِهْ /// بِعَكْسِ ذَاكَ اسْتَعْمَلُوهُ فَانْتَبِهْ

القياس في نون الجمع وما أُلحق به أن تكون مفتوحة أبدا، وفي نون المثنى وما أُلحق به أن تكون مكسورة أبدا. فأما الجمع وما أُلحق به فقد ورد فيه كسر نونه على الشذوذ، ولا يقاس عليه، وعليه بيت الشاهد، والبيت الذي يليه، وهو الشاهد العاشر، وسيأتي قريبا إن شاء الله.

والشاهد لم يذكر ابن عقيل صاحبه، وهو لجرير بن عطية الخطفي، قاله في فضالة العرني، وقبله كما في الديوان(9):

قُبَيِّلَةٌ أَنَاخَ اللُّؤْمُ فِيهِمْ /// فَلَيْسَ اللُّؤْمُ تَارِكَهُمْ لِحِينِ

وتصغيره للقبيلة لأجر التحقير؛ لأن المقام مقامُ ذم. أراد أن اللؤم مقيم فيهم لا يبرحهم، فكأنه عُرف بهم وعُرفوا به.

والقصيدة كما ترى مكسورة الروي، لذلك قال في بيت الشاهد: آخَرِينِ.

وجرير تقدمت ترجمته في الشاهد الأول، وهو جرير بن عطية، من تميم، أحد الثلاثة المقدمين في عصر بني أمية على من سواهم، وهو جرير والفرزدق والأخطل(10).

الشاهد التاسع:

أَكُلَّ الدَّهْرِ حِلٌّ وَارْتِحَالٌ /// أَمَا يُبْقِي عَلَيَّ وَلَا يَقِينِي؟

وَمَاذَا تَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي /// وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الْأَرْبَعِينِ؟

ذكره ابن عقيل أيضا في مبحث إعراب نون الجمع وماأُلحق به كما فعل مع الشاهد الذي مضى، وحكمه في الاستشهاد به كحكمه أيضا، فهو مما ورد شاذا في الباب، فلا يُقاس عليه، وقال ابن عقيل: وليس كسرها لغةً، خلافا لمن زعم ذلك.

ولم يُعين ابن عقيل قائله، وفي حاشية الشيخ محيي الدين عبد الحميد على شرح ابن عقيل نسبته لسحيم بن وثيل الرياحي، وبيت الشاهد، وهو الثاني، من قصيدته التي هي أول الأصمعيات، ومطلعها البيت المشهور:

أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُِ الثَّنَايَا /// مَتَى أَضَعِ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي(11)

وقبل بيت الشاهد:

عَذَرْتُ الْبُزْلَ إِنْ هِيَ خَاطَرَتْنِي /// فَمَا بَالِي وَبَالُ ابْنَيْ لَبُونِ؟

أما البيت الأول الذي أورده ابن عقيل: أكل الدهر حل وارتحال…، فلم يرد في الأصمعيات، وإنما هو من مفضلية المثقب العبدي التي أولها:

أَفَاطِمَُ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِينِي /// وَمَنْعُكِ مَا سَأَلْتُ كَأَنْ تَبِينِي(12)

ثم إني قد الوجدت البيتين كما أوردهما ابن عقيل منسوبين لجرير في ديوانه من قصيدته في فضالة العرني التي منها الشاهد الذي مضى(13).

وهذا خلط كبير في نسبة الشعر إلى قائله، وإنما أُتُوا في ذلك من قبل اتفاق القصائد الثلاث في الوزن والرويّ.

  • ما يؤخذ مما تقدم:
  • أن الحديث النبوي الشريف تتناقله النحاة تناقلَهم للشعر من حيث الرواية، فقد يسقطون الاحتجاج به لعلة ورود أكثر من رواية فيه، أو يوردون الرواية التي تصلح للاحتجاج به ويتركون الروايات الأخرى، وقد أفاض البغدادي في مقدمة الخزانة في مسألة الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف.
  • أن الشاهد إذا وردت فيه روايتان لا تسقط الاحتجاج به، فلا بأس من إيراده على أيهما اتفقَ الأمر، وهو كما في الشاهد السابع، روي: دعاني، ودعوني. وفي الشاهد الثامن روي: وبني أبيه، وبني عُبيْد. والشاهد التاسع روي: وماذا تبتغي، وماذا يدّري، كما في الأصمعيات.
  • أن ما أتى شاذا من الشواهد لا يُقاس عليه في إثبات القاعدة، ففي الشاهد الثامن والتاسع عدوهما مما ورد شاذا في بابه، أما الشاهد السابع فليس كذلك؛ لأن له نظائر تؤكد صحة القياس عليه، كما ورد الحديث على هذه الرواية، وكما فُعل بـحِين وغسلين وغيرهما.
  • ويؤخذ من الشاهد التاسع أن البيت إذا نُسب إلى أكثر من شاعر ممن يُحتج بكلامه، فلا بأس في الاستشهاد به، لأنه لا يخرج به عن قواعد الاحتجاج من اشتراط كون القائل ممن يُحتج به، وذلك من الجاهلية إلى ما قبل النصف من القرن الثاني الهجري كما هو مقرر عنده في ذلك.

والله أعلم، والحمد لله رب العلمين، وصلى الله على نبيه وعلى صحبه والتابعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- الحديث في مسند أحمد عن أبي هريرة: 16/439، وهو برواية: سِنِينَ كَسِنِينِ يوسف. وتقدم قول ابن عقيل في الشرح: وإن شئت حذفت التنوين، وهو أقل من إثباته. أي: في ذلك لغتان: حذف التنوين، وهو أقل، وإثبات التنوين، وهو الأكثر.

المقاصد النحوية للعيني، 219، الشاهد (2) 28.

شرح كتاب سيبويه: (3) 4/331.

(4) انظر كتاب الشعر لأبي علي الفارسي: 158، ففيه مزيد تفصيل.

(5) ديوان الصمة بن عبد الله: 78، برواية: دعوني.

شرح الحماسة للمرزوقي: 1215 و(6) 1240.

المؤتلف والمختلف للآمدي: (7) 186.

سمط اللآلي لأبي عبيد البكري: (8) 1/461.

(9) ديوان جرير: 577، برواية: وبني عُبَيْدٍ.

(10) وانظر ترجمته في الأغاني أولَ الجزء الثامن من طبعة صادر، والمقاصد النحوية لبدر الدين العيني: 1/162 عند الشاهد السادس، وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف فيمن اسمه جرير: 88.

(11) الأصمعيات: 19، وانظر ترجمة سحيم بن وثيل الرياحي في الحاشية.

(12) المفضليات: 292، وانظر كذلك ترجمة المثقب العبدي في الحاشية.

ديوان جرير: (13) 577.

**********

المصادر والمراجع:

– الأصمعيات، للأصمعي، تحقيق عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر، دار المعارف.

– الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق إحسان عباس وغيره، دار صادر.

– ديوان جرير، تحقيق محمد إسماعيل عبد الله الصاوي، مطبعة الصاوي.

– سمط اللآلي في شرح أمالي القالي، لأبي عبيد البكري، تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي، دار الكتب العلمية.

– شرح حماسة أبي تمام، لأبي علي المرزوقي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.

– شرح كتاب سيبويه، لأبي سعيد السيرافي، حقيق أحمد حسن مهدلي وعلي سيد علي، دار الكتب العلمية.

– الصمة بن عبد الله القشيري، حياته وشعره، تحقيق خالد عبد الرؤوف الجبر، دار المناهج.

– كتاب الشعر، لأبي علي الفارسي، تحقيق محمود محمد الطناحي، مكتبة الخانجي.

– المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وكناهم وألقابهم وأنسابهم وبعض شعرهم، للآمديـ تحقيق كرنكو، دار الجيل.

– مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة.

– المفضليات، للمفضل الضبي، تحقيق عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر، دار المعارف.

– المقاصد النحوية، لبدر الدين العيني، تحقيق علي محمد فاخر وغيره، دار السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق