وحدة الإحياءدراسات عامة

منهج الرسول، صلى الله عليه وسلم، في لغة التواصل

اللغة هي وسيلة التواصل بين البشر، وهي تمثل أهم الظواهر الاجتماعية؛ لأنها تستغرق أكبر اهتمامات الإنسان وتستغل أغلب وقته، فهي تستغرق أكبر قدر من الزمن الذي يقضيه متكلما أو مستمعا. إلا أن اللغة كوسيلة لفظية لا تمثل سوى أربعين بالمائة من حجم عملية التواصل بالمقارنة مع وسائل التواصل الأخرى غير اللفظية التي تشكل ستين بالمائة.

ويعرف العالم اللغوي أبو الفتح عثمان بن جني اللغة، وهو التعريف التقليدي الذي لا يزال معتمدا في كل المدارس اللغوية واللسانية في العصر الحديث، وهو الذي يعتبرها مجموعة من الأصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم[1]. ومن هذا التعريف لابن جني خلصت الدراسات الحديثة إلى اعتبار اللغة وسيلة للتعبير عن الأفكار والعواطف والأحاسيس والرغبات، وبالتالي فهي وسيلة لتوصيل الأفكار، أي وسيلة للتواصل بين بني البشر. ولا يتم التواصل باللغة المنطوقة أو المكتوبة وحدها، بل يتعدى ذلك إلى الوسائل اللغوية غير المنطوقة وغير المكتوبة، وهو ما يمكن ملاحظته على تعريف ابن جني الذي قصر اللغة على الأصوات الإنسانية، لكننا سنرى من خلال منهج الرسول، صلى الله عليه وسلم، في التواصل الذي أدرك أن التعبير عن الأغراض لا ينحصر في الأصوات بل يتعدى ذلك إلى الإشارات والحركات والنصب والعقد، وما يتفاهم به الصم والبكم، وما يظهر على الإنسان من الانفعالات النفسية التي تظهر في حالات الغضب والحزن والفرح ونحو ذلك، وكذلك الأصوات التي يصدرها الإنسان كالنقر أو الضرب على بعض الآلات ونحوها للتنبيه أو التعليم، ومنه الأجراس واستعمال بعض أدوات التربية المحدثة لأصوات تعليمية…

ويمثل الرسول، صلى الله عليه وسلم، من خلال سيرته العطرة نموذجا رفيعا في التواصل بكل أساليبه التي تحقق الهدف من العملية التواصلية، إن في أقواله البليغة، أو في تصرفاته الحكيمة، أو في أحواله الشريفة التي تعبر عنها حركاته وسكناته الملهمة بالوحي المنزل من الله عز وجل. ومن هذه السيرة النبوية نستبصر بالنماذج العالية من الإحسان والإتقان لفنون التواصل، سواء اللفظي منه أو غير اللفظي المعتمد على الإشارات والإيماءات والإيحاءات، وسائر التصرفات النبوية الرشيدة.

وسأبرز المنهج القويم للرسول، صلى الله عليه وسلم، في تواصله مع غيره، وهو منهج سلك فيه نوعين من التواصل: التواصل اللفظي، والتواصل غير اللفظي، أي التواصل بالعبارة، والتواصل بالإشارة:

أولا: التواصل اللفظي

يكون التواصل لفظيا في المقام الأول؛ لأنه يوظف الكلمة، شفويا أو كتابيا، وتسمى الرسالة التي تعتمد التعبير الشفوي أو الكتابي ملفوظا؛ لأنها تلفظ من اللسان فتقع في السمع من طريق الذبذبات الصوتية، أو تقع في العين من طريق الخط أو المرسوم. وقد استعمل الرسول، صلى الله عليه وسلم، كل هذه التقنيات في تبليغ دعوته وفي تواصله مع الناس من حوله، سواء شفويا أم كتابيا.

1. التواصل الشفوي

من المعلوم أن الخطاب الشفوي يتطلب حضور الطرفين المرسل والمستقبل، وهذا يقتضي بالضرورة الالتزام بمقومات التواصل ليتحقق الهدف منه، وذلك ما نتعلمه من الرسول العظيم سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي أعطى المثال الأكبر والأروع في تحقيق التواصل الناجع شفويا أو كتابيا، بالأساليب المتنوعة.

أ. التواصل بحركات الجسم

عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: “قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم[2] “. ويتبين من هذا الحديث المنهج الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم في التواصل بين رجلين من طريق المصافحة، فدل على أنه لا ينبغي اقتحام المجال الشخصي للآخر عند التحية، وذلك لأن التحية أو إفشاء السلام كما عبر عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم، يلعب دورا كبيرا في خلق الجو الملائم للتواصل الفعال والناجح. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، منها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”[3]. ومنه قوله كذلك: “يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير”[4].

ب. الإصغاء

من علامات التواصل الجيد الإصغاء إلى المتحدث؛ لأن الخطاب الشفوي  يقتضي من الطرفين اللذين يتبادلان أطراف الحديث أن يصغي بعضهما لبعض، وألا يتكلما في آن واحد، وألا يقاطع أحدهما الآخر، بل يحتاج كل واحد إلى الصبر حتى ينتهي الآخر ليستوعب حديثه، وليتحقق التواصل الجيد. ومن أجل ذلك  حث الرسول، صلى الله عليه وسلم، على الإصغاء الجيد، فتجد مجلسه مجلس علم وأدب، فيه مستمعون أفسحت ألسنتهم المجال للآذان ليتحقق الاستماع، ومنه حديث أبي الزناد يوم الجمعة: “إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت”[5]. ومن حرص الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن الإصغاء نهى عن الانشغال بأي شاغل آخر عند الحديث أو التلقي. عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “يحضر يوم الجمعة ثلاثة نفر، فرجل حضرها يلهو، فهو حظه منها، ورجل يدعو فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخطى رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام”[6]. ويتضح من الحديث كيف كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يحرص على أن يكون الجو مناسبا وفى أحسن هيأة، خاليا من كل المعيقات ومظاهر الأذى التي تحول دون تحقيق التواصل الجيد، سواء كانت هذه المظاهر متعلقة بالسلوك؛ كتخطي الرقاب وعدم احترام الناس، أو متعلقة بالهيأة كالمنظر المشين أو الرائحة الكريهة  المنبعثة من أعضاء الجسم أو من الملبس.

ونقتبس من السيرة النبوية نموذجا من تواصل الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع جلسائه يطلعنا على الطريقة المثلى في الإصغاء المحقق للفائدة العميمة، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: سألت أبي عن سيرة النبي في جلسائه فقال: كان إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا, ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون، ويتعجب مما يتعجبون.”[7]

ج. الحوار المتبادل

ومن أساليب الرسول، صلى الله عليه وسلم، في التواصل مع المخاطب أسلوب الحوار الذي يستعمله في المحادثة المنطقية لإقناع محاوره بالحجة والبرهان. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة الباهلي، من قصة الشاب الذي جاء الرسول يستأذنه في الزنا، فقال يا رسول الله إئذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه[8]. فقال، صلى الله عليه وسلم،: أدنه[9]، فدنا منه قريبا فجلس، فقال له الرسول: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: و لا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه. قال: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء[10].

فانظر إلى حكمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الحوار الهادئ الذي وصل به مع محدثه إلى الاقتناع التام، وقبول الموعظة، فاستأصل من نفسه تعلقه بالزنا وتخلص من مرضه، مع أنه لم يذكره بالآيات والأحاديث المحذرة من اقتراب الزنا واقتراف أسبابه، ولا التي توعدت الزناة بالعذاب والعقاب.

د. الرفق واللين

وقد استخدم الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا الأسلوب من الرفق واللين ليستعين به في تعامله مع الأعراب، وهم قوم عرفوا بالغلظة والشدة، بالإضافة إلى الجهل بمقومات التواصل. فتجد الواحد منهم يدخل المسجد، فإذا احتقن من البول انزوى إلى ناحية من المسجد وأخذ يتبول دون حرج من الناس[11]. وآخر يريد مسألة فيجذب النبي، صلى الله عليه وسلم، من ردائه جذبة شديدة حتى يؤثر ذلك في عنقه الشريف أثرا بالغا، وهو يقول بكل صفاقة في مخاطبته للنبي: احمل لي على بعيري هذين  من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك[12]. وأعرابي آخر يدخل المسجد، فلا يستأذن ولا يسلم ولا يجلس، وإنما يقول: أيكم محمد؟ يا محمد، إني سائلك ومشدد عليك في المسألة[13]. وآخر يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا، فيعطيه، ويقول له: أأحسنت إليك؟ فيجيب الأعرابي: لا ولا أجملت. فيغضب الصحابة، فيقومون إليه، فيهدئهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل الأعرابي بيت النبي ليعطيه حتى يرضيه[14]. وفي كل ذلك نجد النبي، صلى الله عليه وسلم، هادئا صابرا محتملا، لا يغضب ولا ينتقم، صدره رحب، ونفسه مطمئنة، يعامل الأعراب معاملة الرفق واللين، ويكسب ودهم.

2. التواصل الكتابي

ويكون التواصل الكتابي عند بعد المسافة بين المرسل والمرسل إليه، وهو ما يفرض أن تكون الرسالة مكتملة، أي متقنة الصياغة واضحة الغرض، وإن كانت موجزة مجملة فذلك أحسن وأليق. وقد اتخذ النبي، صلى الله عليه وسلم، الكتابة وسيلة من وسائل تواصله، وخاصة مع ملوك عصره الذين كان يعرض عليهم الإسلام. وكان له، صلى الله عليه وسلم، أكثر من خمسة عشر كاتبا يكتبون القرآن عندما كان يتنزل عليه، كما كان له كتاب آخرون خصهم بكتابة رسائله إلى الآفاق وإلى الملوك لتبليغهم دعوة الله. فكتب إلى هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي… وغيرهم.

وأسوق في هذا المجال نموذجا من رسائله المركزة والهادفة، وهي رسالته إلى هرقل ملك الروم، وهذا نصها:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، وقل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون”[15].

وأول ملاحظة يمكن ملاحظتها على رسالة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنها مختصرة وواضحة، وفي الوقت نفسه جامعة مانعة، لأنها متكاملة العناصر والأفكار، محققة للمبتغى من التواصل. ويتحدث خبراء التواصل في العصر الحديث على ضرورة الاختصار والوضوح وتكامل عناصر الرسالة الموجهة إلى شخصية من الشخصيات ذات الشأن العظيم، مثل الملوك والرؤساء والمسؤولين الكبار… ويتضح أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان على علم تام بهذه التقنية قبل أن يتوصل إليها خبراء التواصل في العصور المتأخرة.

ويبدو من خلال هذه الرسالة النبوية إلى هرقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم سلك أسلوبا رفيعا من أجل تحقيق التواصل الجيد، وذلك باستعماله للتقنيات المنهجية التالية:

اتخاذ الخاتم الذي كان يختم به رسائله دائما، وهذا الأمر لم يكن متداولا بشكل غالب عند العرب. ومن المعلوم أن الرسائل لا تعتبر ذات شأن إلا إذا كانت مختومة، وقد اتخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خاتما منقوشا عليه: محمد رسول الله.

تعريف النبي، صلى الله عليه وسلم، بنفسه في بداية الرسالة، بقوله: من محمد عبد الله ورسوله.

احترامه لمخاطبه كيفما كان شأنه وسنه وجنسه ودينه، ونجد في الرسالة قوله: عظيم الروم، وفي ذلك من الملاطفة والملاينة ما يفتح المجال للتواصل الجيد.

حضور شخصيته، صلى الله عليه وسلم، بكل قوة، مما يدلل على أنه نبي حقا، مما لا يدع مجالا للشك عند المخاطب في نبوته، وفي صدقه ومكانته.

تجاهل النبي، صلى الله عليه وسلم، لمسألة احتلال الروم لأجزاء من بلاد العرب، وذلك حتى لا يخلط هدفا بآخر، وحتى لا يعطي لهذه المسألة أكثر مما تستحقه من الاهتمام؛ لأن وقت تحريرها آت لا محالة، ولن يفرط فيه، ولن يتركه بأيدي المغتصبين.

محاولة النبي، صلى الله عليه وسلم، إيجاد الأرضية السليمة والمقبولة عند الآخر المخاطب، ليقيم عليه القواسم المشتركة في التواصل، وذلك واضح من خلال استعماله صلى الله عليه وسلم للفظ القرآني (أهل الكتاب) في قوله تعالى: ﴿قل يأهل الكتاب تعالوا اِلى كلمة سواء﴾ (ءال عمران: 63).

ثانيا: التواصل غير الملفوظ

إن عملية التواصل بين أفراد المجتمع لا تعتمد التلفظ بالكلمات فقط، ولكنها تعتمد كذلك على ما تفصح عنه أعضاء الجسم التي ترسل للآخرين الرسائل والإشارات ذات الدلالات والمعاني المختلفة. والتواصل، وبخاصة الشفوي، لا يكتفي بالكلام فحسب، بل يصاحب الكلام حركات الجسم، وخاصة اليد والرأس، كما تصاحبه تعابير الوجه والانفعالات، وما يرافق ذلك من اختلاف الحالات النفسية والنبرات الصوتية… وكل ذلك من التقنيات التواصلية التي تستعمل في التعبير عن الغرض المقصود والهدف المنشود. وقد استعمل الرسول، صلى الله عليه وسلم، ذلك كله في تبليغ دعوته إلى الناس. ونستعرض بعض النماذج من تواصله صلى الله عليه وسلم غير اللفظي، حسب التقنيات التي استعملها كما ورد في سيرته:

1.تعبير الوجه

عن عبد الله بن سلام قال: “أول ما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستبنته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”[16].

إن دواخل الباطن تنضح على الوجه، فتُقرأ في أساريره. فهذا عبد الله بن سلام جاء مع القوم الذين خرجوا إلى لقاء النبي المهاجر من مكة من جراء الاضطهاد والظلم، فنظر إليه يحاول استكشاف حقيقة أمره، فكان أول ما اطمأن إليه من ملامحه بعد التثبت من أحواله، أنه ليس بكذاب. إن الإنسان في ظاهره يتأثر بباطنه، فإذا كان القلب شفافا ظهر أثر ذلك على الوجه، وعلى البدن كله. وقد كان وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرض كل ما يدور في باطنه، لأن صفاء الوجه من طبعه العام، فكان كلما تغير لشيء طارئ، سجل ذلك التغيير على الوجه، فقرأه الصحابة الذين كانوا يلاحظون ذلك جيدا. ففي حديث هند بن أبي هالة الذي يصف فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “… وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام.”[17]

وقد كان، صلى الله عليه وسلم، دائم البشر، بسام المحيا، وكان يوصي أصحابه بذلك. عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: “قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق”[18]. وقال أيضا: “تبسمك في وجه أخيك صدقة”[19]. وتدل هذه الأحاديث على أن الابتسامة هي تواصل لغوي غير ملفوظ وغير مكتوب، وهي من التقنيات التي يستعملها الرسول في تعامله مع الناس، إذ من خلالها تمر الانفعالات والمشاعر، ومن خلالها يتم التعبير عن المودة والمحبة. والابتسامة موضعها الوجه، وهو المحيا، وبالوجه يتم التصوير الحقيقي لباطن الإنسان، فما يدور في خلد المرء وفي باطنه، ترى آثاره على ملامح الوجه، فتقرأ هناك بوضوح وجلاء، ويتفهمها أكثر أهل الفراسة. غير أن صفاء وجه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، كان ظاهرا ظهورا واضحا يعرفه عليه من أوتي حظا من الفراسة ومن لو يؤته. يقول عبد الله بن رواحة في وصفه صلى الله عليه وسلم:

لو لم تكن في آيات مبينة *** لكان منظره ينبيك بالخبر

2.التعبير بحركات اليد

كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يرفق كلامه بإشارات بيديه الشريفتين، فيزداد المعنى وضوحا وتثبيتا. ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا. ثم شبك رسول الله بين أصابعه”[20]. ومن ذلك أيضا ما روي عن سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه، قال: “قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين. وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا”[21].

وقد كان استعمال الرسول لليد في التعبير واضحا في العديد من أقواله وأفعاله، ويجمل ذلك هند بن أبي هالة في حديثه عند وصفه المشهور، حيث يقول: “… إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى.”[22]

ومن تعابيره، صلى الله عليه وسلم، باليد وضعه يده على يد مخاطبه أو على منكبه، ليثير انتباهه بذلك الفعل، وليزداد المخاطب اهتماما بما يعلمه ويلقنه، وذلك لأنه بهذه الوضعية التي حمله عليها الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد تهيأ بكليته وألقى إليه بسمعه وبصره وبقلبه. ومن ذلك ما يرويه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “علمني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكفي بين كفيه، التشهد، كما يعلمني السورة من القرآن…”[23] ومنه أيضا ما رواه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “أخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور”[24].

وقد أثبت المناهج السلوكية والتربوية أن الإشارة باليد تعين المتلقي من خلال تتابع حركات المتحدث وسكناته على التركيز والتتبع، ولذلك فهو يتأثر بالانفعالات التي يحدثها المتحدث، إذاً فهو يتأثر بحركة اليدين والرأس. وهو يستفيد من هذه الحركات والإشارات في أمور عدة:

أحدها؛ الزيادة في بيان الكلام وإيضاحه وتأكيده، ونجد ذلك على سبيل المثال في حديث جابر رضي الله عنه، في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:

ـ أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه، ممن لم يسق الهدي أن يحل من إحرامه بعد طوافه بين الصفا والمروة ويجعلها عمرة، وقال: “لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة”. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى. وقال: “دخلت العمرة في الحج، دخلت العمرة في الحج، لا بل لأبد أبد”[25]. يؤكد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك على أن هذا الحكم مستمر إلى الأبد. ولا يخفي ما في هذه الحركة من معان قوية، تقوي الكلام وتزيده تأكيداً.

ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: “فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه” وأشار بيده يقللها.

وبتأمل هذا الحديث، يتبين أن إشارته، صلى الله عليه وسلم، أفادت معنى جديداً زائداً على كلامه، صلى الله عليه وسلم، وهو أن هذه الساعة أمرها يسير في مقابل نيل أمر عظيم، وهو ثواب الجمعة، وهذا من فضل الله على عباده. والإشارة لتقليلها هو للترغيب فيها والحض عليها ليسر وقتها وغزارة فضلها .

ثانيها؛ جذب الانتباه وترسيخ بعض المعاني في الذهن، ونلمس ذلك من الحديث السابق الذي ساقه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وذلك عندما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في نمرة يوم عرفة، حيث بين لهم في هذه الخطبة أموراً كثيرة وعظيمة، ثم بعد أن بلغهم المراد من الكلام، قال لهم: “وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال: بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم فاشهد. اللهم فاشهد، ثلاث مرات”. ففي رفع الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأصبعه إلى السماء ثم الإشارة به إليهم، جذب أنظار الناس لهذا الأمر الهام والخطير وهو مقام الشهادة على التبليغ.

3.التعبير بأوضاع الجسد

تؤدي أوضاع الجسد أثناء الحديث دورا مهما للغاية في عملية التواصل، وذلك بأن الجسد قد يوحي بالرغبة في التواصل أو بالرغبة عنه. فالجسد المتشنج والمتصلب المنكفئ على نفس صاحبه يدل على الانطواء والانعزال وعدم الرغبة في التواصل مع الآخرين، أما الجسد المنبسط المتمتع بطلاقة الوجه وبالابتسامة العريضة على المحيى، يعبر عن الاستعداد التام للتفاعل والتعامل والتواصل مع الآخرين. ولقد كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، إذا التفت إلى أحد التفت بكل شخصه وأقبل على مخاطبه بكليته، وإذا سلم: سلم بكل يده، وكان  لا يدعها حتى يدع الآخر يده ويتركها، وكان يعطي كل واحد من جلسائه حقه من الالتفات إليه والإقبال عليه، وكان أحيانا يغير جلسته لإثارة انتباه المخاطب، أو للتعبير عن خطورة  ما يتحدث به أو يحذر منه أو يدعو إليه. وفي ذلك يروي البخاري عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: “قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور.. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”[26]. لقد تمنى الصحابة سكوته، صلى الله عليه وسلم، إشفاقا عليه من شدة انزعاجه، وتمنوا كذلك لو أنه ما غضب هذا الغضب الذي غير مزاجه، فأشفقوا عليه، لحرصهم رضوان الله عليهم على عدم إغضابه وإحراجه.

4.التعبير باختلاف نبرات الصوت

كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا تحدث رفع صوته ليصل إلى مستمعيه من أقصاهم إلى أدناهم، وكان يحمل مخاطبيه على التفاعل المتبادل بما يثيره من انفعال أثناء الحديث، كما روى جابر، رضي الله عنه، قال: “إذا خطب احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم”[27].

وكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يستعمل المبلغ في الحالة التي لا يمكن لحديثه أن يبلغ فيها السامع من كثرة الجمع أو من شط المساحة، كما حدث في حجة الوداع. ويكون كلامه في مثل هذه الحالات مصحوبا بالإشارات اللطيفة التي تحمل المخاطبين على تتبعها وتتبع المعاني التي تتجاذبها، فتزيدها وضوحا وجلاء، وتكسبها إجلالا وقبولا وتثبيتا.

وارتفاع صوت النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يفهم منه وجود الصخب، بل كان صوتا له إيقاع حسن، تحبه النفوس، وتدركه الأسماع. وتصف أم معبد إيقاع صوته صلى الله عليه وسلم، وقد كان جهير الصوت حلو النبرة، فتقول: “في صوته صحل، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلم علاه البهاء. أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هدر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن”[28].

ويبدو من وصف أم معبد أن السامع يَنْشَدُّ إلى كلام الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويتعلق بمضمونه، وهو الكلام عذب الأسلوب حلو المنطق، يأخذ بالقلوب ويجذب العقول، وهذا من سر فصاحته، صلى الله عليه وسلم، التي جمعت بين صفاء المعنى وسحر البيان، فكان كلامه من جوامع الكلم، يعده العاد في أسرع ما يمكن من الوقت؛ لأنه ليس بالهذر ولا بالممل ولا بالهزل، بل هو الكلام الجميل الذي استمد خصائصه من كلام الله الذي هو القول الفصل، فكان هديه فيه أكمل الهدي.

من أجل ذلك كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، ناجحا في تواصله الفعال بين كل الفئات في مجتمعه وخارج مجتمعه، محققا لأهداف رسالته الخالدة عند كل البشر على اختلاف أجناسهم وعقائدهم وأعرافهم، وعلى تنوع أنماط سلوكهم وأعمارهم وأقدارهم. وقد أثبت بمنهجه القويم بأن التواصل اللغوي على تعدد أشكاله، هو طريق ناجع من طرق الدعوة إلى الله، وهو ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية، بحيث لا يمكن تصور حياة بشرية بدون تواصل.

الهوامش

1. كتاب الخصائص لابن جني، 1/33.

2.الحديث أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الاستئذان والآداب عن رسول الله، باب ما جاء في المصافحة.

3.الحديث رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.

4.الحديث رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم الراكب على الماشي.

5.الحديث رواه البخاري في كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب.

6.الحديث رواه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة، باب الكلام والإمام يخطب.

7.الحديث رواه الترمذي في الشمائل، باب صفته صلى الله عليه وسلم.

8.مه اسم فعل أمر معناه أكفف.

9.أدنه فعل أمر من الدنو، وهو القرب، والهاء فيه للسكت جيء بها لبيان الحركة.

10.الحديث رواه أحمد في مسنده: 5/256، والطبراني في المعجم الكبير: 8/162 و183، رقم: 7679 و7759.

11.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله.

12.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم.

13.رواه أحمد في مسنده، في كتاب باقي مسند المكثرين، باب مسند أنس بن مالك، رقم: 12258.

14.أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: 9/15، باب في حسن خلقه وحيائه وحسن معاشرته.

15.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي إلى الإسلام.

16.رواه الترمذي في سننه، في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله.

17.رواه الطبراني في المعجم الكبير: 22/156، رقم: 414.

18.رواه مسلم في صحيحه، في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء.

19.رواه الترمذي في سننه، في كتاب البر والصلة عن رسول الله، باب ما جاء في صنائع المعروف.

20.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.

21.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الطلاق، باب اللعان.

22.رواه الطبراني في المعجم الكبير: 22/156، رقم: 414.

23.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الاستئذان، باب الأخذ باليمين.

24.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الرقائق، باب كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.

25.شرح صحيح مسلم للنووي: 8/166، وفتح الباري لابن حجر: 3/485.

26.رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر.

27.رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.

28.رواه الحاكم في مستدركه، في كتاب الهجرة، رقم: 4274.

Science
الوسوم

د. عبد الهادي دحاني

أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب/الجديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق