من أحداث السيرة في شعبان: تحويل القبلة أنموذجا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛ فإن الله سبحانه وتعالى أودع في بعض الشهور والأيام من جميل الفضائل، وعظيم الأعمال ما يستحق الذكر، وخص بعضها بوقوع بعض الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ؛ ومن ذلك ما وقع في السنة الثانية للهجرة النبوية من تحويل القبلة في ليلة النصف من شعبان[1] ، من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة واستدبر الكعبة[2].
قال ابن كثير: وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصرف قبلته نحو الكعبة قبلة إبراهيم، وكان يكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عز وجل[3].
حيث كانت لديه رغبة شديدة في تحويل القبلة، شغلت عليه عقله صلى الله عليه ووجدانه وتفكيره، وأصبح لأجلها يقلب بصره في السماء، فاستجاب له ربه تبارك وتعالى، وحقق مراده، فأنزل الله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) [4].
ولهذا لما كان لهذه الحادثة من فضل ومكرمة أحببت أن أورد ما أنزل فيها من الآيات القرآنية، ثم أذكر العبر المستفادة من تحويل القبلة.
أولا: الآيات التي أنزلت في هذه الحادثة
أنزل الله تبارك وتعالى في شأن حادثة تحويل القبلة تسع آيات مباركات من سورة البقرة من الآية 142 إلى الآية 150 وهي قوله تعالى:
(سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143) قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير (148) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) [5]
ثانيا: العبر المستفادة من تحويل القبلة:
لاشك أن أحداث السيرة النبوية تحمل من المعاني، والفوائد، والعبر الشيء الكثير، ومن العبر المستفادة من حادثة تحويل القبلة الآتي:
1- أن في تحويل القبلة اختبار للمؤمنين من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، لتتميز بذلك القلوب وتمحص النفوس، ولهذا قال سبحانه وتعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم) [6].
2- أن في تحويل القبلة تأكيد على سنة الحرص على مخالفة اليهود والنصارى في كل شيء والتميز عنهم، حيث أصبح للمسلمين قبلتهم التي ارتضاها الله لهم، قال تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) [7] هذا التحويل للقبلة جعل أهل الكتاب كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين»[8] .
يقول سيد قطب في ظلال القرآن: "أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة يتوجهون إليها، إذ كان ذلك لا شك لحكمة تربوية ذكرتها الآية الكريمة وهي في قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) [9] فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي، ولما كان الإسلام قد جاء لاستخلاص القلوب لله وحده، وتجريدها عن كل تعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير منهج الإسلام المرتبط بالله تعالى مباشرة، المجرد من ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية، فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم المسجد الأقصى ليخلص نفوسهم من كل تلك الرواسب الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويطيعه في كل أمره طاعة مجردة من كل شيء، الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبية اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ، أو تتلبس في خفايا المشاعر وحنايا الضمير حتى إذا استسلم أهل الإيمان لهذا الأمر من الله ورسوله جاءهم الأمر باستقبال الكعبة المشرفة، كذلك إظهارا للاستسلام لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه في أمره باستقبال الكعبة المشرفة ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى هي حقيقة الإسلام، حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وليكون تراث الأمة المسلمة التى نشأت تلبية لدعوة إبراهيم لربه بأن يبعث فيهم رسولا بالإسلام الذى كان عليه إبراهيم وبنوه وأحفاده[10].
3 – أن في تحويل قبلة المسلمين نحو المسجد الحرام دليل على وسطية الأمة الإسلامية، قال ابن كثير: " إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسبا ودارا، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) [11]" [12]
4- أن في تحويل القبلة ترسيخ تلك العلاقة القلبية القوية التي تربط المسلمين وهذا البيت الذي تشرف سيدنا إبراهيم ببنائه هو وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام، هذا البيت الذي عظمه العرب في جاهليتهم، وبعد دخولهم في الإسلام زاد تعظيمهم له، فكان تحويل القبلة نحو البيت الحرام بمثابة الرجوع إلى الأصل الأول للقبلة التي قال عنها تبارك وتعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) [13] .
5- أن في تحويلها للبيت الحرام وسرعة امتثال الصحابة رضي الله عنهم لأمر نبيهم بالطاعة والانقياد والاستسلام ، دليل ورسالة لكل مؤمن أن لا يتأخر عن أوامر الشرع الحنيف تطبيقا وعملا ودون تلكؤ أو تراخ، فعندما جاء الأمر النبوي كما في صحيح البخاري عن البراء رضي الله عنه: أنه «صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم» فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت"[14].
6- أن في تحويلها مكرمة عظمى للنبي صلى الله عليه وسلم، وإبراز مكانته عند مولاه الكريم؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم ظل قلبه معلقا بمكة منذ هجرته إلى المدينة المنورة، فاستجاب له ربه تعالى لدعائه في قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [15]
الخلاصة:
ومما يستخلص من نتائج هذا المقال أن حدث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام كان حدثا مشهودا من أحداث التاريخ الإسلامي، والذي كان نقطة تحول فاصلة بين المسلمين واليهود والنصارى أهل الكتاب، هذا التحول فيه ما فيه من تمحيص لقلوب المؤمنين، ومخالفة لأهل الكتاب، واستجابة لدعوة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وإبراز لمكانته الكبرى عند مولاه سبحانه وتعالى.
والحمد لله رب العالمين
***************
هوامش المقال:
[1] قال ابن كثير في البداية والنهاية (3 /252) :(قال الجمهور الأعظم: إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة)، وذكرت أقوال أخرى أن هذا التحويل كان في رجب، وقيل في جمادى الآخرة.
[2] قال ابن سيد الناس في عيون الأثر (1 /363): "ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا ". وانظر جوامع السيرة لابن حزم (ص: 63).
[3] البداية والنهاية (3 /253) .
[4] البقرة: 144.
[5] البقرة من الآية 142 إلى الآية 150
[6] البقرة : 143.
[7] البقرة: 144.
[8] أخرجه أحمد في مسنده (25029) قال شعيب الأرنؤوط :"حديث صحيح".
[9] البقرة: 143
[10] في ظلال القرآن (1/ 126 - 127).
[11] الحج: 78.
[13] آل عمران: 96.
[14] أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان ، باب: الصلاة من الإيمان (1 /29-30)(رقم الحديث: 40).
[15] البقرة: 144.
********************
لائحة المصادر والمراجع:
- البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، مكتبة المعارف، بيروت، 1412هـ/1991م.
- تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ، ت: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، 1420هـ/1999م.
- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، باعتناء: محب الدين الخطيب، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وقصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، ط1، 1400هـ.
- جوامع السيرة: لأبي علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، المحقق: عبد الكريم سامي الجندي، الناشر: دار الكتب العلمية، ط1، 1424هـ.
- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير: محمد بن عبد الله بن يحي ابن سيد الناس ، ت: د. محمد العيد الخطراوي، محيي الدين مستو، مكتبة دار التراث، المدينة، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، بدون تاريخ.
- في ظلال القرآن: سيد قطب، دار الشروق، ط34، 1425هـ/2004م.
- مسند أحمد بن حنبل: لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي، ت: شعيب الأرنؤوط، وعادل مرشد، وآخرون ، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ/2001م.
راجع المقال الباحث عبد الفتاح مغفور